من حكايات جدتي ... الخامسة والسبعين

                                           

                        بدري نوئيل يوسف


من حكايات جدتي ... الخامسة والسبعين

الملك والصيد الثمين

حدثتني جدتي عن حكمة للنساء المتزوجات اللاتي يشعرن سوء معاملة أزواجهن، تقول جدتي: تزوجت فتاة شابة في إحدى القرى النائية وكانتىمستاءة من ذلك الزواج لأن زوجها كان يسيء معاملتها، ومن أجل هذا انطلقت الفتاة لتشكو زوجها لدى شيخ القرية، وتطلب منه عوناً في حل مشكلتها، قال لها شيخ القرية الذي حنكته التجارب:
يتوجب عليك أن تنزعي بنفسك شعرات من ذئب حي، ثم اجلبيها لي حتى أستطيع تليين قلب زوجك، فكرت الفتاة كيف يمكنها أن تفعل ذلك؟ كيف يمكنها أن تنزع شعرات من ذئب حي؟
وأخيرا قررت الذهاب إلى الصحراء لعلها تجد ذئب، وهي في الصحراء رأت ذئباً يجر معزة وينطلق بها إلى الغار، راحت تراقب الذئب وترصد جراء الذئب يرضعون من أمهم، وفي اليوم التالي أخذت الفتاة قدراً من اللحم والعظام
ووضعتها في طريق الذئب، جاء الذئب وأكل قسما من العظام وحمل الباقي إلى جرائه، وكل يوم كانت الفتاة تفعل ذلك شيئاً فشيئاً راحت تقترب أكثر فأكثر.
الذئب اطمأن للفتاة واستطاعت التقرب منه وراحت تلاعب الجراء، وذات يوم وهي تمسح على رؤوس الذئاب الصغيرة، انتزعت بلطف عدة شعرات وذهبت بها لشيخ القرية، اندهش الشيخ وقال: كيف أمكنك أن تفعلي ذلك؟
كيف تسنى لك أن تنزعي شعرات من جسم ذئب حي؟ وقصت الفتاة على الشيخ ما جرى وقالت: لقد توددت للذئب حتى أصبح يطمئن لي فلا يؤذيني قال الشيخ لها: يا ابنتي لقد استطعتِ ترويض ذئب مفترس، وحيوان كاسر، أفلا تستطيعين ترويض زوجك! افعلي معه ما فعلتِ مع الذئب، لو أنك توددتِ له سيقع في حبكِ ويصبح قلبه أسيراً بين يديكِ، وقديماً قالوا (الإنسان عبد الإحسان).
نعود لحكايتنا اليومية تقول جدتي: كان في قديم الزمان ملك من الملوك اسمه صقر، صاحب دين وحكمة وأخلاق وعادل بين الناس، لم يرزقه الله سبحانه وتعالى سوى بولد واحد، فرباه أحسن تربية وعاش على الرفاه والدلال، وتعلم الأخلاق الفاضلة وحسن المعاملة، حتى يحبه الشعب ويصبح ملكاً عليهم بعد عمر طويل، وأمه كانت جميلة وبنت أصل أحبّت ابنها كثيراً وتعلّقت به، ولم تعد تصبر على فراقه.
شبّ الولد وكبر وأصبح جسمه قوياً جميل الأوصاف، لكنه كثير الحركة تولّع بالصيد والقنص والسفر، في أحد الأيام قرّر الولد أن يخرج مع أصحابه إلى القنص، فتجهّز الشاب قبل الفجر للخروج إلى الصيد، فلما رأته أمه قالت له: أنا خائفة عليك يا ابني وبالي مشغول، لا تخرج إلى الصيد حتى لا يحدث معك سوء فالزمن غدّار، اقعد في القصر وتمتع بحياتك فلا ينقصك شيئاً.
ضحك الأمير وقال: أنا لم أعد صغيراً يا أمي حتى تخافي عليَّ فقد صرت رجلاً، ارتاحي وطمّني بالك سأعود لك بالسلامة، ومعي الصيد الوفير إن شاء الله تعالى، حزنت الأم وذهبت إلى الملك وقالت له: إما أن يبقى ابنك ولا يخرج إلى الصيد، وإمّا أن تذهب مع ابنك حتى تبقى عيونك عليه وترعاه حتى يرجع بالسلامة.
سمع الملك كلام زوجته وجهز نفسه، وخرج مع ابنه إلى صيد الغزلان في الصحراء ليرافقه ويعتني به ويحميه من غدرات الزمان، في الطريق قال الملك لابنه: سنرى من يصيد أول صيد أنا أو أنت، فردّ عليه الابن: أنت فارس الفرسان يا أبي، ولا أحد مثلك في العالم، وبقيا يتحادثان ويتضاحكان مسافة بعيدة، حتى شاهدا غزالاً يمرّ من أمامها، فرماه الأمير بالسهم الأول وحاول ألاّ يصيبه عن قصد، ورمى عليه الملك فأصابه، وفرح الجميع بهذا الصيد وحملوه على الحصان، وتابعوا طريقهم مسافة من الزمن فشاهدوا طيراً كبيراً قدر النعامة، واقفاً على رأس تلّة صغيرة قريبة منهم، قال الملك لابنه: أنت تذهب من هذه الجهة وأنا أذهب من الجهة الأخرى، فنحاصره فإذا خلص من واحد تلقّاه الثاني.
سمع الأمير كلام والده ولما اقترب من الطير، وأصبح على مرمى سهمه، طار الطير ثم نزل بعد مسافة، فلاحقه فطار وابتعد كثيراً، وبقي يلاحقه حتى تمكّن منه وأصابه بسهم فقتله، فرح الأمير بصيده ولم يدر أين أصبح والده، وكان الأمير تعباً فجلس يرتاح وقد هدّه الجوع والعطش، والمشي الطويل تحت الشمس، فنصب سهامه على الأرض، وفرش الطير على السهام وفرد جناحيه واستظلّ به ينتظر مجيء والده الملك.
أما الملك فإنه لاحق الطير من الجهة الأخرى، ورماه فلم يصبه ولما طار تابعه مرة أخرى، وسار وراءه وأضاعه ثم رآه بعد فترة واقفا وفاتح اجنحته، فأطلق عليه سهماً فأصابه لكن الطير لم يتحرّك من مكانه، فرماه بسهم آخر، اقترب الملك منه بحذر وهو يشعر بالفرحة والغبطة، ويحدّث نفسه قائلاً: سيرى ابني حقيقة أنني أحسن صياد في المملكة؟
ولما وصل إلى الطير رأى منظراً صعقه، وطيّر صوابه وفجّر عواطفه، فقد كان ابنه على الأرض ملطخاً بدمائه، وقد أتى سهم أبيه في قلبه، فارتمى الملك على ابنه واحتضنه، وبكى وناح عليه، ثم حمله على كتفه وحمل الطير على الكتف الثاني، وعاد إلى جماعته فقصّ عليهم حكاية المصيبة التي وقعت له، فحزنوا على الأمير ثم لفوه بثوب من القماش، ووضعوه على حصانه وعادوا إلى ديارهم.
استقبلتهم الملكة ملهوفة وسألت عن ابنها، فأجابها الملك بكل رباطة جأش: لقد تأخّر قليلاً وهو قادم مع الصيد، ورأت حصان ابنها يحمل لفّة من القماش، فسألت عنها. فأجابها الملك: إنه أكبر صيد صدته في حياتي وقد حملته على حصان ابنك، وقبل أن ننزله وأريك إيّاه أريد منك أن تأتي لنا بأكبر قدرٍ في البلد حتى يسعه، ولكن على شرط أن يكون القدر من بيت لم يدخله حزن حتى الآن، فقبل أن تسألي عن القدر اسألي إن كان أهل البيت قد أصابتهم مصيبة، ودخل بيتهم الحزن أم لا؟
أطاعته الملكة وذهبت تبحث عما طلبه، وهي متعجبة من أمره وأمر شرطه، وبعد بحث طوال النهار عادت الملكة في آخر النهار خالية اليدين، وقد هدّها التعب والبحث والسؤال، وقالت للملك: لقد درت على كل البيوت وسألت كل الناس، فلم أجد بيتاً لم يدخله حزن، أولم تحدث فيه مصيبة فما العمل؟
فكّر الملك قليلاً وسألها: وهل دخل بيتنا الحزن قبل الآن، أو حدثت عندنا مصيبة؟
فأجابته: لا يا ملك الزمان لم يحدث شيئاً مما تقول.
فقال لها حزيناً: الآن تساوينا مع الناس؛ أنزلي ابنك من على الحصان، فهو الصيد الكبير الذي صدته اليوم، ودعينا نحزن عليه كما حزن الناس على مصيبتهم.
كان الحزن قد تمكّن من الملكة خلال جولتها على البيوت، وما سمعته من المصائب والأهوال التي جرت لهم، فهانت عليها مصيبتها وأقامت العزاء ثلاثة أيام؛ بعدها عادوا إلى حياتهم العادية، وعاشوا بقية حياتهم بالرضى والنعيم والسلام

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1050 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع