رمضان وحديث الذكريات

                                           

              الأستاذ الدكتور باسل يونس ذنون الخياط
                 أستاذ متمرس/ جامعة الموصل

             

رمضان وحديث الذكريات

هناك العديد من العادات والتقاليد المتوارثة في البلدان الإسلامية خلال شهر رمضان. ولكل بلدٍ عاداته الخاصة به في استقبال الشهر الفضيل ومعايشته له، وهذه العادات المتوارثة جيلا بعد جيل تُضفي على أيام وليالي الشهر الفضيل هالةً من الروحانية والخصوصية التي يتميز بها كل مجتمعٍ عمن سواه، ويوحّد بينهم دوماً ابتهاجهم بحلول الشهر الكريم.

لقد حلَّ رمضان في هذه السنة في أجواء حزينة بسبب جائحة كورونا والتي بسببها أغلقت الجوامع أبوابها، وحُرم الصائمون من صلاة الترويح وأجوائها الرائعة. كما أوقفت جائحة كورونا عادات رمضانية تشتهر بها بغداد والمدن العراقية وفي مقدمتها لعبة (المحيبس).

ومن الفعاليات الرمضانية التي كانت تحرص عليها البلدان الإسلامية، استضافة علماء دين كبار وقُرّاء قرآن أعلام من خارج البلد خلال شهر رمضان. وأذكر في السبعينيات تمت استضافة معاون عميد الأزهر خلال شهر رمضان من قبل أحد أثرياء الموصل. كما كان شهر رمضان موسما لقُرّاء القرآن المشهورين والذين كانوا يجوبون البلدان الإسلامية خلال الشهر الفضيل.

رمضان في الزمن الجميل:
كان لشهرِ رمضانٍ نكهةٌ خاصة، وتبدأ التحضيرات للشهر الفضيل قبيل قدومه، فيقوم الناس بشراء المواد الغذائية التي يحتاجونها والحلويات والعصائر. وللشهر الفضيل عاداتٌ وتقاليدٌ منذ القِدم تتمثل بالزيارات المسائية بين الاقارب والجيران وتبادل الدعوات إلى وجبات الافطار، والتي من شأنها زيادة الألفة والمحبة بين العوائل.

ومن الملاحظات التي لفتت نظري عند معايشتي في اليمن: الازدحام لدى محلات الصاغة في رمضان، وعندما سألت عن السبب في ذلك ذكروا أن الزيارات الرمضانية بين العوائل تؤدي إلى تنشيط حركة الخطوبة والزواج.

وقبيل آذان المغرب كانت الناس تترقب سماع (مدفع الإفطار)، أما الأطفال فكانوا يصعدون إلى السطوح وبأياديهم قطع التمر لترقب إنارة المنائر وسماع أذان المغرب. وكانت العوائل تتجمع حول مائدة الإفطار والتي يزينها التمر وشربت الزبيب وشوربة العدس والقيسي و"الكبة الحلبية" و "الدولمة" و"الهريسة".

وبعد وجبة الإفطار يأتي دَور الحلويات؛ وبخاصة الزلابيا والبقلاوة فضلا عن المحلبية والكاستر. ومع حلول وقت العشاء تتوافد جموع المصلين إلى الجوامع لأداء صلاة العشاء ثم صلاة التراويح بأجوائها الروحانية الرائعة.

وبعد الانتهاء من الشعائر الدينية تفتح المقاهي ومحلات الحلويات والكرزات أبوابها ويتوافد الناس لشراء البقلاوة والزلابية وزنود الست والكنافة وغيرها. ويتوافد الناس على المقاهي الشعبية وتبدأ لعبة (المحيبس) ولعبة (الصينية) وتستمر حتى ساعات متأخرة من الليل بأجواء من المحبة والسرور.

     

لعبة "المحيبس":
ومع حلول شهر رمضان المبارك كانت تنتشر الألعاب التراثية الشعبية في الشارع العراقي، مثل لعبة (إخفاء الخاتم) "المحيبس" والتي تستمر ليلا إلى ما قبل السحور. وفي ستينيات القرن الماضي كانت تجري تصفيات على غرار تصفيات كرة القدم بين مناطق بغداد الشعبية في شهر رمضان، ويتم تكريم الفريق الفائز وأفضل اللاعبين عبر لجنة تحكيم مختصة.

وتعد لعبة "المحيبس" من أقدم الألعاب الشعبية، إذ تمتد إلى العصر العباسي، وهي واسعة الانتشار في المناطق الشعبية أكثر من المناطق الحضرية. وتُمارس هذه اللعبة في الأحياء والمقاهي الشعبية، وتقام المباريات بين أبناء المنطقة الواحدة، أو بين المناطق المجاورة. وقد قامت بعض الفضائيات بتقديم هذه اللعبة على شاشتها وفق طرق عصرية.

وتركز لعبة "المحيبس" على تشكيل فريقين قد يصل العدد إلى مائة شخص لكل فريق، ويتم إخفاء "الخاتم المنشود" ويبدأ الفريق الخصم في رحلة طويلة للكشف عن الخاتم وانتزاعه من الفريق الآخر. وتعتمد اللعبة بالأساس على الفراسة وقراءة العيون وإدخال هاجس الخوف لدى حامل "الخاتم المنشود" وصولًا إلى انتزاعه؛ وهناك طرق تمويه للفريق حامل "الخاتم المنشود" لإيهام الفريق الخصم أنهم يحملون "الخاتم المنشود".

القرقيعان والماجينا:
القرقيعان والماجينا من العادات الرمضانية الموروثة في بلدان الشرق الأوسط، وكان ينتظرها الأطفال في منتصف الشهر الكريم. حيث ينطلق الأطفال في رمضان بعد صلاة العشاء عند اكتمال البدر، مبتهجين فرحين بهذه المناسبة الرمضانية، وهم يحملون بأيديهم قناديلهم المتلألئة بأنوار البهجة والفرح، يتأبطون أكياسا ملونة، أعدت خصيصا لهذه الليلة المباركة، ليجمعوا فيها الحلوى والمكسرات، يطوفون بين الأزقة ويتجمعون عند كل باب لينشدوا بأصواتهم الشجية، ويرددوا أعذب الألحان والترنيمات، التي تفيض بالطهر والبراءة، يصدحوا بالأهازيج التي تتسم بالدعاء لصاحب الدار وأسرته.

وما أن تسمع ربة المنزل هذا النداء الطفولي حتى تخرج إليهم مسرعة، حاملة معها كمية من النقود أو الحلوى، فترحب بهم، وتشجعهم على مواصلة الاحتفال واللعب المُعبِّر عن براءة الطفولة وصفائها.

يقال أن كلمة (القرقيعان) مقتبسة من (قرع الأبواب)، وتشير المصادر التاريخية إلى أن جذور (القرقيعان) ترجع إلى ولادة سبط سيد الكائنات (صلى الله عليه وسلم)، ففي ليلة النصف من رمضان من السنة الثالثة للهجرة كان سيدنا المصطفى ينتظر أول وليد لبيت النبوة والرسالة، وما أن بُشِّر بولادة (الحسن) عليه السلام حتى أسرع إلى بيت فاطمة فرحا مسرورا، وقامت أم الحسن عليها السلام في تلك الليلة بتوزيع الحلوى على الناس، وهكذا بقيت هذه العادة جارية في المسلمين حتى يومنا هذا.

في البصرة يردد الأطفال:
قرقيعان وقرقيعان
عادت عليكم صيام
كل سنة وكل عام
عطونا الله يعطيكم
بيت مكة يوديكم

وفي بغداد وشمال العراق يردد الأطفال:
ماجينا يا ماجينا
حلّي الكيس وانطينه
تنطونا لو ننطيكم
بيت مكة انوديكم
هاي مكة المعمورة
مبنية بجص ونورة
يا أهل السطوح
تنطونا لو نروح

وإذا طال عليهم الوقوف ولم يخرج إليهم صاحب الدار يصرخون بأعلى أصواتهم: (يا اهل السطوح... تنطونا لو نروح). فيخرج أصحاب الدار ويعطونهم ما لديهم من حلويات ونقود وفواكه وكليجة (معجنات). وبعض أصحاب الدور لا يعطونهم شيئاً وإنما يسكبون الماء عليهم من فوق السطح، وتكون هذه وصمة ثقيلة لأصحاب البيت البخلاء!!

بعض المصادر تقول أن (الماجينا) كانت تُمارس في العصر العباسي، وتتضمن الطلب في منتصف الشهر المبارك: (يا صاحب الـبيت أجر جـوعان يـا ربنا أعطه بيتـاً في عالي الجنان)، وكـان الفقراء يقصدون بيت الخليفة وبيوت الوزراء والأغنياء بهذه الأغنية طوال ليل ونهار منتصف رمضان كما ذكـر أبو الفرج الأصفهاني في المجلد الخامس من كتاب "الأغاني".

القرقيعان والماجينا اليوم:
واليوم، ماذا يغني الأطفال وقد اختفى هذا التقليد الجميل؟ وازدادت المعاناة بعد أن ألقت جائحة كورونا بظِلالها الثقيلة وحرمت الكبار والصغار من الأجواء الرمضانية الروحانية وفي مقدمتها صلاة الترويح.

ونتيجة للظروف الصعبة التي عاشها العراقيون خلال السنين الأخيرة فقد كتب الشاعر المبدع صباح الهلالي:
ماجينا يا ماجينا
ليش العالم ناسينا
ليش أحنا أنفكر بالناس
شو محَّد فكر بينا
يا رب انته راعي البيت
احفظنه واحفظ هالبيت
دقينا الباب برمضان
ردنه ضماد من الجيران
يا أهل السطوح
جيرانكم مجروح
وابن الجيران الحباب
اجه يركض فتح الباب
بس فجّر نفسه علينا
ماجينا يا ماجينا

أما الشاعر المبدع كريم العراقي فيقول:
ماجينا يا ماجينا حلّي الكيس وانطينا
لا تعطينا قنابل.. بورده وبوسه صبحينا
ولا حتى ورده وبوسه نعيش.. بأمان خلينا
ماجينا يا ماجينا حلي الكيس وانطينا
خلي الأطفال يعيشون خلي الأطفال يلعبون
خلي الأطفال يدرسون
خلي الأطفال ينامون

وكل رمضان وأنتم بألف ألف خير.

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1073 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع