طابوقات وجع الفراق

د.فاضل محمد البدراني

طابوقات وجع الفراق

كأن الطريق الذي يسير به الطفل برفقة الحاجة سعده أم محمود يبتلعه، كلما خطا خطوة نحو المجهول الموجع، تراجع قلبه خطوات أخرى حيث كان.
حيرة ما بعدها حيرة ومجهول لا يحتمل قسوته قلب طفل غادر بيت أمه بخطى مشوشة، لا تقوده قدماه بل تقوده الغصة في القلب وحرقة البلعوم.
كان كل شيء فيه يرفض المضي، وكل شيء في أمه ينكسر وهي تلوّح له بالدعاء، لا بيدها.

لم تتقدم نحوه خطوة بقيت متسمرة.
وقفت كجدار منهكٍ من الحزن، تُخفي بين راحتيها حرقة الأم التي لا تملك من الأمر سوى أن تسلمه لمن لا يُشبهها، وتقول لنفسها:
“رضيتُ أن يعيش، أن يكبر… لكن أيّ حياة هذه التي لا أراه فيها كل يوم؟”

صدى الكلمات في قلبها يرسم لوحة من عتمة الحزن. لم يكن الفراق خياراً، بل قسوة من قوانين اجتماعية لا ترحم قلب الأم الذي يملأ قلبها الحنان.

وصل الطفل إلى البيت الذي يسمونه “بيت الأب”.
لكن لا شيء فيه يشبه ذاك البيت ولأنه فاقد الدفء.
صمتٌ كثيف، وجوه لا يعرفها، نساء يتحركن بترتيب لا يهمّه، وأطفال يُقال إنهم إخوته، لكنه لم يشعر بشيء تجاههم.

امتنع عن الطعام، ورفض الكلام.
أعلن عصيانه الصامت، ولجأ إلى أقصى أشكال الدفاع عن ذاته الصغيرة: الانزواء.

كان في السابعة، لكنه يملك في داخله حكمة جرح عمره سبعين.
كل شيء بدا له غريباً: رائحة البيت، نبرة الصوت، ترتيب الأشياء، وحتى الأب الذي طالما سمع باسمه، لم يعرف كيف يخاطبه دون أن يشعر بأنه مجرد ضيف في بيت رجل لا يعرف ما تعني كلمة “أب” في قلب ولدٍ صغير.

مع الأيام، تكشفت له تفاصيل بيتٍ يحمل في داخله أكثر من حكاية.
اكتشف أن لأبيه زوجتين، وأن له إخوة وأخوات من نساء لا يعرف مَن منهن الأقرب إليه.

إحداهن، كانت تُدعى “أم علي”، لفتت نظره برقتها.
هادئة، متفهمة، لم تفرض نفسها عليه. اقتربت منه بلطف كأنها تمسح شوكًا في صدره. وجد في طيبتها بعض الأمان. لم تكن تُشبه أمه فحسب، بل كانت تقترب منها بقلبها.

ثم ظهرت أخرى، تشبه والدته بشكل غريب، حدّ أن ملامحها أخذته فجأة إلى بيته الأول الذي تسكنه الأم، هي الوطن والأمان والسعادة .

سأل عنها فكان الجواب: “هذه أمك الثانية… زوجة والدك.”

لم يعرف كيف يتعامل مع كل هذا.
لكن شيئًا فشيئًا، بدأ قلبه يعتاد وجود هاتين المرأتين.
كأن في كل واحدة منهما ظلٌ من أمه، لكنه ظلّ لا يُضيء، فقط يُذكر.

أما الأب، فقد كان حاضراً بطريقته التي يعرفها الناس عنه.
قليل الكلام، كثير الحضور حكيم التصرف.
رجل يُقال عنه أنه كريم، صاحب مضيف، الناس تهابه وتحترمه، رائحة قهوته فواحةُ يقصدها الناس.

ذات يوم، سمع الطفل حديثًا بالصدفة بين والده وزوجتيه.
كان يقول لهّنَ بصوت فيه حزم وحرص:

راقبوه، لا تتركوا له شيئًا يحتاج أن يطلبه، لن يفعل. هذا ابني… عنيد. قد يجوع ولا يطلب الطعام.

حينها، فهم أن كل ما يُقدَّم له، ليس فقط من طيبة القلوب، بل من حرص أبٍ بدأ يحاول أن يكون أبًا فعلًا.

وفي ذلك البيت، كان هناك رجل واحد استطاع أن يخترق جدران الصمت في داخله… عمّه جبار.

وجهه دائماً مبتسم. حضوره مريح.
ذاكرته تخزن عن حديث قديم من أمه:

“عمك جبار طيّب يا وليدي، أخذ يتمعن بما قالت له.”

وصارت هذه الجملة كأنها مفتاح قلبه.
تعلّق به. صار ينتظر وجوده، يشاركه الكلام، ويشعر معه كأن أحداً من عائلته القديمة جاء ليؤنسه.

ومع مرور الأيام، لم تنطفئ النار في قلبه.
كان يخط كل يوم مرّ عليه على طابوقة في سور البيت، يرسم عليها خطاً صغيراً… يوماً بعد يوم.
حتى وصل إلى الرقم ٣٥، أنها أيام الفراغ عن أمه

وفي اليوم السادس والثلاثين، حدث ما لم يكن بالحسبان

كان الطفل قد أوجعه الحنين، وارتجَ في القلب جدار الصبر.
خمسة وثلاثون خطًّا رسمها بأصابعه على طابوقات الحنين، خطًا تلو خط، كل واحد منها جرح صغير في قلبه الصغير.

وفي ظهيرة يوم خريفي، جاءت البشارة… لكن بشكل لم يتوقعه.

دخل رجل إلى المضيف، فرفع الطفل رأسه بتردد.
العين تعرف قبل اللسان…
“أبو محمود؟!”ما هذه المفاجئة!

ركض إليه دون تفكير.
احتضنه الرجل بقوة، رفعه عن الأرض، كأنّه أراد أن يُفرغ شوق الطريق كله في ضمة واحدة.

لم يستطع الطفل أن يتكلم، ولا أبو محمود استطاع أن يسأله.
جلسا جنبًا إلى جنب، وكل منهما في صدره بكاء مكبوت.

أغمض الطفل عينيه، ودفن وجهه في صدر الرجل…
كان يريد أن يقول الكثير، لكنه لم يجد غير الصمت لغة مناسبة، وصوت أنفاسه المكسورة يعبر بها عن كل شيء بداخله.

بكى الطفل.
بكى أبو محمود.
بكت الطابوقات التي حملت خطوط الأيام الستة والثلاثين.

لم يحتج أبو محمود إلى كثير من الإقناع.
هو زوج خالته، لكنه أكثر من ذلك: كان مرآةً لعالمه السابق، بيته القديم، قلب أمه، رائحة جدته، صوت خاله، وكل الذين ودّعهم ذات عصر بالبكاء.

“راح آخذك لأمك”
قالها، وربت على كتفه.

ابو محمود ابن عمت الوالد وكلامه لا يرد، فأركبه خلفه على دراجة هوائية، وكانت الرحلة عكس كل الاتجاهات السابقة.
ليست رحلة هروب، بل عودة…
ليست طريق مغادرة، بل انبعاث جديد من رحم الحنين.

ولمّا وصل إلى بيت أمه، لم تكن الأم تعلم.
خرجت من الباب مذعورة عندما رأت ظلين على الدراجة.
وحين اقترب منها، لم تقل شيئًا. لم تصرخ. لم تسأل.

حضنت ابنها كأنها تلملم عمرًا كاملاً تمزّق منها،
وشهقت شهقة الأم التي خُطف منها قلبها ثم عاد.

في لحظة، عاد كل شيء…
الصوت، الرائحة، التنهيدة، الأمان.

سُجّل ذلك المساء في ذاكرة الطفل كأنه عيد لا يشبه الأعياد.
كان قبل غروب الشمس في يوم من خريف عام 1973، حين أشرقت الشمس من جديد بقدوم نور القلب( الإبن)، وكان وجه الأم هو الشروق الحقيقي.

كل ما مرّ به خلال ٣٦ يوماً من الغياب…
تلاشى في حضنها. انعش روحهُ بذاك العطر الذي عاش عليه سنوات، صمت وقتاً ليس بقليل بذاك الحضن، حاول الإنفصال عن العالم، قبل أن يفوق ليرى أنه بدأ سعيداً بتلك اللحظات وهي أول خطوات للشفاء.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الساعة حسب توقيت مدينة بغداد

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

698 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع