الحياة حكايات ... خرند أو وادي الموت
أثناء تصفحي لمحتويات مجلة سفيل العدد 273 وتاريخ 18 نيسان 2015 والتي تصدر في محافظة أربيل عاصمة اقليم كردستان العراق , وقع نظري على مقال جذب انتباهي بعنوان ( خرند راوندوز وادي موت الجيش الروسي )
والخرند تسمية لوادي جبلي عميق يقع في اسفل مدينة راوندوز وفي موقع وسط بين المدينة المذكورة وجبل هندرين, ذكرني هذا المقال بما يتداوله الناس في المنطقة عن هذا الوادي والمسمى (وادي الموت) لكثرة حوادث الانتحار التي تحصل فيه .
منظر عام لمدينة راوندوز والذي يقع بين شقين جبليين الأول على يمين الصورة هو بداية كَلي علي بكَ , والثاني على يسار الصورة هو وادي خرند أو وادي الموت وفي مؤخرة الصورة من الجهة العليا نشاهد جبل كورك وهو مغطى بالثلوج وفي أسفل الصورة قرية كاولوك
- ابدء السرد في مقالتي هذه بقضية قريبي ( فريق كانبي) والذي كان من مواليد عام 1957 , وطالبا في المرحلة الاعدادية , كان ذكيا وخلوقاً ويتردد علينا بحكم علاقة القرابة بين عائلتينا , وفي يوم 7 نيسان 1982 عدت من دائرتي بعد انتهاء الدوام وكانت الساعة تشير الى الساعة الثالثة بعد الظهر, وفور دخولي المنزل ناولني ابني (ديار) رسالة وذكر لي حضور قريبنا ( فريق) صباح هذا اليوم الى منزلنا , وطلب تسليم هذه الرسالة لي , عند فتحي لمظروف الرسالة وقراءتها انتابتني الدهشة والقلق والخوف على مصير محررها , استفسرت من عائلتي عن وقت حضور المذكور الى منزلنا فكان الجواب (بأنه حضر في الساعة العاشرة من صباح هذا اليوم) وكانت الرسالة أو بالأحرى الوصية مكتوبة باللغة الكردية والعربية والانكليزية , وفحواها :
راوندوز - وادي خرند ( وادي الموت )
الأخ محي الدين محمد المحترم
بعد السلام :
يئست من هذه الحياة التي لا تساوي شيئاً والاستمرار فيها وتحمل متاعبها هو ضرب من الجنون لست مجبرا على تحملها لذلك قررت وضع حد لهذه الحياة , ومن أجل ذلك أنا ذاهب إلى راوندوز لألقي بنفسي في وادي خرند..
وختم وصيته ببيتين من شعر عمر الخيام والمترجم من قبل الشاعر المصري أحمد رامي والمغناة من قبل كوكب الشرق أم كلثوم:
لبست ثوب العيش لم استشر وحرت فيه بين شتى الفكر
وسوف أنضو الثوب عني ولم أدرك لماذا جئت أين المفر
اتصلت على الفور بضابط مركز شرطة قضاء راوندوز مستفسرا منه عن الحالة الأمنية للقضاء وواقع الحوادث لهذا اليوم دون الاستفسار منه مباشرة عما كان يشغل بالي ومحاولاً استبعاد فكرة تنفيذ ( فريق ) لقراره بالانتحار.
أجابني ضابط المركز : ((سيدي لا شيء هذا اليوم سوى حادث انتحار شاب يدعى فريق كانبي , في تمام الساعة الواحدة ظهرا في وادي خرند ))
فريق كانبي
إذن لقد نفذ ما نوى عليه و انهى علاقته بالحياة والتي كان يشكو دائماً جورها وظلمها والخلل في المستوى الاجتماعي والاقتصادي بين الناس ومردها الاستغلال والفساد وغياب العدالة والمساواة , وهنا اختم حديثي عن ( فريق كانبي ) بنشر صورته مع صورة كرت معايدة كان قد أرسله لي بمناسبة العيد تحمل صورة الفنان والمطرب ( فريد الأطرش) وسطر خلفه كلمات جميلة كتبها بخط يده وهي :
الماء يجري ............. والرمل يبقى.
الانسان يموت ............ والذكرى تبقى
اهدي هذه الصورة للفنان الراحل – F –
الى قريبي المحب الأخ محي الدين محمد المحترم
أخوك: فريق كانبي 3/2/1979
صورة كرت معايدة عليه صورة فريد الأطرش وكتابة بخط فريق كانبي
والآن لنعود إلى أصل الحديث عن وادي خرند ولماذا سمي بوادي الموت , وبالرجوع إلى ما ورد في مجلة سفيل فالمصادر التاريخية تذكر بأنه في عام 1916 وفي خضم الحرب العالمية الاولى تقدمت القوات الروسية من محور حدود حاج عمران واجتازت مناطق جومان وگلاله إلى ان وصلت إلى حوض مدينة راوندوز وجوبهت هذه القوات بمقاومة شرسة من قبل أهالي المنطقة إلا أن فوارق العدد والتسليح والإعداد بين الطرفين مكنت القوات الروسية مساء يوم 9/5/1916 من اتمام احتلالها لقرية برزيوه ومنبع ماء جنديان وسفوح جبل هندرين.
منبع ماء جنديان
جبل هندرين ويظهر في أسفل الصورة وادي خرند أو وادي الموت
اقتصرت تشكيلات القوات الروسية على صنوف المشاة والخيالة والمدفعية لعدم توفر الآليات بكافة أنواعها في ذلك الوقت , وحتى في حال توفرها فإنه لم تكن الطرق متوفرة في هذه المنطقة.
في مساء أحد الأيام استعدت القوات الروسية المستقرة على سفوح جبل هندرين للهجوم على مدينة راوندوز وبدأت بالقصف المدفعي على المدينة وتصاعدت اعمدة الدخان منها, وبحلول الظلام بدأ الهجوم وبحكم جهل الجيش الروسي بطبيعة المنطقة والتضاريس فيها قتل ما يقارب (670 جنديا) في هذا الهجوم من المشاة والخيالة الروس أغلبهم بسبب السقوط في هذا الوادي العميق والذي سمي في ذلك الحين وادي الموت , وكان للجنود القوقاز نصيب وافر بين أعداد القتلى .
بعد الاندحار في هذه المعركة قامت القوات الروسية بتجميع وتنظيم صفوفها مرة أخرى والهجوم على المدينة من عدة محاور , وبسبب عدم التوازن في العدة والعدد بين الطرفين استطاعت القوات الروسية أخيرا من احتلال المدينة وقيامها بقتل مواطنيها دون تحديد بالإضافة إلى اعمال السلب والنهب وحرق الدور والمخازن طيلة وجودهم في المدينة, وبعد انسحابهم منها بفترة قصيرة.
استمر نعت وادي خرند بوادي الموت وبقيت التسمية حية بسبب استمرار الأحياء بإلقاء أنفسهم فيه ليومنا هذا , حيث يندر مرور سنة دون وقوع حادث انتحار.
مدينة راوندوز
ومن الحوادث الأخيرة في السنوات القريبة , قام المنتحر (هـ . ج ) بتاريخ 22/2/2011 , وهو يقود سيارته ومعه الأشخاص ( أ . ح ) و ( س. ع ) و ( ن. ع) وعند وصوله محاذاة وادي خرند أدار مقود السيارة باتجاه الوادي فسقطت السيارة ومن فيها في الوادي لانه أبى أن يموت لوحده .
وبتاريخ 22/2/2014 قدم المواطن ( هـ . غ ) من قضاء جومان إلى قضاء راوندوز وعند وصوله إلى القضاء المذكور أوقف سيارته بالقرب من حافة وادي خرند , وأقفل أبوابها وبعد وضع مفاتيح التشغيل في مكان معلوم بالقرب من السيارة اتصل بشقيقه وبدم بارد يخبره بأنه سيلقي بنفسه في وادي خرند , وطلب منه ابلاغ سلامه وتحياته إلى جميع الأهل والأقارب , ورغم صراخ شقيقه وتوسله منه في عدم الإقدام على هذا العمل إلا أنه وضع الهاتف النقال بجانب مفتاح تشغيل السيارة وألقى بنفسه في عمق وادي خرند.
حسب معلوماتي وما مسجل في سجلات شرطة المنطقة تعتبر الحادثة المذكورة أخر حادث انتحار يقع في وادي خرند ونأمل أن تكون كذلك , حيث لم تسجل أي حالة خلال ما مضى من عام 2015..
750 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع