كيف نستطيع اشباع الشبعان

بدري نوئيل يوسف

كيف نستطيع اشباع الشبعان

ربما نستطيع إشباع الفقراء، ولكن من يستطيع إشباع الأغنياء؟

في عالمٍ يفيض بالثروات كما تفيض البطون في مواسم الأعياد، تبرز معضلة عجيبة: الجائع يشبع، أما الشبعان فلا حدود لجوعه.
الفقراء غالبًا ما يحتاجون إلى الضروريات: الطعام، المأوى، الرعاية الصحية، والتعليم. هذه احتياجات يمكن تلبيتها بموارد محدودة نسبيًا. أما الأغنياء، فغالبًا ما تتحول احتياجاتهم إلى رغبات لا نهائية المزيد من المال، النفوذ، الممتلكات، التميز، وحتى الخلود الرمزي.
في عالمنا المعاصر، باتت الثروة تأخذ أبعاداً لم يعد من السهل تصورها. نسمع عن مليارات تُحصَد في دقائق، وعن رجال أعمال تتضاعف ثرواتهم وهم يتصفحون بريدهم الإلكتروني. ورغم كل التطورات التقنية والاقتصادية، ما زالت هناك مأساة اسمها الفقر يقال دائماً: ربما نستطيع إشباع الفقراء، ولكن من يستطيع إشباع الأغنياء؟
للفقراء احتياجات واضحة وبسيطة: طعام، سكن، علاج، فرصة عمل تحفظ لهم كرامتهم. لو توفرت الإرادة السياسية وموارد التوزيع العادل، لأمكن للعالم، إحصائياً، أن يقضي على الجوع بالكوكب بتكلفة تُعادل نسبة ضئيلة من إنفاق الأغنياء على مظاهر الترف سنوياً. التاريخ يقدّم أمثلة لدول خففت من الفقر بسياسات مدروسة، فشبع الفقير لا يحتاج معجزة، بل قليل من العدالة والرغبة في الإصلاح.
نعم، ربما نستطيع إشباع الفقراء — نطعمهم خبزًا، نكسيهم قماشًا، نعلّمهم حرفًا، ونمنحهم ما يضمن كرامةً ولقمةً وسقفًا. ولكن ماذا عن الأغنياء؟ تلك الكائنات الغريبة التي إن امتلكت العالم، رفعت حاجبها وقالت: وماذا بعد؟
دعونا نرسم المشهد كما هو:
الفقير يشتهي وجبة ساخنة. الغني يشتهي جزيرة خاصة على شكل بيتزا. الفقير يحلم بوظيفة بثلاثة أرقام. الغني يحلم بصاروخ بثلاثة ملايين. الفقير يفرح إذا اشترى هاتفًا مستعملًا. الغني يحزن إذا لم يصدر آيفون جديد كل أسبوعين. الفقر مشكلة يمكن حلها بمشروع، بمبادرة، بحسن نية. أما الغنى؟ فهنا تبدأ رحلة اللانهائية في الطمع، تلك الحكاية التي لا تنتهي إلا إذا توقف مؤشر الأسهم عن الصعود أو إذا ظهرت عملة مشفرة جديدة!
هل جربت أن تعطي فقيرًا قطعة خبز؟ يشكرك. هل جربت أن تعطي غنيًا قطعة أرض؟ يسألك: وأين البحر؟
في كل حملة خيرية، يسأل الناس: كيف نساعد الفقراء؟ ولكن قلّ من يسأل: كيف نوقف الأغنياء عن التهام الكوكب لقمةً لقمة؟ ليس الأمر حسدًا، بل دهشة. دهشة من ذاك النوع الذي يجعلك تتساءل: هل الأغنياء بشر مثلنا؟ أم أنهم مخلوقات فضائية تمتص الذهب بدل الهواء؟ ربما، لو خُيّر أحدهم بين شراء شركة أو تمويل مئة مدرسة لاختار الشركة، وأضاف المدارس إلى سلة الأمنيات المؤجلة.
والسؤال الذي لا نجرؤ على طرحه بصوت عالٍ: هل حقًا نعيش على نفس الكوكب؟
ربما نتمكن من إشباع جوع الفقير بمنحه خبزاً يمكّنه من الوقوف والعمل، أو منظومة تضمن له حد الكفاف. لكن جوع الأغنياء لا يرتبط بحاجة عضوية، بل هو عطش معنوي، مرض لا دواء له سوى بالعودة للإنسانية.
ولو تساءل العالم بصدق: لمصلحة من يبني اقتصاده ويضع سياساته؟ لأدرك أن إشباع الفقراء بداية العدالة، أما إشباع الأغنياء فهو مستحيل، لأن الطموح إذا انفلت من ضوابطه، أصبح جوعاً لا نهاية له!
سؤال عميق ومثير للتأمل الجوع عند الأغنياء ليس جسديًا بل رمزيًا: الجوع للسلطة، الجوع للتميز والانفراد، الجوع للربح والمنافسة، الجوع للسيطرة على السوق أو حتى على العالم.
هل تعتقد أن هذا الجوع يمكن تهذيبه؟ أم أنه جزء لا يتجزأ من الطبيعة البشرية في بعض السياقات؟ في النهاية، العادل من يعيد توزيع الطعام. أما الذي يحسب أن إشباع الأغنياء ممكن، فهو يطارد سراباً بلا نهاية، وهذا يقودنا إلى فكرة أن الطمع لا يشبع، بل يتغذى على نفسه. كما قال أحد المفكرين: الطمع مثل شرب ماء البحر، كلما شربت أكثر، ازددت عطشًا.
أما الأغنياء فحكايتهم مختلفة
الغني لا يجوع خبزاً، بل يظمأ نفوذاً ورقماً أكبر في رصيده. إذا حصل على قصر، تاقت نفسه لجزيرة؛ وإذا اشترى يختاً، بدأ يحلم بامتلاك فريق كرة قدم. في اقتصاد الاستهلاك، الرغبة لا تشبع، بل تتوالد؛ والطموحات تتكاثر كلما ازدادت الثروة. هناك فتنة اسمها المزيد لا يكفيها جبل من الماس، وكلما حصل على شيء تضاعفت شهوته للذي بعده.
لماذا لا يشبع الأغنياء؟
- لأن الغنى عند البعض ليس حداً يُرتجى، بل سباق أبدي مع الآخرين ومع الذات.
- الخوف من فقدان الثروة منغرس في القلب إلى درجة تجعل صاحب المليارات ينام قلقاً كما ينام الفقير على الأرض.
نهاية القول: الفقر عار على الإنسانية. أما الجشع؟ فهو لعنة على الكوكب.
لذا، إن أردت أن تُشبع فقيرًا، قدم له طعامًا. وإن أردت أن تُشبع غنيًا فالله يكون في عونك.
- القيم المجتمعية التي تمجد المال والثروة تجعل من جمعها فضيلة كبرى، حتى يُنسى الغرض منها لصالح التكديس.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الساعة حسب توقيت مدينة بغداد

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

571 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع