دبكة… ودبيكة… وطبّال: قراءة في الكوميديا السياسية العراقية

ذو النورين ناصري زاده

دبكة… ودبيكة… وطبّال: قراءة في الكوميديا السياسية العراقية

حين تتشابه المشاهد السياسية في كل دورةٍ انتخابية، وحين تُعاد الوجوه ذاتها بأزياء مغايرة، يصبح المشهد السياسي في العراق أقرب إلى عرضٍ مسرحيٍّ متواصلٍ من “الكوميديا السوداء”.
حيث تتقدّم الخطابات على الخطط، وتعلو أصوات الطبول على أصوات العقل، حتى يغدو الوطن نفسه خشبة مسرحٍ يختلط فيها الهزل بالجدّ، والحلم بالضجيج، والمصالح بالأغاني الوطنية.
إنه عرضٌ يتكرّر كل كذا عام تحت عنوانٍ واحد: “دبكة… دبيكة… وطبّال”.
رقصة جماعية تُخفي تحت وقع إيقاعها المرِح صدى أزماتٍ لا تنتهي.
وفي هذا الوطن العجيب، لا تُقاس السياسة بعدد الإنجازات، بل بعدد المنصّات.
ولا تُعرّف الدولة بمدى هيبتها، بل بمدى صخب مكبّرات الصوت في مواسم الانتخابات.
في العراق، لا يبدأ الموسم الانتخابي بإعلان البرامج أو مناقشة الخطط، بل بإيقاع الطبول ورقص الكلمات على المسرح، وكأن السياسة عرسٌ جماعي لا ينتهي.
يتقدّم الممثلون واحدًا تلو الآخر، كلٌّ يعتلي المنصّة كما يعتلي الراقصُ حلقة الدبكة، في مشهدٍ يختلط فيه الجدّ بالهزل، والوطن بالاستعراض، والحلم بالوهم.
“دبكة… دبيكة… وطبّال” — ليست لازمة أغنية شعبية، بل انها الشيفرة السرّية للمشهد السياسي العراقي منذ سنوات.
كل مؤتمر دبكة، وكل شعار دبكة أخرى، وكل وعدٍ طبلةٌ تُقرع على رؤوس الناس.
حتى الكلمات باتت تتمايل على إيقاعٍ واحد: وعودٌ فضفاضة، شعاراتٌ متعبة، ووجوهٌ تتقن الابتسام كما يتقن المهرّج فنّ البكاء خلف الكواليس.
المرشّح يلوّح بيده وكأنه يُبارك خلاص الشعب من البؤس، بينما هو يلوّح في الحقيقة ببطاقة عبوره نحو السلطة.
الناس تصفّق، لا لأنهم صدّقوا، بل لأنهم تعبوا من عدم التصفيق.
لقد صار التصفيق في العراق عادةً سياسية… مثل الكهرباء المقطوعة، ومثل الأسعار الصاعدة، لا مفرّ منهما إلا بالصبر أو السخرية.
الطبّال هنا ليس مجرد شخصية رمزية، بل هو روح اللعبة:
هو من يضبط الإيقاع كي لا يختلّ المشهد، هو الذي يُبقي الجمهور في حالة من النشوة الصوتية، حتى لا ينتبهوا أن المسرح بلا مضمون.
في كل حملةٍ جديدة، يبدّل السياسي جلده كما يبدّل الطبال جلده على الطبل، لكن الصوت ذاته يظلّ يتردّد في الآذان: الإصلاح قادم! المستقبل مشرق! نحن أبناء الوطن!
عبارات محفوظة تُقال بإتقانٍ ممثلٍ مسرحيٍّ حفظ دوره في مسرحيةٍ لا تتغيّر.
الميدان الانتخابي اليوم أشبه بسيركٍ كبير؛
الخيول هي الجماهير المرهقة، والمهرّجون هم الساسة الذين يوزّعون الوعود كما تُوزّع البالونات في المهرجانات.
كل حزبٍ لديه فرقته الموسيقية، وكل زعيمٍ لديه طبّاله الخاص، يقرع باسمه حين يحين الإيقاع.
حتى الفوضى في هذا السيرك لها منسّقٌ إعلامي، والخراب له ناطقٌ رسميٌّ يبرّره كل مساء.
ووسط هذا الضجيج، يبحث المواطن عن صوته كما يبحث الراقص في الدبكة عن موطئ قدمٍ لا يُزاحم عليه أحد.
لكنه حين يجد المكان، يكتشف أن الإيقاع لا يترك له فرصة للتفكير؛ فكل خطوة محسوبة، وكل حركة مضبوطة على نغمة واحدة: إعادة تدوير الأمل!
وعندما تنتهي الدبكة، وتنطفئ الأضواء، ويغادر القوم منصّاتهم، يعود كل شيء إلى ما كان عليه:
الطرقات ذاتها، الغبار ذاته، وانقطاع الكهرباء ذاته.
كأن البلاد لم تكن تنتخب، بل كانت تؤدّي رقصة موسمية من أجل نسيان مرارة الواقع.
الفرق الوحيد أن الوجوه تغيّرت في الصور، لكن الأيدي التي تقرع الطبول ما زالت هي ذاتها.
وهكذا تمضي اللعبة…
من موسمٍ إلى آخر، ومن دبكةٍ إلى أخرى، في وطنٍ صار يدور حول نفسه بإيقاعٍ لا يعرف السكون.
إنها ليست ديمقراطية، بل كرنفال من الأصوات واليافطات والموسيقى العالية، تتقدّم فيه الشعارات على الحقائق، ويُصفّق فيه الشعب لمشهدٍ يعرف نهايته مسبقًا.
وفي النهاية، يبقى العراق الجميل مثل خشبة مسرحٍ عتيقة:
تهتزّ تحت وقع الخطابات، لكنها لا تنهار.
تصغي للطبّال في كل موسم، ثم تصمت كما تصمت المدن العريقة حين تعرف أن الضجيج لا يُنتج موسيقى.
فيا ساسة الدبكات، ويا حَمَلة الطبول…
كفى دورانًا حول أنفسكم، فالرقص على جراح الوطن ليس بطولة،
والأوطان لا تُبنى بإيقاع الطبل، بل بصوت الضمير.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الساعة حسب توقيت مدينة بغداد

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

805 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع