هل شعرت يومًا أنك بحاجة إلى الاختفاء؟

د. نزار گزالي، أربيل
دكتوراه في علم النفس

هل شعرت يومًا أنك بحاجة إلى الاختفاء؟

في هذا العصر الذي يُمجد الحضور الدائم، ويضغط على الفرد ليكون ناجحًا، متجاوبًا، حاضرًا على الدوام، نجد أنفسنا أحيانًا في مواجهة رغبة غريبة لكنها مألوفة: الغياب.
رغبة في الانسحاب من الضجيج، من التوقعات، من العالم… بل أحيانًا حتى من الذات.

وسط طوفان الطموحات والانفتاح المتسارع، يقابل الإنسان ضغطًا اجتماعيًا دائمًا بأن يكون “نسخة محسّنة من نفسه” طوال الوقت، في مقابل تآكل الروابط الاجتماعية، وتصاعد الفردانية، واختلال الإيقاع الداخلي. البعض لا يجد أمامه سوى خيار الصمت أو الاختفاء المؤقت.

تتجلّى هذه الحالة في صور شتى: انسحاب اجتماعي، فقدان للرغبة في التواصل، غياب ذهني، أو حتى ترك العمل والبحث عن عزلة مؤقتة. هناك من يقول: “لا أعرف من أنا”، أو “ذهني فارغ كأن لا شيء فيه”.

نفسيًا، إذا كانت هذه الحالة مؤقتة وجرى التعامل معها بوعي أو دعم، يمكننا اعتبارها واحدة من:
• آليات الدفاع النفسية التي تساعد على التكيف المؤقت.
• أو شكل من أشكال التمرد الصامت الذي يلجأ إليه الإنسان بعد إنهاك طويل، بحثًا عن لحظة هدوء أو إعادة ترتيب الذات.
• وربما ما وصفه عالم الاجتماع دافيد لو بريتون بـ”توقف عن الفعل لا عن الوجود”، حيث لا يغيب الإنسان فعليًا، بل يتوارى مؤقتًا ليعيد التفاوض على شروط وجوده.

هذه الظاهرة النفس-اجتماعية تجد تفسيرًا أيضًا في ضوء نظرية الحفاظ على الموارد النفسية (Hobfoll, 1989)، التي ترى أن الانسحاب قد يكون محاولة لا شعورية لوقف نزيف الطاقة النفسية، والذي قد يتجلى في مظاهر مثل:
• التبلد الانفعالي (Emotional Numbing)
• أو الغربة عن الذات (Derealization)
وهي تجارب شائعة في سياقات الاحتراق النفسي نتيجة العمل المفرط أو الحياة المجهدة.

أما الفيلسوف الفرنسي ميشيل دي سيرتو فقد وصف هذا النوع من الانسحاب بـ”الانسحاب التكتيكي” (Tactical Withdrawal)، حيث يصبح الصمت وسيلة لمقاومة غير مباشرة، يعيد فيها الفرد التفاوض على موقعه داخل عالم يُرهقه بالضغوط والتوقعات.

ويذهب لو بريتون إلى أبعد من ذلك، فيعتبر هذا الانسحاب مقاومةً رمزية ضد منطق الرأسمالية الحديثة التي تُختزل فيها قيمة الإنسان بما يُنتجه، لا بما يشعر به أو يحتاجه.

لكن، حين يطول هذا الانسحاب ويتحول إلى نمط دائم من الانعزال، فقد يكون مؤشرًا على حالات مثل:
• الاكتئاب (Depression)
• أو اضطراب الشخصية التجنبية (Avoidant Personality Disorder)
وفي بعض الثقافات، كما في اليابان، تظهر ظاهرة “الهيكيكوموري” (Hikikomori) كنموذج للانسحاب المطوّل والعزلة المزمنة عن العالم الخارجي.

إذا لاحظت أنك تعاني من عزلة دائمة، أو انسحاب اجتماعي مستمر، أو شعور بفقدان المعنى، لا تتردد في استشارة مختص نفسي. الدعم المهني ليس رفاهية، بل قد يكون نقطة التحوّل في جودة حياتك وراحتك النفسية.

وأخيرًا… أعلم أن هذا الموضوع يحتمل تفصيلًا أطول وتأملًا أعمق، لكني حاولت أن أكتبه بلغة مكثفة، دون أن أستنزف وقتك أو طاقتك، في زمن تسوده العجلة ويقل فيه الإصغاء للنفس.

✦ استلهم هذا المنشور من خبرات ميدانية وأفكار من كتاب “اختفاء الذات عن نفسها” لعالم الاجتماع والأنثروبولوجي الفرنسي دافيد لو بريتون، مع الإشارة إلى بعض المفاهيم النفسية والنظرية ذات الصلة، التزامًا بأخلاقيات المعرفة العلمية.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الساعة حسب توقيت مدينة بغداد

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

639 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع