عوني القلمجي
مداخلة - جدلية الفكر والواقع الاجتماعي والسياسي
منذ عقود طويلة من الزمن، واقطارنا تعاني من مشكلات التبعية وظواهر مرحلة ما بعد الاستعمار ، وما زالت ايضا تواجه معضلات جدية تشمل مختلف النواحي، السياسية والاقتصادية والاجتماعية، تفاقمت بعد الهجمة الامبريالية لتحرم بلداننا من مكتسبات التحرر الوطني والسيطرة على ثرواتنا الوطنية، وطالت هذه الهجمة حتى الاصعدة الروحية والاخلاقية. وكان اخطرها التراجع الفكري والثقافي، الذي ادى بدوره الى تقويض اسس الوعي الجمعي بقضايا امتنا المحورية، والمحددة لنقاط قوتها وهزائمها، بل وجرت محاربة النخب الواعية أو إغرائها أو تجاهلها ، سواء عبر الترهيب او الترغيب، او عبر اعتماد ما يسمى بالقوة الناعمة، أو القمع اللطيف وغير المحسوس، لتنتهي الى خلق وضعية فكرية وعقائدية هشة عانت منها الأمة ولا تزال. ناهيك عن ما تقوم به وسائل الاعلام الحكومي والمعادي والدورالذي تلعبه في تشكيل الوعي السياسي، وتاسيس افكار وثقافة تخدم مصالحها لتدفع الناس لتبنيها والقبول بها. وقد ادى كل ذلك الى عجز المجتمع العربي واحزابه وقواه الوطنية، عن تحقیق الحریة والدیمقرا طیة في مواجهة الانظمة الدكتاتورية والرجعية والعميلة، وتحقيق العدالة الاجتماعية وإعادة توزیع الثروة في مواجهة التفاوت الطبقي، وتحقیق الوحدة العربية في مواجهة التجزئة، والدفاع عن الوطن وتحرير الارض في مواجهة الغازي والمستعمر. وهذا امر طبيعي، فالتاخر في الجانب الفكري والثقافي اقترن دائما بالتخلف والرجعية، في حين اقترن امتلاك الوعي والفكر المنفتح بالتطور والتقدم الاجتماعي والحضاري والازدهار والرفاه. ولا تغير من هذه الحقيقة المكاسب والانجازات التي تحققت على يد هذه الاحزاب الوطنية والقومية في عدد من البلدان العربية، مثل تحقيق الاستقلال والسيادة الوطنية ورفع مستوى الخدمات، فهذه قد جرى اجهاضها، اوالالتفاف عليها من قبل القوى المضادة باوجهها المختلفة.
ومما زاد الحالة سوءا، امتداد هذا الداء ليشمل القوى والاحزاب الوطنية كافة، ومن ضمنها الاحزاب القومية العربية، التي تهمنا اكثر من غيرها، وفي مقدمتها حزب البعث العربي الاشتراكي وحركة القوميين العرب والاحزاب الناصرية، ليس لان قادتها ومفكريها ومثقفيها قاصرون عن التفكير، وانما لكون هذه الاحزاب عجزت عن تطوير فكرها، خشية المساس به وبثوابته التي قام عليها، وتجاهلت في نفس الوقت الانفتاح على الافكار الاخرى، او ايجاد قواسم مشتركة معها. ليصل هذا الامر الى حد الخصومة بين بعضها البعض. لتتطور في فترات معينة الى محاولات اقصاء كل منها الاخر، والدخول احيانا في معارك فيما بينها. ولربما النموذج الاوضح والاكثر حدة في هذا الاطار الخصومات بين تلك الاحزاب القومية، بصرف النظر عن الدوافع والاسباب، ومن ثم انتقال هذه الخصومة الى فئات واسعة من المجتمع، الذي انقسم ما بين مؤيد لهذا الطرف اومعارض لذاك. ليس هذا فحسب، وانما حرصت هذه الاحزاب، وحتى الشخصيات على اهمال الفكر كاساس لمنطلقاتها، جراء اهتمامها في تقديم برامج عمليه لتحقيق أهداف سياسية بعينها، الامر الذي ولد فجوة كبـيره بين المنطلقات والأهداف، في حين كان المفترض سعي هذه الاحزاب والقوى القومية لوضع برنامج فكري مشترك يحــدد عمل الثـورة الفكرية وماهيتها.
لا نقصد من وراء ذلك الاقرار بان تلك الحالة المتخلفة التي نعيشها، اصبحت قدرا حتميا ينبغي الاستسلام له، او انتظار حدوث معجزة تاتي من السماء تنقذنا من هذه الحالة البائسة فعلا، وانما اعني جردها وتدقيقها ، ووضع الحلول والوسائل الناجعة للتغلب عليها، والخروج من مستنقعها. فلقد مرت امتنا العربية في حالات مشابهة، وربما كانت اكثر سوءا وماساوية، وتمكنت من الخروج منها الى حد كبير. على يد نخبة من المفكرين العرب ورجال الدين المتنورين والقادة والسياسيين، من امثال الشيخ رفاعه الطهطاوي وبطرس البستاني واحمد لطفي السيد والشيخ العربي التبسي وجمال الدين الافغاني وعبد الرحمن الكواكبي وعباس محمود العقاد وعبد الحميد بن باديس ومصطفى المنفلوطي وانستاس الكرملي ومي زيادة وميخائيل نعيمة وشبلي شميل ونيقولا حداد وغيرهم الكثير. ونقصد هنا حالة التخلف التي عاشها مجتمعنا العربي في ظل الحكم العثماني، والتي وصلت لحد تهديد الهوية العربية، تحت ذريعة المشروع الاسلامي، وتراجع اللغة العربية جراء سياسية التتريك التي قامت في اواخر العهد العثماني. ولم تكن شعارات المشروع النهضوي العربي والاسلامي بعيدة عن شعاراتٍ الثورة الفرنسية التي تاثرت بها هذه النخبة مثل شعارات الحرية والعدالةِ والمساواةِ، وليست بعيدة ايضا عن افكار رجالات الراي في عصر الانوار الاوروبي. حيث بدات في مصر نهضة ثقافية وادبية تردد صداها وامتد نفوذها إلى سوريا ولبنان وفاس ومراكش، لتنتهي الى ظهور حركات سياسية ذات طابع قومي عربي طالبت بالاستقلال والحرية في كل من مصر وسوريا ولبنان وفلسطين والعراق. ولولا سواعد وعقول هولاء الرجال، لبقي العرب في ذلك الوقت على ما هم عليه، وربما عاشت امتنا عصور ما يسمى بالانحطاط.
هذا المشروع النهضوي الذي حقق مثل هذه الانجازات، لم يكتب له الاستمرار ومواصلة مسيرته حتى نهايتها، حيث تعرض لاحقا الى انتكاسة مؤلمة، جراء الاشكاليات التي واجهها، وجراء عدم قدرته على التمييز او التدقيق في الفروقات بين الاسس الفكرية والثقافية له، وبين منظومته القيمية، بين تنفيذ هذا المشروع على ارض الواقع وبين حصره في مجموعة من النخب، لكنه ترك للاجيال المتعاقبة تجربة يقتدى بها، كبداية لاي مشروع نهضوي وفكري كالذي نحن بصدده، خاصة اذا عقدنا العزم على اعادة النظر في كل مسيرتنا الفكرية واجراء تغيرات جزئية او واسعة على قواعد صحيحة غير تلك التي تسود اليوم، او كما يقول الكاتب المصري زكي نجيب محمود، الابتعاد عن الثنائية التي تسير على طريق"اما التمسك بتراثنا القديم ولا مجال بالابتعاد عنه قيد انملة، كونه صوابا لا يقبل المساس به، واما الانسلاخ عنه وعن الهوية والتوجه شطر الفكر الغربي واعتناق معتقداته، والخلاص من ذلك الحِمل الثقيل الذي يسمى ثقافة عربية." والتي تتمثل في التعامل مع كل فكرنا وثقافتنا العربية الاصيلة من جهة، والعيش في الحاضر في ظل تطوره العلمي والفكري من جهة اخرى. وفق منهج علمي تحت اشراف النخبة المفكرة في البلاد العربية التي بامكانها تقديم مشروع فكري جديد تتوفر فيه عناصر نظرية ملائمة لحركة المجتمع في جميع البلاد العربية.
لقد وضع لنا في هذا الخصوص الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت، الذي يعتبر من اهم العقول التنويرية في اوربا، اربع قواعد ذهبية تساعد في الوصول الى تحقيق الهدف المنشود، والتي وردت في كتابه الموصوف "مقال في المنهج" وكتاب "قواعد لهداية العقل" حيث سميت الأولى باليقين وذلك "ألا اقبل شيئا على أنه حق ما لم أعرف يقينا أنه كذلك، بمعنى أن أتجنب بعناية التهور، والسبق إلى الحكم قبل النظر، وألا أدخل في أحكامي إلا ما يتمثل أمام عقلي في جلاء وتميز، بحيث لا يكون لدي أي مجال لوضعه موضع الشك". وسميت الثانية بالتحليل وذلك "بتقسيم كل واحدة من المشكلات الى اجزاء قدر المستطاع"، وسميت الثالثة بالتركيب وذلك "ان اسير افكاري بنظام بادئا بابسط الامور واسهلها معرفة كي اتدرج قليلا قليلا حتى اصل الى معرفة اكثر ترتيبا بين الامور التي لا يسبق بعضها الاخر" وسميت الرابعة بالاستقراء التام وذلك "ان اجري في كل الاحوال الاحصائيات والمراجعات الشاملة ما يجعلني على ثقة من انني لم اغفل شيئا"
اما الية هذا المشروع فقد وضع، على سبيل المثال لا الحصر، المفكر السوري الراحل طيب تيزيني بعض ملامحها البسيطة جدا، حيث دعا الى تبني هوية عمل، هي هوية مشروع نهوض عربي تنويري جديد. وهذا المشروع إذا كان يبدأ بواحد من مليون،فهو صحيح حين توضع العلاقة بين الواحد والمليون على نحو استراتيجي دقيق. وهو لن يكون صحيحا حتى إذا بدأ بالألف من المليون،حين يكون هذا الألف مبعثرا متناثرا وفاقدا القدرة على النمو باتجاه الهدف الكبير والبعيد، كون المشروع النهضوي متغير على أرض الواقع وفي داخله ، ولإنجاز مثل هذا المشروع الواعد، ينبغي ان تتمتع نخبة المشروع بالمثابرة واستعداد عميق للتضحية ، وإيمان واسع كي تكون مستندة إلى وعي لمعنى المشروع النهضوي" ، بمعنى اخر أن يتحسس الإنسان انتماءه العربي في شخصيته الوجودية، فعندما أفكر أنني عربي ينفتح وعيي على هذا التفكير ومن ثم أتحرك فردا ً ونتحرك جماعة أو أمة نحو العناصر الأساسية في العروبة وفي الفكر وحركة الحياة".
اما من جهتي، ومن دون العودة الى الجدلية بين الفكر والواقع وايهما نتاج الاخر، او تحديد الصلة بين الواقع والافكار، او ايهما يسبق الآخر، تجنبا من الدخول في المقارنة الشهيرة بين الدجاجة والبيضة وايهما جاء اولا. فالفكر بمجموع مفرداته، يبقى في كل الاحوال نتاج حرب مستمرة بين القديم والجديد لن تنتهي الا بنهاية العالم نفسه، وهذا ما اكد عليه علماء العصر الحاضر، بعد أن كان أسلافهم من علماء القرن التاسع عشر يعظمون من قدرة العقل الانسانى على امتلاك حقائق العالم. بمعنى اخر ليست الافكار التي تشكل الظروف الاقتصادية والسياسية لوعي الانسان، وانما العكس هو الصحيح وبالتالي نحن بحاجة اذن الى فكر عربي حديث يكون بامكانه الوصول الى جميع فئات المجتمع، عبر تحديد الكيفية للكيان الاجتماعي للوعي لينتج نظم إيمانية وقيمية محددة حسب البنية التحتية الاقتصادية السائدة. ويمر ايضا عبر النشاط السياسي الفعال بهدف الوعي السياسي واعادة يقظة الجماهير لدورهم السياسي والفكري وليس حصره على مجموعة من النخب والمثقفين والمتعلمين، توخيا لتفجير ثورة في الوعي العربي تتلائم ونتاجات الواقع الذي نعيشه بكل مفرداته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية، سواء كانت ذاتية او موضوعية، لتخدم في النهاية تطور هذا المجتمع وصولا لتحقيق وحدته وحريته وتقدمه. ومن حسن حظنا، فان تطور وسائل النشر والاتصال في عصرنا هذا يمهد لعهد جديد من التغييرات الفكرية، بل والثورية في العالم المعاصر، وما علينا سوى ادراكه واستخدامه في تغيير نمط حياتنا بصورة دقيقة ومنضبطة، خاصة بعد سقوط تلك النظريات الأوربية العنصرية التى حاولت تقسيم المجتمعات والشعوب إلى فصائل مختلفة، ومتباينة المستويات الفكرية والعقلية ، وذهبت في غمرة الاعجاب بالتقدم الاوربي الناشيء حينئذ الى افضلية بعض الاجناس على بعضها
ان السير بهذا الاتجاه ضروري جدا ليكون بمثابة اللبنات الاولى لثورة سياسية واجتماعية وثقافية وفلسفية رصينة وقادرة على تحصين نفسها من الاختراق من قبل الافكار المضادة وقواها ذات الباس الشديد، خاصة وان المجتمع العربي يعيش حالة ضبابية منذ نهايات القرن الماضي وبدايات القرن الحالي، فمن جهة فان عموم الناس قد اصابهم الارتباك الذي ترك فراغا كبيرا، بعد فشل عموم المشاريع ومنها المشروع القومي والشيوعي ومن ثم الاخواني المتشدد، وكذلك المشروع الديمقراطي او الليبرالي بعد تصديره عبر دبابات المحتلين وسيادة شريعة الغاب. ومن جهة اخرى تدني الانتاج الفكري والثقافي، وقلة الرموز الفكرية المؤثرة وذات الطابع الملتزم بالثوابت الوطنية والقومية، وعجزها عن الوصول او بلوغ مشروع فكري عربي قومي جراء سيادة الاتجاهات المختلفة واحيانا المنفصلة بعضها عن البعض الاخر رغم تجانسها، كونها جميعا وليد الحضارة العربية والاسلامية. في حين فشلت هي الاخرى مشاريع تحديث الاسلام، كمشروع بديل لكل هذه الافكار المختلفة، بل زادت الطين بله حين فرضت في الاونة الاخيرة المرجعيات الدينية نفسها، لتكون بديلا عن المرجعيات السياسية والوطنية والديمقراطية، الممثلة في قوى واحزاب سياسية لها تاريخ عريق وماض مجيد.
ولكي نقف على ارض صلبة وتكون خطواتنا الاولى صحيحة، لابد من الشروع في رحلة معرفية وميدانية لسبر غور المجتمع وفهم الواقع العربي بكل تفاصيله، وايجاد القواسم المشتركة للفكر العربي المشتت بين اكثر من عشرين دولة عربية، او لنقل بين مجموعات فكرية مختلفة تخص مجموعة من الدول. وجرد المستودعات السياسية والاقتصادية بدرجة رئيسية والفروق الجزئية بين المجتمعات العربية، فالتشابه يبلغ درجة التماثل احيانا وخاصة في السمات الاساسية والجوهرية اقتصاديا وثقافيا، وليس كما تروج بعض الجهات في التركيز على العارض وليس الجوهري والثانوي في المشتركات العربية. وفقرة النهوض القومي هي فقرة رئيسية في نضال اقطارنا سواء في المغرب العربي او المشرق، يضاف الى ذلك حاجتنا ايضا الى تعميق الاحساس بضرورة اصلاح وضعنا المتردي والنهوض به وتطويره من داخله لتحقيق طموحاته في الحرية والعدالة والتقدم الاجتماعي والعيش الكريم. ان تحقيق هذا الطموحات المشروعة تمثل مهمة تاريخية كبيرة قد تتجاوز طاقتنا، ولكن ما يسهل هذه المهمة التاريخية ان هذه النخبة التي جرى اختيارها ستحقق مراميها، كونها نخبة متحررة من الاوهام عن ذاتها، وستكون قادرة على نزع اوراق الخريف الصفراء من شجرة الفكر العربي، وكونها قادرة في نفس الوقت على تجسير العلاقة بين النخب الفكرية والثقافية وبين عموم الناس، وعبر مختلف الوسائل لترسيخ هذا الفكر في عقول الناس والايمان به والاستعداد للتضحية في سبيله.
بالمقابل وعلى الجهة الاخرى، فانجاز هذه المهمة التاريخية يقودنا الى الانتباه بالقدر الكافي الى الفرق الهائل بين واقعنا الحالي وبين الصورة التي نحلم بها كما حلم بها الرواد الاوائل، وهذا الفرق ادى الى عجز احياء اي مشروع نهضوي او تجديد الفكر العربي، اي انفصال النخب الى حد كبير عن واقعها. وهذا يتيح لنا التعرف على طبيعة الإشكالية التي تواجهنا، وما تحيط بها من تجارب ومن ظروف ذاتية وموضوعية وهذا شان كل حراك فكري وسياسي واجتماعي جدي يمهد الانتقال الى المجال الاوسع الذي بامكانه صياغة المستقبل واعادة بناء القيم وتنسيقها على قواعد جديدة، حيث يبقى التاريخ يحمل معه النبض الحي وان كان بدرجات متفاوتة فعدم التمييز بين المجالين والتداخل بينهما سيوقعنا في اخطاء فادحة وأفضل مثال على ذلك، تلك الجهود الضائعة للمدافعين عن الهوية والتراث، الذين لايرون فرقاً بين الأسس الثقافية للنهضة ومنظومتها القيمية. بمعنى اخر نحن امام احداث نهضة عربية جديدة اكثر تطورا وتاثيرا من النهضة العربية، التي شملت حينها مصر وسوريا في القرن التاسع العاشر وامتدت لتشمل عواصم عربية اخرى مثل بغداد وفاس ومراكش وحققت انجازات مهمة مثل انتشال اللغة العربية من حالة التقهقر، وقدمت أدبا عربيا معاصرا للمرة الأولى منذ قرون، وعبر الجمعيات السياسية، بعثت النهضة مشاعر الهوية العربية مجددًا، كما ناقشت قضايا الهوية للبلاد العربية المختلفة وعلاقتها بالرابطة العثمانية.
وفق هذا السياق ينبغي لهذا المؤتمر المبارك، ان يكون بمثابة نهضة او ثورة فكرية حديثة، تتجاوز قصور ما سبقها من محاولات، ومن ثم تطويرها الى حركة ثقافية وفلسفية واسعة تشمل عموم الناس. خاصة وان مجتمعنا، يعج بافكار مختلفة، كالفكر الشيوعي والليبرالي والعلماني وفكر الاسلام السياسي المتطرف، وهذه الافكار بمجملها تعمدت تشويه معالم الفكر القومي العربي واعتبرته فكرا متخلفا عفى عليه الزمن وتجاوزته الاحداث، ثم جرت محاربته بكل الوسائل المشروعة وغير المشروعة، من قبيل وصف الفكر القومي بالايدلوجية الخطرة والافق الضيق او اعتبار القومية سما ايديولوجيا وخللا أخلاقيا، وحين اشير الى هذه الملاحظة لا اقصد اطلاقا رفض التعامل مع كل هذه الافكار التي لها حواضن شعبية، او الانعزال عنها، وانما اقصد التعامل معها بحكمة وصبر والحوار معها وفق مبدا الإعتراف بالاخر، ليتسنى لنا الدفاع عن مشروعنا التحديثي لتمهيد الطريق لنشره في صفوف اوسع فئات المجتمع وطبقاته وقومايته ومذاهبه المختلفة، ليكون مؤهلا لنقل هذا المجتمع من حالة التخلف الى حالة متقدمة.
نعم لقد جرت في العقود الماضية محاولات لقيام نهضة فكرية، من قبل مفكرين ومثقفين لتلافي هذا النقص الفكري الخطير، مثل المؤتمر القومي العربي او انشاء بعض مراكز دراسات عربية وفكرية الخ. لكن هذه المحاولات عجزت عن تحقيق نجاحات ذات اهمية، او الوصول الى غاياتها المنشودة، وذلك بسبب محدوديتها، وعدم القدرة على صياغة متطورة ودائمة من جهة. وعدم الربط بين الجوانب السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية من جهة اخرى. يضاف الى ذلك عجز هذه المحاولات عن تاسيس قواعد التلازم، او الثنائية الجدلية بين الفكر وممارسته العملية، او كما يقال الربط بين النظرية والتطبيق، او الربط بين الهدف المطلوب والطريق المؤدي اليه، حيث جرى حصر هذه المحاولات بين فئة من المثقفين والمتعلمين بدل نشرها وتعميم افكارها بين عموم الناس، لتنتهي الى نوع من انواع الترف الفكري او الثقافة الاكاديمية، بدل تحولها الى حركة مجتمعية شاملة في السياسة والثقافة والفن والاقتصاد.
امام هذا المؤتمر المبارك فرصة كبيرة لتحويل حلم النهضة العربية الذي تعثر الى حقيقة ونكون نحن المجتمعين الوجه المشرق للرواد الاوائل لتلك النهضة العربية لنتمكن من التغلب على جميع المخاطر التي تتعرض له ثوابتنا الوطنية والقومية واولها حب الوطن والتمسك به والانتماء اليه، وكاتب هذه السطور يطمح بداية التركيز على الثوابت الوطنية والقومية في الفكر الحديث جراء غزو الافكار الشعوبية وفي مقدمتها الافكار الفارسية الصفوية التي يكره اصحابها امة العرب وما يمت اليها من تاريخ وحضارة وثقافة اصيلة. ولا اجانب الحقيقة بالقول باننا قادرون على تحقيق هذا الهدف النبيل وبناء الوعي الذي نريده ونجعل الناس قادرين على التمييز بينه وبين الوعي الفاسد والمزيف. خاصة اذا تظافرت هذه الجهود مع جهود الاحزاب الوطنية والقومية بالذات، واذا ما تمكنت من سد الفجوة التي حدثت بين منطلقاتها السياسية والمنطلقات الفكرية، وتحديد الاسس والاطر الفكرية الواضحة والمتكاملة.
يقول افلاطون قليل من العلم مع العمل به انفع من كثير من العلم مع قلة العمل به.
عوني القلمجي
4/6/2019
676 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع