المرأة في الكرسي الهزّاز

                                                 

                          سمية العبيدي

المرأة في الكرسي الهزّاز

وضعت كفيها المعروقتين في حجرها تمسك احداهما الاخرى كتوأمين متطابقين , فكأنَّ احداهما تخشى أن تفلت الاخرى فترحل عنها الى مستوى آخر لا تدريه ولم تخبره بعد . كانت أصابع العجوز المتعبة تلتف سلامياتها الطرفية الضامرة ثم تنضم مُحدقة بطرف الكف السفلية , وبين حين وآخر تتململ السلاميات للحظات معتقة كفّها السفلى من ربقتها بعض الشيء . 

ارتخت فوق الكرسي بهمود المرض لا بهمود الاسترخاء . ثم اتجهت بنظرها الى شجرة الحمضيات الكبيرة والتي كانت بعض أغصانها تتكىء الى الباب الخارجي الحديدي الكبير , أملت أن ترى زهور البرتقال اللؤلؤية , بعد أن فاتها تقريبا أن تشمّها , لكنها شعرت باحباط ثانٍ - حيث كانت تنتظرهذا الموسم كل سنة بلهفة عاشق غير عادية للتمتع بهذه الزهور . وظنت انها ان فاتها العطر فلن تفوتها الرؤية ولكن هذا ما حدث فعلا ً - .
كانت قد أشارت ذات يوم لرغبتها في الاسترخاء على كرسي هزّاز لتسترخي وتتمتع , فهذا كان في ظنها فقط ما يوازي كمية الجهد الذي كانت تبذله آنذاك . ولكنها لم تحسب ان هذا الكرسي يمكن ان يكون نوعا آخر من انواع السجون , فها هي فيه أسيرة .
عادت ذاكرتها لأشجار الحمضيات , ها هي تجلس بينها وتحتها وسط العائلة وكرات الذهب تتدلّى فوقهم كنجوم دانية القطوف وحولها الأطفال يلعبون ويتمتعون بالشذى وخضرة المرج الحريرية . ونسيم دجلة يشتاق لرئات يملؤها ويغسل باطنها من هواء المدينة المليء برائحة المحروقات . انصرف ذهنها لحظة عن الشجر والعبق الى الطفل الذي وجدته ذات يوم ممددا غافيا - حتى حسبته ميتا – خارج سياجها الرمادي في ظل شجرتها , وقد فقد احساسه بالاتجاه والكينونة وتوشك الحياة أن تفرَّ منه , اذ كان الجوع اضافة الى أشياء اخر قد مدَّ يديه القاسيتين اليه . لم يقوّ على الكلام بلسانه ولكن عينيه قامتا بالواجب , التهم ما وضعت من طعام بين يديه وذلك أول ما فكرت به لنجدته , لكنه انسل بعد الأكل دون ان تدري , تاركا وراءه مع الصحون الفارغة علامات استفهام لا حصر لها .
عادت الى حديقتها ورأت نفسها تفترش المرج المهترىء - كرأس رجل نال منه الصلع في العديد من المواضع - تفترشه لترقعه , عله يغدو كما تريد وتتمنى سهباً جادت عليه السماء , غير ان مساحته الصغيرة واحتجاب الشمس عنه بالجدران والاغصان كانا يحولان دون ذلك . فرفض ان يزهو , مما أغاظها فتركتــــه ليدفن تحت بلاط بارد .
انصرف ذهنها المائع تارة اخرى الى فيضان هدد مدينتها العريقة قبل ما يزيد عن نصف قرن حيث خرج أبناء المدينة الطيبون ليملأوا أكياس الطحين والرز والسكر الفارغة بالرمل كيما يسدوا الثغرات في الاماكن المنخفضة . وقدأخذت النسوة اللاتي خرجن بعباءاتهن السود خرجن بالطعام والماء خلف بعولتهن أو ابنائهن وتبعهن ابناؤهن الصغار فاسرعن ليذن أطفالهن عن حافة الماء وقد كان لهن نصيبهن من الفيضان قلقا على اسرهن , وتشجيعا للمتطوعين .
عادت تنظر الى ما امامها , حامت حولها فراشة جميلة واذ رفعت رأسها اليها تتابعها قدر الامكان دخلت في حلم شباب حقيقي , ورأت نفسها تصطاد فراشة ملونة زاهية لتقتلها وتصبّرها محنطة على غُصين تعلقه على جدار غرفة الجلوس , رغبة في التأنق وتجميل المنزل , ولمّا انتبهت لما تفعل وان ذلك غير أخلاقي بتاتا ندمت كثيرا ولات ينفع الندم , واذ أوشكت أن تفك أسر المخلوقة البديعة وجدتها ميتة . حزَّ ذلك في نفسها كثيرا حتى انها لم تنس الامر بتاتا , وأخذت تنظر الى أصابعها بكره , وهنا نظرت الى أصابعها باشمئزاز ولكنها لم تجد نفس الاصابع الشابة الجميلة والقاسية , بل وجدت كفا نحيفة مغطاة بجلد معروق .
رفعت قنينة ماء من فوق منضدة صغيرة بجانبها الى فمها العتيق المتيبس لتأخذ جرعة منه , وانزلق ذهنها الآبق الى عربة الدفع التي جاء بها شاب مرتجف من خارج الحي جاء بها الى داخل الزقاق محاولا الهروب بها وبما فيها الى جهة مجهولة , وفيها شاب آخر قتيل ممدد على طوله وتخرج قدماه وبعضٌ من ساقيه من العربة , لم تر َ دما ولا جرحا ً ً رقد القتيل منكفئا على وجهه داخل العربة كأنه نائم , كان ذلك أيام انفلات أمني غير معهود . واذ اجتمع حوله شباب الحي والجهة المسؤولة المؤقتة وبعد تداول ولغط وجذب وشــد انصرف المرتجـــف الشاب بعربته وقتيله .
أغلق أحد ما بابا بمنتهى العنف في الجوار , اهتزت واهتز كرسيها العجوز ايضا , انحدر ذهنها ايضا الى ليلة ليلاء من أيام القصف الظالم لمدينتها الحبيبة حيث ولشدة القصف مادت الارض بهم فعلا وشعروا بها جميعا تنسحب من تحتهم كأنها تسير , واذ كانت ابنتها تخاف حد الموت صرخت , فتمددت هي بجسدها الضخم فوقها تماما لحمايتها . بالأحرى لتطمئنها .
ارتفعت الشمس , وصلت الى حيث كرسي العجوز وبعد دقيقة خرجت امرأة شابة من داخل الدار الى الطرقة المرصوفة - ببلاط شاحب كوجنتي امرأة الكرسي - أمام غرفهِ لتساعد العجوز على الخروج من كرسيها الهزاز ولتدخلها الى المنزل بخطوات هادئة موزونة .

*****
سمية العبيدي

نشرت في مجلة العربي وفازت بجائزة bbc Arabic في 29 - 3 /2014

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

802 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع