د. منار الشوربجي
في الولايات المتحدة مسلسل تليفزيوني شهير اسمه "القانون والنظام"، وهو عبارة عن حلقات منفصلة، تقدم كل منها جريمة جديدة تسعى الشرطة لحل لغزها، إلى أن تتوصل للجناة فتقدمهم للمحاكمة.. وقد حظي المسلسل بشعبية كبيرة وحصل على جوائز عدة، ولا تزال حلقاته تُعرض حتى بعد أن توقف إنتاجها في 2010.
والحقيقة أن اسم البرنامج له تاريخ يرتبط بالمسألة العرقية في أميركا، فهو ينبع من خطاب سياسي ليس بالبراءة التي يبدو عليها لأول وهلة. وهو خطاب ساد منذ نهاية حركة الحقوق المدنية، وارتبط ارتباطا وثيقا بالحقوق التي اكتسبها الأميركيون السود تحديدا، ويمثل جزءا من اللغة الشفرية التي تم اختراعها لتبدو محايدة بشأن المسألة العرقية.
فحركة الحقوق المدنية، التي اشتعلت في الخمسينات والستينات من القرن العشرين داعية للحصول على الحقوق المتساوية للأميركيين من أصول إفريقية، انتهجت العمل السلمي المباشر. فهي استخدمت تكتيكات المقاطعة والتظاهر والاعتصام والمسيرات، للاحتجاج على الفصل العنصري الذي كان سائدا ومقننا، والتمييز المباشر ضد السود، وملاحقتهم.
وقد وصلت الحركة بقيادة مارتن لوثر كنغ، لذروتها في أوائل الستينات، وتُوجَت بصدور قانوني الحقوق المدنية وحقوق التصويت في عامي 1964 و1965. وكان من شأن تلك النجاحات أن تضع نهاية للهيراركية العرقية القبيحة، التي سادت حتى بعد إلغاء العبودية.
لكن مثلما كانت هناك مقاومة شديدة لإلغاء العبودية، وبالذات في الجنوب الأميركي مما أدى لتفريغ ذلك الإلغاء من محتواه، برزت مقاومة لا تقل شراسة لحركة الحقوق المدنية. فبعد إلغاء العبودية، دشنت الحكومة الفيدرالية ما يعرف بعهد "إعادة البناء" للدولة على أساس المساواة. لكن ذلك العهد لم يستمر سوى عشر سنوات، ظلت فيها المقاومة لإلغاء العبودية بالغة الشراسة حتى نجحت في إرساء الفصل العنصري.
ومن ثم ظل السود يتعرضون للعنف والملاحقة، وتم الزج بعشرات الآلاف منهم في السجون، على ألا يتم الإفراج عنهم سوى بكفالة ضخمة. لكن لأن هؤلاء السود الخارجين لتوهم من زمن العبودية، كانوا فقراء لا يملكون تسديد تلك الكفالات، فقد كان يتم بيعهم للعمل بالسخرة للشركات الخاصة. ولم تنته تلك المرحلة العصيبة، إلا بفضل حركة الحقوق المدنية.
غير أن الزمن الذي قامت فيه حركة الحقوق المدنية وطبيعتها ومكتسباتها، جعل من المستحيل على المقاومين لمنح السود حقوقا متساوية أن يستخدموا الآليات نفسها. فلأن العنصرية الصريحة صارت مجرمة قانونا، تحتم من أجل استعادة الهيراركية العرقية، استخدام منطق ولغة تبدو محايدة وتحقق المطلوب.
ومن هنا، بدأ استعمال عدد كبير من المفردات، كان من بينها مثلا "حقوق الولايات"، لأن الحكومة الفيدرالية هي التي أجبرت الحكومات المحلية على نبذ التمييز، وكان من بينها أيضا تعبير "القانون والنظام". فقد اتخذ أعداء الحقوق المتساوية منطقا لا يبدو معارضا صريحا لها، وإنما يستخدم تعبيرا يبدو محايدا مثل "استعادة القانون والنظام".
وقد بدأ الحديث عن الاحتجاجات والمسيرات والعصيان المدني السلمي، الذي اتبعه مارتن لوثر كنغ، باعتبارها جرائم تؤدي لانهيار القانون وتنتهك النظام العام، وليس أحد أشكال العمل السياسي بهدف الحصول على حقوق مسلوبة. وقد برع ريتشارد نيكسون في استخدام تلك اللغة، حيث اعتبر ارتفاع معدلات الجريمة في أميركا "سببه الرئيسي هو بزوغ تلك الاحتجاجات".
وتحدث كبار رموز اليمين الأميركي، بشكل يربط السود مباشرة بارتفاع معدلات الجرائم في المدن التي هربوا إليها من الملاحقة في الجنوب. ومن الدلالات المهمة أن حملتي الرئاسة لكل من نيكسون الجمهوري وجورج والاس العنصري في 1968، تمحورت حول قضية العودة إلى "القانون والنظام". ومع الوقت صار الحديث عن مكافحة الجريمة، هو اللغة الشفرية لاستعادة السيطرة على السود.
غير أن ثورة اليمين ضد مكتسبات حركة الحقوق المدنية، لم تصل لذروتها إلا بعد وصول ريغان للسلطة في 1980. فبينما أكدت كل استطلاعات الرأي عام 1982 أن 2% فقط من الأميركيين يعتبرون القضاء على المخدرات هو القضية التي تحتل الأولوية الأولى لديهم، فقد أعلن ريغان في العام نفسه ما أسماه "الحرب على المخدرات".
وهي التي بموجبها صدر قانون لمكافحة الجريمة عام 1986، ليقرر عقوبات بالغة القسوة على تداول وحيازة أنواع بعينها من المخدرات يستخدمها السود، لانخفاض سعرها، بالمقارنة بعقوبات أقل بكثير عند حيازة أو تداول أنواع أخرى لا تقل خطورة، ولكن يستخدمها البيض أكثر من غيرهم.
وقد أدى ذلك إلى الزيادة المذهلة في أعداد السود من الذكور خلف القضبان، ولفترات طويلة للغاية، وانطوت تلك القوانين أيضا على ما يؤدي إلى مزيد من الانهيار والتفسخ الاجتماعي في مجتمع السود.
فالذي تثبت في حقه أية جريمة تتعلق بالمخدرات، مهما كانت بساطتها وانعدام ارتباطها بالتداول والتجارة والعنف، يطرد فورا من السكن المدعوم التابع للدولة، الأمر الذي يعني التشريد المطرد لأسر بأكملها، وجعلها نهبا للشارع بما ينطوي عليه من عنف ومخدرات وفقر، خصوصا بعد أن أدت العولمة والتطور التكنولوجي إلى اختفاء الكثير من الوظائف البسيطة التي كان يحتلها السود، وبالذات في المجال الصناعي.
ولم يتحسن الوضع بوصول بيل كلينتون الديمقراطي للسلطة، فهو انتمى ليمين الحزب الذي كان يهدف لحرمان الجمهوريين من التفوق على الديمقراطيين باستخدام قضية الجريمة، فصدر في عهده قانون للجريمة اتخذ منهج ريغان نفسه. والمدهش أن كلينتون صار الرئيس الذي زاد في عهده عدد من هم وراء القضبان، بالمقارنة بأي رئيس أميركي آخر. أما المفارقة الجديرة بالتأمل والدراسة، فهي أن الأوضاع لا تزال على حالها نفسه، حتى في عهد أوباما أول رئيس من أصول إفريقية!
ويرى الكثير من الأكاديميين والحقوقيين، أن قضية "القانون والنظام" تنطوي ضمنيا على بعد عنصري تؤكده الإحصاءات والأرقام، وأدى لتحجيم فرص السود في المجتمع الأميركي، عبر تدويرهم في حلقة مفرغة من السجن والتفسخ الاجتماعي والفقر.
589 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع