جابر رسول الجابري
دراسة وبحث بعنوان:اللغة وبناء صرح الحضارة
*المقدمة :
اللغة وسيط حسي لتبادل واستلام المعلومات بين المخلوقات ،وسواء كان المخلوق إنساناً أم حيواناً أو حتى كان كائناً حياً كلها تحتاج لتبادل المعلومات فيما بينها وبين الآخرين أو الذين يحتاجون إلى إستقبال معلومة من محيط ذلك الكائن ،
وقد تكن اللغة على شكل ترددات صوتية أو إشارات يحتاجها الانسان أو الحيوان لإدراك ما حوله،
او قد تكن إشارات راديوية أو كهربائية أو حسية مثل الشم واللمس كما نراها عند بعض الحشرات والحيوانات أو على شكل ترددات مغناطيسية او ديجيتال كما في لغة الكمبيوتر والاتصالات ،
لم يتطور الانسان منذ الخليقة إلا بعد ان استطاع الانسان اكتشاف اللغة وبها تعلم آدم أسماء المخلوقات وأدرك كنهها،
وتعتبر اللغة عند الإنسان هي الواسطة التي تنقل المعلومات إلى عقله ليدرك بها ويقارن ثم يستنتج،
إذاً هي أهم وسيلة لتطوير الإدراك والمعرفة عند الإنسان أو لنقل وتراكم خبراته إلى الأجيال القادمة ،
في الحقيقة أن اللغة هي مرآة للتطور الحضاري وبينها وبين الحضارة علاقة طردية فكلما تطورت لغة الإنسان تطورت حضارته ،وقد نطلق عليها تسمية سلم التطور الحضاري أو هي القاعدة الأساسية التي ينشأ عليها صرح التطور العلمي ،
بعد ان أدركنا قيمة اللغة بالنسبة لتطور العقل فلابد ان ندرك ايضا ان الكتابة هي السكة التي تستخدمها اللغة للتقدم بإتجاه التطور الحضاري،
وقد جاء معنى لفظ اللغة عند العرب من مصدر اللغ (اللغو) أي النطق وتحريك اللسان لإصدار الأصوات عن طريق الفم،
و أيضا هناك مصدر لغوي مرادف ألا وهو (اللج ) هو أيضا يدل على إطلاق الأصوات ( لج الناس أي علا صوتهم ، ولجّ فلان ألحّ بتكرار صوته)
وفي اللغة أيضا هناك مصدر لغوي قريب إلى مصدر اللغة إلا وهو اللق يعني من اللقاء اي التواصل ، ولقّ بلسانه الشيء اي مد لسانه اليه لغرض الإتصال بهدف حصول الإدراك والإستنتاج أما التلقين فيعني نقل معلومة من شخص لشخص آخر .
*الموضوع*:
الإنسان في بداية وجوده على الارض كان أبكماً أي لا يعرف الكلام ثم في مرحلة زمنية اخرى راح يستخدم الإشارة ثم راح يقلد بعدها أصوات الحيوانات والمخلوقات التي يراها ويسمعها حتى تعلم في مرحلة زمنية لاحقة نطق الحروف وعندها استطاع ان يوصل ويستقبل المعلومة بشكل أفضل (حيث أن خلقه سبق تعليمه ((وعلم آدم الأسماء كلها بعد ان أنبأ الملائكه بخلق ادم )
وهذه الفترة الزمنية تعتبر هي الخطوة الاولى للتطور الحضاري ،
بعدها بات الانسان بإمكانه استخدام نوعين من اللغات من أجل تبادل المعلومات بينه وبين الآخرين
النوع الاول :
لغة الإشارة لتوصيل معلومة
النوع الثاني :
لغة الكلام والنطق وقد أشار الله لهاتين النعمتين في كتابه الحكيم بقوله ( ألم نجعل له عينين ولسانا وشفتين وهديناه النجدين) ،
فالعينين تعتبران هنّ الوسيط لإستقبال المعلومة عن طريق الرؤية ،
أما اللسان والشفتين لغرض النطق للتكلم بهدف إيصال المعلومة إلى الآخرين وهي التي هنا تم تسميتها( باللغة) ، واللغة تعتبر المصدر الذي يمد العقل والذاكرة بالمعلومات حيث بعدها يستطيع العقل البشري أن يدرك ليحلل ويستنتج وكل تلك العمليات التفكيرية وصفتها الاية الآنفة الذكر بهداية الإنسان للنجدين .
وكما اسلفنا القول ان النطق وتبادل المعلومات كانت الخطوة الاولى لنشوء الحضارة لكن الانسان وجد ان تلك المعلومات تحتاج لخزن وعليه أن يحفظها أملاً في إيصالها للأجيال القادمة , عندها توصل الإنسان إلى وسيلة يمكن بها حفظ تلك المعلومات حيث وجد أن ذاكرته كافية لحفظ التجارب التي يمكن بسهولة نقلها للأحفاد على شكل قصص وحكايات تهدف لتعليمهم بتجارب وخبرات الاباء والأجداد ،
خلال مسيرة الحياة إكتشف الإنسان أنه أدرك أن ذاكرته باتت لا تتسع لكم هائل من المعلومات المكتسبة لديه حيث تفوق التجارب البشرية سعة ذاكرته لذلك لجأ لإبتكار نوعا آخر بديلا عن ذاكرته لخزن وتوثيق المعلومات فكان ظهور التوثيق برسم المخلوقات و اشكالها أو رسم الأحداث والظواهر على الصخور ثم تطور إلى رسم نطق الحرف على شكل خطوط ،
تلك كانت أول بداية إكتشاف سكة طريق الحضارة الذي مكنّ البشرية من الإنتقال من حياة البداوة إلى حياة الحضر والمدن ،
وقد وجد الإنسان القديم هناك صعوبة في نقل الأحجار ومحدودية استخدامها لذلك نقل مخطوطات المعلومات إلى كتابتها على الجلود واوراق الشجر حتى تطورت ظهور الورق والكتب ،
إن إستخدام الإنسان للكتابة أدى إلى استلام المعلومة عن طريق العينين ( القراءة ) بدلا من الأذنين (سمعاً) واستخدم الأصابع لرسم الكتابة بدلا من نطقها باللسان والشفتين ،
يعتبر استخدام المجتمع للكتابة الطريق المعبد لنشوء البحوث والتوثيق فقد نقلت حياة البشرية نقلة نوعية من التطور والإدراك عند الانسان فلهذا نشأت المدن والإمبراطوريات ونشأت المدارس ودروس الفلسفة والعلوم وكتابة المراسلات والتوثيق حيث لا يستوجب على الدارس او الباحث البدء من الصفر انما راح يكمل بحوث من سبقوه ويبدأ من حيث ما انتهوا عنده وأخذ يكمل طريقهم الذي سلكوه كي يحقق طفرة في مسيرة التطور الحضاري ،
وكدليل دامغ على أهمية اللغة عند المجتمعات هو ظهور كتب الديانات التي أنشأت حضارات وسجلت وجودا غير مسبوق ومنها ان العرب قبائل غالبيتها أمية غارقة في الجهل وعاشت حياة البداوة القاسية لكنها تطورت بعدما جاءها الاسلام فطوروا لغتهم باستخدام الكتابة والتوثيق بدلا من الحفظ فادى ذلك لنشوء اعظم حضارة عربية على الكرة الارضية وسجلت طفرة متقدمة في العلوم والاكتشافات لكنها ما لبثت ان توقفت عند حدودها بعد ان تغلغلت اللغات الأجنبية وشاركت وجود اللغة العربية فدب بين المجتمع الخلاف والفرقة مما أدى إلى توقف مسيرة اللغة والتي بدورها توقفت تلك الحضارة ،
كما ان اوروبا لم تتطور إلا بعد ان اكتشفت الكتابة وبعد أن تطورت لغاتها فعند ذلك إمتطت الأمم الأوروبية صهوة الكتابة لتبني اكبر صرح حضاري عند الإنسانية ،كذلك لم تتطور الصين وتتفوق على الغرب إلا بتطور لغتها حيث انتقلت خلال خمسين سنة إلى قمة الحضارة بعد ان كانت مغمورة وذلك بسبب إستخدام لغتها الأصلية في البحوث والدراسات وتطوير أجيالها ، لأن الخيال مربوطة بآصرة عقلية وثيقة مع وجود اللغة الأم فعند استعمال لغة الغير يتم فصل تلك الآصرة ،
ويتعذر ربط أفق الخيال بلغة مكتسبة لأن لغة الأم عبارة عن قاعدة معلومات تراكمية توفر قاعدة وفيرة من المعلومات للعقل البشري،
ولهذا نجد الكثير من المجتمعات ترفض فرض لغة الغير في تدريس أبنائها لأنها ستقلص مساحة قاعدة بيانات ذاكرة المعلومات عند طلابها ولكنها لا تمانع تدريس الطلاب الأجانب بلغة وسيطة ثالثة لأن الغرباء لا يشاركون في نشوء او تطور حضارة ذلك المجتمع ،
لم يتوقف الانسان في تطوير ادراكه باستخدام لغته فقط بل إنزلق في محاولات عديدة لاكتشاف لغات غير حسية واعتمادا على لغته الأصلية ،
فاكتشف وجود لغات وسيطة غير حسية تعتمد على الطاقة بعد اكتشاف الكهرباء حيث ظهرت اللغة الإلكترونية وهي لا تمت لحسه بشيء بل راح يدركها بواسطة (الطاقة ) فاكتشف اللغة الرقمية التي مكنته من الوصول إلى صنع جهاز الكمبيوتر عندها حقق طفرة حضارية اخرى والتي جعلت الإنسان يرتقي الى نمط جديد من الحياة وفتح باب المعرفة أمامه على مصراعيه لينتقل إلى مسار متطور من حياته بالوجود ،
ولم يستكن الإنسان عند هذا الحد ولم يتوقف بل سعى واكتشف الذكاء الاصطناعي فصنع الروبوتات وراح يرسل المركبات الفضائية لاكتشاف ما لا يدركه في الفضاء ودراسة أسباب النشوء وكيف كانت مسيرة الارض التي يعيش عليها بل وسال لعابه عندما اكتشف ان هناك معادن نفيسة ذات خواص صناعية مطمورة في الكواكب الشمسية ،
لن تتوقف الامم في مسيرة تطورها الحضاري إلا إذا إنهارت لغتها وتقمصت لغة غيرها فيرتفع عندها شأن الغير ويتسلق اصحاب اللغة المستعملة في العلم قمة جبل الحضارة في حين يبقى التابعون في حفر الوادي وأعينهم دائما ترنوا باتجاه الآخرين يتوسلونهم العطاء مما درسوه وتعلموه ،
ولذلك نجد ان التبع لا يمكن ان يسبق من سبقوه ولا تقوم الحضارة بعقول وجهود الغرباء بل لابد للشعب نفسه ان يصنع هو بجهود أبنائه صرح الحضارة .
*************
ملاحظة :
البحث كان مختصرا بسبب الحاجة لقاعدة بيانات أوسع .
*المصادر:
١- دراسة محلية بعنوان
أبعاد العلاقة بين اللغة العربية والهوية الحضارية
/العياشي
٢- دراسات عامة وعالمية بعنوان اللغة والهوية والثقافة
٣-Kingdom of characters
كأمثلة حضارية عن تطور الصين اعتمادا على تطور لغتها
٤-رؤية وفلسفة الكاتب عن تأثير اللغة في رسم طريق الحضارة للمجتمع
804 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع