د. سعد ناجي جواد
هل ستوقف خطة الرئيس ترامب الحرب ومعاناة اهل غزة؟ وماهي الارتدادات المتوقعة؟
في البداية وبصورة مباشرة وواضحة اسمح لنفسي ان اقول: واهم من يعتقد ان خطة الرئيس ترامب الهشة ستنهي المشكلة في غزة او في داخل الأراضي المحتلة، او تمنع إرتداداتها في المنطقة او العالم. سبق وان كتبت في هذه الصحيفة، وكتب غيري ايضا، انه مهما كانت الطريقة التي ستنتهي بها عملية طوفان الأقصى الجبارة فانها قلبت وستقلب المنطقة وكل من تعاون مع اسرائيل راساً على عقب. من يحاول اليوم ان يفرض على غزة إستسلام بصيغة خطة سلام مهلهلة فشلت إسرائيل بكل جبروتها والدعم الامريكي والغربي معها ان تحصل عليه، سيكتشف انه يلعب بالنار، وان لا سلام بدون الإعتراف بدولة فلسطينية. وستبقى الحقيقة تقول ان اسرائيل، ولاول مرة في تاريخيها وبعد حرب ضروس استمرت لسنتين فشلت في ان تثبت بانها قوة لا تقهر، او في تحقيق إنتصار عسكري كانت تحققه على جيوش عربية خلال أيام، وفشلت في قهر حركات مقاومة شعبية مسلحة بالاصرار والإرادة. كل هذه الحقائق يجب ان تاخذ بالحسبان عند الحديث عن إنتصار لدولة الإحتلال.
من الحقائق الثابتة في التاريخ ان نتائج وآثار المذابح والتهجير والتجويع والقتل العشوائي وإنكار حقوق شعب ما لا تظهر مباشرة، وان ارتداداتها ونتائجها وإنعكاساتها قد تأخذ بعض الوقت لكي تتوضح، خاصة إذا كانت الحلول المقترحة تصر على تجاهل اصل المشكلة. لا اريد ان ادخل في تفاصيل اكثر، واترك للايام ان تثبت صحة توقعي او قراءتي للتاريخ، ولكني استطيع ان اؤكد ان الشعب الفلسطيني لا يريد الاحتلال ويريد دولته الخاصة به وأثبت انه مستعد لتقديم الغالي والنفيس من اجل ذلك، بينما اعتقد الصهاينة ومنذ احتلالهم لفلسطين ان الشعب الفلسطيني سيرضخ وان الاجيال القادمة ستنسى شيء اسمه فلسطين، وهذا الامر لم يحدث، ليس فقط لان هذا الشعب متمسك بارضه وبحقوقه، بل ايضا لان الاحتلال حرص على تذكير الفلسطينيين بجرائمه بين الفينة والفينة، وأصر على زيادة جرعات القتل والتدمير والتهجير والحصار. واخيرا وبعد حرب ابادة استمرّت لمدة سنتين نجح الاحتلال في خلق جيل جديد سيكون اكثر اصرارا على المطالبة بحقوقه. واهم من يعتقد ان الطفل او المراهق او الشباب من الجنسين الذين رأوا كل عائلتهم تباد امام اعينهم ومساكنهم تهدم على ساكنيها ويُخضعون لعملية تجويع مميت وبدون رحمة، ومستشفياتهم ومدارسهم تدمر بشكل منهجي، سيكونون قادرين على النسيان والغفران بسهولة، او ان الطفل الذي اُخرِجَ من رحم امه التي استشهدت بنيران الاحتلال سينسى ذكراها واليتم القسري الذي اجبر على العيش فيه. لم يكن خافيا على احد ان الحرب قد تحولت من مواجهات مسلحة بين المقاومة وقوات الإحتلال الى عملية ممنهجة لقتل المدنيين الأبرياء من كل الفئات، وتجويع كل سكان غزة وتدمير أحيائهم السكنية بشكل مخطط له، وكل ذلك من أجل إجبارهم على إخلائها بالكامل والهجرة الى دول اخرى. وكان الرد الأولي لذلك هو الإصرار على التمسك بالأرض الذي تبعه عودة مئات الالاف من المهجرين إلى آثار وأطلال مساكنهم ونصبوا خياما فوقها وهم فرحون بعودتهم. ان شعب من هذه النوعية وهذا العيار لا يمكن ان يتخلى عن حقه.
عندما تم الإعلان عن وقف إطلاق النار انتابني، وغيري بالتأكيد، نوع من الفرحة ممزوجة بانكسار نفسي وقلق كبير مما هو قادم لعدة أسباب. الفرحة هو ان تشاهد الناس قد أمِنَت نوعا ما من القصف الجوي والبحري والآليات المفخخة وبدأت تعود لديارها، والانكسار كان عند مشاهدة الموجات البشرية الكبيرة التي إجتاحت مدن العالم الغربي بالذات في حين ظل الشعب العربي يغط في سبات اشبه بالموت السريري، والقلق من حقيقة ان الحل المرتقب سوف لن ينهي المشكلة لأنه لم يبنَ على اساس معالجة الجذر او السبب الأساسي للمشكلة، الا وهو الاعتراف بحق الفلسطينيين في الحصول على حقوقهم ودولتهم. أضف الى ذلك ان الإتفاق، الذي هو عبارة عن مبادئ عامة، لم يضع الآلية لحل المشكلة اولا، وثانيا، وهو الأخطر، انه منح إسرائيل الحق في العودة للحرب في أية لحظة تشعر فيها ان المقاومة (لم تلتزم بالإتفاق) او (تأخرت عن ال 72 ساعة التي يجب خلالها تسليم الاسرى الأحياء وجثامين القتلى). ومع عدم وجود ضمانات الخطة وضامنين لتطبيقها يبقى كل شيء معلقأ وإحتمالية العودة الإسرائيلية الى قتل الأبرياء واردة في كل لحظة، خاصة اذا ما تم إطلاق سراح الأسرى الأحياء وتخلص نتنياهو وحكومته المتطرفة من الضغط الداخلي. صحيح ان هذا الخيار لن يكون سهلا (بمعنى ان يعاود جيش الإحتلال عملية الإبادة الواسعة التي كان ينتهجها) وذلك لأن ذلك الجيش قد اصبح منهكا، وخير دليل هو الفرحة العارمة التي إجتاحت افراده عند الإعلان عن وقف اطلاق النار، وان مموليه، وخاصة الولايات المتحدة، اصبحوا عاجزين عن تلبية متطلباته، ولأن إسرائيل اصبحت منبوذة دوليا وخسرت اهم عنصر تمتعت به منذ قيامها، الا وهو الدعم الدولي، ولم يبق لها سوى الولايات المتحدة التي تعاني هي نفسها من عدم إستقرار داخلي وموجة شعبية متصاعدة مؤيدة لحقوق الشعب الفلسطيني. لكن المشكلة بعد توقف القتال تتمثل في عدم وجود من يدعم حقوق الفلسطينيين، الكل يريد ان تتوقف المقاومة امتثالا لأوامر الرئيس ترامب، في وقت تقف الولايات المتحدة بكل ثقلها الى جانب دولة الإحتلال، ووصل الامر ان يشارك ممثلي الرئيس ترامب، ستيف وتكوف وجاريد كوشنر، في إجتماعات الحكومة الإسرائيلية، وان يتعمد نتنياهو ان ينشر صورة الإجتماع وهما يجلسان على يمينه ويساره. هناك من قال ان وجودهما هو لغرض التأكد من ان نتنياهو لن يتراجع او يماطل (يلعب بذيله كما يقال)، ولكن ممارسات وتوجهات وانحياز الرجلين تبقى كافية لإشعار المقاومة بالقلق. وهذا الخطر سيزداد خاصة بعد ان فشل الرئيس الأمريكي في الحصول على جائزة نوبل للسلام، مما يعني بانه سوف لن يكون مهتما بإظهار نفسه صانعا للسلام وسيشجع نتنياهو على المضي قدما في عملياته العسكرية في قادم الأيام. لكن مهما حاول نتنياهو ان يظهر بمظهر المنتصر الا انه في داخله يبقى يشعر بالهزيمة والفشل. وانه اطال الحرب كل هذه المدة لاغراضه الشخصية وطموحاته السياسية، وعرقل كل اتفاق ممنيا نفسه بإجبار المقاومة على الاستسلام، وسيظل يفعل ذلك كلما سنحت له الفرصة، وهناك من لا يزال يؤيده داخل إسرائيل. اما المشكلة في الوطن العربي فستكون أكبر. إبتداءا بدأت الأصوات التي تتهم المقاومة بانها تسببت بكل ما جرى ثم رضيت بوقف الحرب بدون انتصار حاسم تتصاعد، وكأنما الوطن العربي والدول المجاورة لفلسطين كانوا يعيشون في سلام وأمن واطمئنان قبل عملية طوفان الاقصى، وان القتل اليومي للفلسطينيين ومصادرة أراضيهم واقتلاع أشجار بساتينهم وتدنيس محرماتهم وبصورة يومية لم تكن ممارسات عادية لقوات الاحتلال والمستوطنين. هذا التفكير الذي لا يمكن وصفه الا بكونه استسلامي (ولا اريد أن استعمل كلمة أقسى)، سيبقى وسيتكاثر خاصة بين اصحاب رؤوس الاموال والنخب الحاكمة برضى اميركا وإسرائيل والغرب. وبما ان هذه الطبقة هي التي تسيطر على الاعلام، وان الغالبية المسحوقة والمعدمة ليس لديها من يعبر عن آلامها في هذه الأيام إلا ما ندر، فسنظل نسمع هذه الاراء. ولكن الحال في الشرق الأوسط وفلسطين بالذات لم يعد تحركه آراء هؤلاء. فكما ذكرت في البداية ان الموجات البشرية، والمواقف الإنسانية للبرلمانيين وطلاب الجامعات العريقة وغيرها حول العالم هي التي تظهر حقيقة الموقف من الاحتلال، وهذه الموجة التي حركها طوفان الأقصى وصمود المقاومة هي من سيجعل عملية قيام الدولة الفلسطينية المستقلة ممكنة.
وتبقى الحقيقة الأخيرة تقول ان من اوصل العرب والقضية الفلسطينية الى هذا الحال هم العرب انفسهم الذين لم يقفوا في الفترة او اللحظة الحاسمة الى جانب حقوق الشعب الفلسطيني، وسكتوا على كل المجازر التي ارتكبت. وكذلك على اطراف المقاومة وإيران الذين لم يقفوا الموقف المطلوب من الأيام الأولى للطوفان، مما مكن إسرائيل ان تستفرد بهم الواحد تلو الأخر، وهو ما اعطى نتنياهو شعورا واهما بانه نجح في إنشاء شرق اوسط جديد.
الان المنطقة والعالم ينتظران نتائج ال 48 ساعة القادمة لكي يتأكد من حقيقة ان ما طُرِحَ هو مشروع للسلام او شعور زائف به سيتبخر خلال لحظات.
925 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع