((أوراق من الذاكرة عن المختارية في بغداد العزيزة، وهل كانت وجاهة أم ثراء منشود، نتمنى عودتها كأيام زمان))
تسحرني الذكريات بتراثها وتحلق بي في سماء بغداد، بغداد الرشيد و المأمون ، بغداد ابو جعفر المنصور، بغداد منذ تأسيسها أخذت بكل الأسباب والمعطيات، التي جعلت منها مدينة لا تتكرر في التأريخ..
بغداد أرض الفن و العلم و قبلة العلماء والمجالس والشعراء والجدل والفلسفة والنحو والفقه، بغداد والتصوف والزهد، بغداد والحركات الفكرية المتصارعة والمبدعة على ساحتها...
بغداد ألف ليلة وليلة، بغداد وحكايات شهرزاد وشهريار، بغداد وليلايها الخلابة بنهرها الخالد دجلة وعيون المها بكرخها ورصافتها، بغداد وحكيات السندباد،بغداد والصعاليك والمختارين والحرفيين والوراقيين والظرفاء، نبع فائض من تداخل ومتجانس ومتنافر، ليست بغداد التي غدت اليوم قبلة المآسي و الحزن لما يحصل لها ، بغداد التي غدت اليوم مثل قبرٍ جماعي للعلم و الإنسان والجمال، ليتَ الزمان يُرمم ما فيها ..ويدحض من أساء لها ويقضي على من يعبث بها لتعود كما كانت بغداد الأزدهار، الأ أنها في النهاية بغداد.
من الجوانب المهمة في البحوث التاريخية والاجتماعية الحديثة الاهتمام بموضوعات تراثية عن الوظائف الاجتماعية الخدماتية والأنسانية الفاعلة ودورها في تطور الاحداث وتفاصيلها، وفي السنوات الاخيرة، اخذت البحوث الاهتمام بواقع تلك الوظائف المكونة لمجتمع اية مدينة او منطقة وفي محاولة جديرة بالاهتمام لبيان ما حمله التأريخ لنا، ولعل مناطق بغداد اكثر المناطق الاجتماعية تأثراً بالواقع الاسري والأجتماعي وما خلقته مكوناتها الوظيفية ودورها في الاحداث، وسنستعرض في هذا المقال شيئاً عن المختارية كيف وجدت وكيف كان دورها الأجتماعي بصورة توثيقية مبسطة وقابلة للمزيد لمن يريد أن يسهم بتطوير معانيها وسبل الأرتقاء بها.
في سنة 1835 وفي زمن الوالي العثماني علي رضا جرى انتخاب المختارين لمحلات بغداد فصار لكل محلة مختار أول وثاني من العينة مع إمام يقوم بشؤون الزواج وتصريف الحياة الأدارية وتسهيل سبلها...
كما أصدر الوالي فرمانا بالاتفاق مع المختارين على تعيين الحارس الليلي( الجرخجي)، كانت مواصفات المختار في بداياتها تكتسب دوره السباق إلى الخدمة العامة، وتجعله المساهم في قضايا العدل والصلح بين الناس، كان الولاة العثمانيين يختارون عينة معروفة لاشغال وظيفة المختار وبتأمين مناخ أفضل لعمله، وذلك لأنه الإنسان الذي يتمتع بمناقبية وإخلاص وقد أثبتت ذلك مهنيته المناطة به، كان دور مختار المحلة أي المسئول الشعبي عن المحلة وحلقة الوصل بين أهل المحلة والنقيب أمام الإدارة العثمانية لأجل إنجاز مهمات يكلف بها من قبل هذه الأطراف كحل المشاكل في المحلة أو الطرف(العكد) لقاء هدايا عينية وتقديم الشكر له لمواقفه المفيدة، لم يكن المختار متفرغاً لهذا العمل بصورة تامة وكان يطلق عليه بأنف المحلة الحساس، هي كانت حضوة، فالمخترة كانت نوعا من الوجاهة الاجتماعية والمكانة المرموقة لكثرة ما حمل المختار من صفات كأن يكون شهما جوادا يسمع للجميع ويستمع اليه الجميع، ذو شخصية قوية اذا امر يطاع واذا وعد أوفى ولو كلفه ذلك الكثير من امواله الخاصة، كان بيت المختار مضافة ومقصدا للضيوف والوفود الرسمية والشعبية وعابري السبيل ورجال الشرطة الذين كانوا لا يدخلون اي بيت اذا لم يكن المختار معهم وهوأول من يطرق أبواب المنازل، وأول من يتعرض للأذى في حال وجود مشكلة ما داخل المنزل، كما كان عليه أستضافة ممثلي الحكومة.
أما في القرى القريبة من بغداد فهو كان يستضيف القادمين الى القرية ويقدم لهم الضيافة ويؤمن المبيت لهم اذا قضت الحاجة، كما انه المسؤول عن مقابلة اصحاب الشأن لشرح متطلبات البلدة وسكانها، فكان صلة الوصل بين الدولة والاهالي وقد اجمعت آراء العديد من كبار السن الذين عايشوا اكثر من مختار خلال مدة حياتهم، ان معظم المخاتير كانوا من كبار السن علما أن القانون يخول من أتم 25 من العمر الترشح للمخترة، اضافة الى أن أغلب المخاتير في بداية القرن العشرين وبعد أنشاء الدولة العراقية،كانوا يتمتعون بمستويات اقتصادية جيدة وخاصة فيما يتعلق بملكية الاراضي التي من شأنها ان تؤمن لهم دخلا جيدا يمكنهم من القيام بالمهام والواجبات التي جرى العرف عليها، أساس الحكم الصالح، فكأنهم نواة لامركزية تسهّل معاملات المواطنين وتعفيهم من مشقة التنقل لإنهائها وتحقق التنمية المستدامة، بل أكثر من ذلك، فإن دور المختار يتعدّى العمل الخدماتي وصولاً إلى العمل الإنساني الاجتماعي حيث يضطلع في كثير من الأحيان بالتحكيم بين أبناء البلدة وفق أصول العلاقات الاجتماعية والأخلاقية الموروثة، كلنا يتذكر بل وشاهد مسرحية ميس الريم وأغنية فيروز يا مختار المخاتير وكيف كان دوره في أصلاح الشأن لعائلتين متنازعتين، وبهذا المعنى فهو رائد بين أهله وقومه يخفف من وطأة التدخل الإداري والقضائي في تفاصيل الحياة اليومية.
كانت شخصية المختار وما زالت خيطا مميزا من خيوط النسيج الاجتماعي، وايام زمان كان المختار الوجه المعروف والعين الساهرة على مصالح أبناء البلدة فهو الأكثر معرفة بتفاصيل المكان وسكانه واحوالهم وهو المعروف من قبل الصغير والكبير، فكان بيته بيت المختار وابنه ابن المختار، حتى جاره كان يعرف بجار المختار الذي يمثل مرجع البلدة الوحيد وملاذ أهلها دون استثناء،
كذلك كان الوجيه الاول في كل المناسبات بما فيها الزواج وفض النزاعات واقامة المصالحات.. يساعد ويطعم الجوعان ويساهم في دفع الكفالات لمن يلزم، وكل ذلك من حر ماله في سبيل ان يحافظ على الوجاهة وعلى هيبة التسمية.. فلقد كان المختار يقوم بكل ذلك ويجهد لاسعاد أبناء بلدته، لا أن يأخذ ثمنا لأتعابه و ( طبعة ختمه ) كما تفعل مخاتير هذه الايام، حيث اتخذها البعض منهم مصدرا للثراء على حساب حاجات الناس ومتطلبات حياتهم.
وبعد نشوء الدولة العراقية وبدء التوسع في البناء وتعبيد وشق الطرق وأزدياد عدد النفوس واكبتها أنشاء محلات جديدة مما حدى بأمانة العاصمة بتعين عدد من المختارين غير المتفرغين وحسب طبيعة المحلة منهم الحلاق أو صاحب قهوة أوبقال،فازدهر دور مختار المحلة الذي (تعينه السلطة الرسمية) من بين أهالي المحلة وبموافقتهم، والمختار شخص مسؤول عن النظام في محلته وهو صديق لأهلها، فهو الذي يوصي على سبيل المثال بإعطاء جواز السفر ويؤيد عريضة طلب تعيين في دوائر الحكومة، والأرث والزواج ودرجة الفقر، وله طمغة (ختم) مختص به عليه أسمه ومحلته ويحمله مع الأستمبة(المحبرة).
حيث ورد ذكر اسم المختار تتداعى في المخيلة مجموعة من الصور.
المحلات الشعبية بازقتها الضيقة الملتوية، واناسها البسطاء طيبي القلوب، والحياة اليومية التي يتشابه امسها ويومها وغدها.. وعرائض الشكوى.. ومخالف المعاملات الرسمية التي لابد ان تمر من بين يدي ذلك الرجل.. او بالاحرى لابد ان تحظى بـ(ختم..المختار)..اذاً هو:(شخصية شعبية تراثية).. لها في المحلة وزن كبير فبدونها لا نستطيع الحصول على اي تأييد رسمي في معاملاتنا،وحين نحتاج اليه فلابد ان نبحث عنه في كل مكان، فقد نجده في المقهى المعتاد.. او عند صديقه حلاق المحلة،او جالسا عند فلان العطار، وقد يكون في بيته.
مختار المحلة / المتحف البغدادي
والتوقيع او وضع (الختم)على العريضة بسيط جدا، وبسيط ايضا كان الاجر الزهيد الذي لابد من دفعه للرجل، وان لم يطالب هوية على اية حال. لكن الزمن غيّر ملامح الاشياء ومد يد التغيير الى مختارية هذا الزمان، فقد اختلف هذا الرجل عن (مختارية)ايام زمان الذين كانوا يعرفون ابناء محلاتهم رجلا رجلا،وامرأة امرأة وبيوتهم مضائف كرم ورعاية لكل الناس. والشئ الذي لم يغيره الزمن هو (ختم المختار) فقد بقي كما يبدو شيئا لابد منه، بقي تراثا بين التراث.. وحاجة رسمية لا تستغني عنها المعاملات ولا يستغني عنها المتعاملون.
كما هو معروف أن وظيفة المختار حددت بلائحة تشريعية في عام 1931، وفي عام 1938 كان التعديل السابع لنظام المختارية، وفي قانون المحافظات رقم 159 لسنة 1969 ثبتت وظيفة المختار والزم القانون ذاك المؤسسات المعينة بتحديد راتب المختار ووضع النظام الذي يرسم مهماته.. حيث نصت الفقرة الثانية من المادة السابعة على مايأتي د القانون رقم 215 لعام 1956 بان يكون المختار احد ممثلي السلطة على مستوى الوحدات الادارية الصغرى بحيث تمتد مهامه لتشمل القرى والاحياء في المدن كما نصت المادة 69 على أن يتم انتقاء المخاتير عن طريق الانتخاب، الا أن القوانين اللاحقة وتعديلاتها اجازت تعيين المختار على أن تتوفر في المرشح لشغل منصب المختار عدة شروط منها، أن يكون مقيدا في السجلات المدنية للمحلة أو القرية منذ اكثر من ستة اشهر وان يكون مقيما فيها تلك المدة، أن يكون عراقياً، كما يجب ان يكون مسجلا في جداول الناخبين ويكون سليما من العاهات الدائمة التي تمنعه من القيام بالمهام الملقاة على عاتقه ويكون قد اتم الخامسة والعشرين من العمر ومتمتعا بكامل حقوقه وغير محكوم بجناية او بجرم شائن، غير موظف،أن لايكون دلالاً، كما يشترط أن يؤدي المخاتير اليمين القانونية قبل مباشرة مهامهم وحددت مدة خدمته بثلاث سنوات.
ابت وظيفة المختار بالجمود ويقال بانها عادت منذ فترة قصيرة. في ضوء توفر هذه الشروط تحدد التعليمات مهام المختار بتنظيم بيانات الوراثة والزواج وفقر المواطن ان كان المواطن فقيرا، كذلك حالات المشاكل الزوجية ومشاكل النفوس وقضايا التملك للعقار. وفي مدينة بغداد فقط كان هناك (360) مختارا وكانوا يعملون باشراف امانة العاصمة لتنظيم سير معاملات ابناء احيائهم الشعبية بعد ان يتم ترشيح المختار على اساس انحداره من عائلة معروفة في المحلة وتمتعه بسمعة طيبة
اما بالنسبة للاجور التي يتقاضاها المختار فهي تتفاوت بين واحد وآخر كذلك يتفاوت امرها بين الاعتدال والجشع احيانا وان اكثر الشكاوى في بعض الحالات مبالغ فيها فهي تتبع حالات الجهد المبذول. وقد تتطلب معاملة ان يذهب المختار الى مكان بعيد.. وهذه الحالة تختلف عن توقيع معاملة بسيطة لا تستوجب اي اجرعليها. وهناك بعض المختارين لا عمل آخر لديهم ويعيشون فقط على الاجور التي يتقاضونها من المواطنين والبعض الاخر لديهم محلات او اعمال يمتهنوها ويعيشون فيها. الا ان النية في الوقت الحاضر اتجهت لكي تلعب مجالس الشعب بعد اقرار نظامها الدور الذي عجز عنه المختار. بعد ان تغيرت الدنيا عما كان عليه ايام زمان، وتغيرت علائق الناس وتغيرت مهام المراجع التي يراجعها المواطن ومن المختار.
لنستعرض بعض بيوتات من حمل صفة المختار في بعض من مناطق بغداد:
*- في الكرخ: بيت ال المختار ،بيت أسماعيل لطيف السامرائي، بيت عبد الرحمن الدوري، بيت خضير السامرائي، بيت عبد الرزاق البراك..
*- في الأعظمية: بيت حلومي المختار، بيت عبود النعمان، بيت زبالة، بيت شكر صالح الطعمة، بيت محمود السامرائي، بيت نعمة..
*- الكاظمية: بيت الحاج عزيز الزبيدي، بيت زيني، بيت علوان غالية، بيت جاسم البزركان، بيت عبد الدائم ، بيت الهوير، بيت الباير، بيت الأنباري، بيت عبد الرزاق المختار..
*- في الفضل: بيت اليد سلمان الهاشمي والد رؤساء الوزارة العراقية ياسين وطه..
*- في باب الشيخ: بيت محمد سعيد عبد الرزاق غلام، بيت الشيخلي، بيت هادي المختار، بيت صالح أبراهيم موسى..
*- كمب الأرمن: بيت أبراهيم آرتين، بيت خدرو، بيت أبو ضياء، بيت دريادوش..
*- في الكرادة: بيت محمد خالد الكرمي، بيت شفيق الكرمي، بيت علي بيرم، بيت محمد الربيعي، بيت أبو قلام، بيت كاظم المختار..
كان اليهود يسكنون محلات بغداد جنباً الى جنب إخوانهم المسلمين والمسيحيين ومنهم عدد كبير من مختاري المحلات منهم بيت لاوي وبيت نعيم وبيت موشي في البتاويين، بل وحتى الأشقيائية .
في كل محلة كان هناك مختار وكل مشكله كانت تحدث كانت تنحل في دار المختار، الايام تغيرت كثيراً وصار في كل بيت مختار وكل مختار يحتاج لحكيم يعلمه عن ايام المخترة وحل المشاكل في كل دار ودار .
زماننا زمان المختره والعنجهيه والوجهنه والأخلاص والتفاني وليس اكثر، نحتاج الى عمل الى الاخلاص، نحتاج الى التضحيه والعطاء، نحتاج الى أناس تصلح ذات البين وترفض الدسائس والفرقة والتناحر.
وعلى هذا الأساس نرى انه لو عدنا لايام المختره الحقيقيه لأيام زمان لكان وضعنا احسن مما هو عليه الآن، ومن الله التوفيق.
سرور ميرزا محمود
1010 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع