جلسات في ضيافة "مُعصِرات" للكاتب محمد آيت علو.

صلاح مفيد

جلسات في ضيافة "مُعصِرات" للكاتب محمد آيت علو.

جلسة أولى:
الشخوص، أشباح تتمايل على جنبات الذاكرة الجريحة، المثقلة بالحنين والحب للأرض الموعودة، ذات زمن يلوح في الأفق كأنّه ساري شراع يشق الريح، يحمل الجؤجؤ على التقدم بين الأمواج المتلاطمة لبحر الظلمات، الذاكرة النازفة بدم البدايات الموشومة على الجسد المسجى في القبر الخلوة المصحوبة بالشموخ المدفون في أعماق الماضي التليد الذي لم يعد كما كان في عيون العجائز الجالسات على أبواب الأكواخ يحرسن ما تبقى من الزمن الجميل، المخضبِ لعيون الصبايا الحالمات بفارس يمتطي صهوة الحلم الأبيض بياض الثلج المكلل لجبال الأطلس الشامخة، الشاهدة على الأرض الملتحفة بالمعصرات المجيدات.
جلسة ثانية:
مشبعة بالحنين، الروح مفازة للعابرين الباحثين عن شيء من الأمل والأمان، هل مازال هذا ممكنا؟ الزمن شبح يحمل منجله ويهوي على الأشجار الشامخة الواقفة في وجه الأعاصير، النصل الحاد يلتمع على ومضات البرق العابر للمعصرات، يهوي بقوة على الجدع الهرم من النائبات المتلقفات للقدر المحتوم دون هوادة، تطيح بالأشلاء، يقصف الرعد وترتعد الأرض الوجلة خوفا من أن يلحقها الدمار عينه رغم أنها على يقين تام أنها الأصل والنهاية المحتومة لكل من نما وتطاول إلى أن وصل إلى عنان السماء المفتوحة رغم العاصفة، الحاملة لأخبار الأولين والآخرين، السائرة على خطى تائهة هائمة بين الدروب شبه الخالية إلا من الحنين المعتق بالحبق والشاي والنعناع، تغزوها كائنات الليل الودودة المشبعة بالثمالة إلى الأرض الرحم، تجاعيد البيوت الموشومة على الأرصفة الضيقة والدروب الملتوية، العيون المتربصة الراصدة لكل شاردة وهاربة، يسقط الصمت بينه وبين الباب، تغريه على المشي على الطريق المشتهاة المفتوحة على النهايات، والرجلان الحافيتان ترقصان على الدروب المغبرة بفعل مواسم الجفاف اللاتنتهي.
جلسة ثالثة:
القافلة تسير معربدة خارج السرب لا تلوي على طريق إلا المضي قدما نحو مهبط الشمس أو القمر أو النجوم المتلألئة في سماء الصحراء القاحلة المجدبة كالمدن العملاقة الخارجة عن القانون، بما أن التقنية تملكت كل شيء أو لنقل بشكل أكثر دقة أو رعبا (أيهما تختار أنت؟) صادرت كل شيء، كأنها قاطعة طريق تسطو على ما تبقى فينا من آدمية أكلتها العثة والأرضة مذ زمن بعيد، ولا يسعنا مع هذا المد الجارف إلا أن نأخذ القافلة السائرة أو نعوي ككلاب القرية الغارقة في الكآبة منذ الأزل.
جلسة رابعة:
الأدب مقاومة للموت الزاحف على الأخضر اليانع، الموت ينتظر أن تفتح الأبواب الموصدة في وجه القبيح المبرقع بالثآليل المتقرحة والدمل المتقيحة شاهرا منجل الفزاعة الحاد النصل اللامع تحت ضوء القمر العملاق الأزرق، يوزع القبلات على المعجبين من أبناء جلدتنا المنساقين لشطحاته الهستيرية التي تهيج الأطراف والأفواه المفتوحة عن آخرها، السائلة لعابا لزجا لأفعى عملاقة تستثيرها روائح الجثث المتراكمة على طول الحقل بعد أن غارد آخر جندي يحمل علم النصر كهزيمة الملوث بالدم المتخثر والعرق الزفر.
جلسة خامسة:
يقتلنا الانتظار، يسري في الدم كالسم الزعاف، الواجب على كل واحد منا أن يتجرع حصته المضمونة كل يوم، ليتسنى لنا الاستمرار دون أمل في النجاة، سائرون دون هدى في طرقات التيه كالأموات الأحياء أو الأحياء الأموات، لا مخرج من المتاهة المحكمة، كفخ نصب على مهل وعن قصد ليصطاد الفراشات المغرّرة بوهج الشمس المشعة كفتيل زيت في بيت مهجور، صاحبه لم يعد منذ زمن بعيد ولا ينوي العودة بما أن لا شيء ينتظره هناك، غير الريح التي تعوي بين جنباته، وبرودة المكان تزيد العظام صريرا منغما على إيقاع الرتابة والانتظار القاحل.
الجلسة السادسة:
في غفلة من الزمن كبرنا، لم نكد نتنفس ملء القلب لنجد أن كل شيء كبر من حولنا أو كاد يشيخ، نشعر بالوحدة والضياع، كل الأحباب غادروا أو يكادوا في رمشة من العين، نستكين إلى الحنين المعذب اللاطائل منه بعد أن أفلت آخر الشموس، الأعمدة الأزلية التي كنا نستند إليها أمام العالم الفاغر فاه المستعد ليبتلعنا دون أن يرف له جفن، وينترنا نجوما تنير ظلمات العالم الغافل عن كل شيء، عن أحلامنا التي غديناها بعرق الأرق والأحلام المستسلمة للنوم على أغنيات العجائز اللائي وحدهن يستمررن في نسج خيوط عنكبوت عملاق لا يأبه بما يعلق في شراكه القاتلة.
جلسة سابعة:
الرحيل والخطى لا تغني عن المسافة الشاسعة شساعة الروح المنتشية بالمشي، بالجدبة المفتوحة على العوالم الغامضة، ليس فينا من هو في غنى عن المشي، المشي معنى للوجود، أثر، بصمة على أديم الأرض، دليلنا الوحيد على مررونا من هنا من هذا المكان المهجور المتخم بالجراح المستعصية على البرء والبراءة، فلا يسعنا إلا الامتثال للقدر المحتوم، المكتوب على الجباه كتعويذة منذ الولادة.
جلسة ثامنة:
التغريدة، تغريبة، تيه القدماء، توله بالغرب البعيد، بما أن الشرق منبت الشمس، والشروق ولادة جديدة تغريبة ليوم جديد، الغروب أفول وانقضاء يوم آخر دون وصول، دليلا على الضياع على اعتاب الصمت المكلل للقبور المتراصة جهة الأهرامات على الجانب الآخر من العالم المنهك، المنهمك في لعبة هلاكه، علامات على الوعد المغدور.
خاتمة:
الضيافة تقتضي الاحتضان المرهف والإنصات الشفيف للمضيف، تتبع لمسارات تجترحها الكلمات الراسمة للتخوم (لا الحدود) باعتبارها استكشافا للبياضات التاوية بين الأسطر، نسيج من علامات باحت بجزء من أسرارها المكنونة على طول الجلسات الثمان للمعصرات الراوية (رواية وارتواء) للجدب المتمكن من الروح العاشقة لمسافات محمد آيت علو المنفلتة.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الساعة حسب توقيت مدينة بغداد

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

832 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع