ســقــــوط ســــــــرداب

                                                                                          

                          سيف شمس الدين الالوسي

                


هذا العنوان لرواية نشرت مؤخرا للروائي العراقي نوزت شمدين ، ما أن سمعت بها أول مرة حتى تملكني الفضول بقراءتها ، كأنني عرفت ما تحتويه من مفردات وتجارب وعبر وحكم، عنوانها كان بالنسبة إلي بابا لعالم مجهول سيكتشف شيئا فشيء .

تقت للحصول على هذه الرواية ، وبما أني بعيد عن الكتب العربية ، حاولت البحث عنها في الانترنت فلم أجدها ، بقيت هذه الرواية معلقة في ذهني ، أريد قراءتها ، وكم كانت سعادتي بالغة حينما اتصل بي الأخ والصديق والأستاذ الروائي (نوزت شمدين ) ليخبرني بأنه سيبعث لي نسخة في البريد .
ما أن استلمتها حتى هرعت مسرعا لقراءتها ، سرعان ما تعلقت بها ولم استطع ترك صفحاتها ، فانشغلت فيها ، وقرأتها حرفا حرف .
(ثائر) هو أيضا ثائر ، بطل هذه الرواية الذي يكتشف نفسه ويعيد صقلها من خلال عزلته ومكوثه في سرداب قديم في بيت عتيق في حي من أحياء مدينة الموصل التاريخية .
يقرر ثائر بعد تخرجه من كلية القانون الاعتزال عن الناس آو الهروب منهم ، بسبب التجنيد الإلزامي الذي فرضته الأنظمة ، هو يختبئ من أيادي البطش والتعسف بإرادته ، هو من يصنع قدره ، هو من يدع نفسه في السجن، كما يخبرنا الروائي في أول سطر من روايته ((لم يكن اختبائي في السرداب صدفة حياتية طارئة أو نزوة شاب قرر فجأة العيش في قلب الظلام )) .
(اثنتا عشر سنة  وشهران وثمانية وعشرون يوما وواحد وعشرون ساعة وسبعة دقائق ) المدة التي قضاها ثار مختبئا في سرداب بيتهم ، كيف لا وهو الوحيد لأهله ، لديه خمسة أخوات، لم يكن ثائر رجل جسور يستطيع مواجهة الحياة ، بل كان يتأتئ في كلامه ، ويميل إلى العزلة ، وبعد تخرجه من كلية القانون جامعة الموصل وبسبب الحروب تقرر والدته  وضعه في سرداب بيتهم ، وتضع على باب السرداب صورة كبيرة لصدام حسين لكي لا يتمكن احد من إزالتها في عمليات التفتيش التي تداهمهم بين الفينة والأخرى للبحث عنه حتى ولو أعلنوا عن سفره إلى خارج العراق ، فالفرق الحزبية لا يصدقون بذلك .
عندما ينزل إلى سردابه يخاف منه ويخشاه ، ولا يستطيع التحرك فيه بسبب خوفه من الظلام وبسبب ما سمعه من أساطير والدته التي كانت تخبر أخواته بان أرواحا شريرة تسكنه لتمنع دخولهن فيه لسبب كان يجهله .
شيئا فشيء يستأنس فيه ويتجول بأروقته وغرفه ، ويتخذ منه غرفة تؤويه وينصت ويتخذ من مذياعه رفيقا له، يمتلكه الفضول ويعبث في أركان السرداب المتكدس بالإغراض والحاجيات، هنالك عدة صناديق فيها خطابات والده العميد الركن ، ومجلات وصحف يومية، يبدأ بقراءتها ويعتكف عليها حتى ينهيها ومن ثم يعبث بصناديق أخرى ليجد هناك كتب جده  المؤرخ الموصلي جميل افندي  البالغة  4683 كتابا في شتى علوم المعرفة ، يقراها واحدا واحد، يكتشف فيها عالما آخر غير العالم الفوق ، يكتشف ذاته ايضا ، ما أجمل من أن نكتشف ذواتنا، وما أصعب من أن نكون في سلسلة من الظروف القاسية نتنقل بينها ، هو لم يشأ البقاء طوال هذه الفترة ولكن ما أن تنحل أزمة حتى تضعه في أزمة أخرى فيؤجل قرار خروجه من سردابه .
هنالك يكتشف تاريخ العراق وأحواله وجغرافيته وطبيعة سكانه، هنالك يكتشف حقيقة والده الشهيد الذي استشهد منتحرا في سردابه بسبب زملائه الذي لفقوا عليه تهمة ، فر منهم واختبأ هو الآخر في سردابه ، هرب من الإعدام ليعدم نفسه بيده بدلا من أن تعدمه أياد أخرى.
يخرج ثائر من سردابه بعد سقوط نظام صدام حسين واحتلال العراق من قبل القوات الأمريكية ، يشعر بحريته من خلال سماعه الخبر ، يتجول بشوارع المدينة التي غاب عنها اثنتي عشرة سنة ، يجدها هي الأخرى قد تحولت إلى دمار وأصبحت أشلاء بلا أرواح، وكأنها هي الأخرى كانت تعيش في سرداب، يجد الكثير من أمثاله فيها،هم الآخرون قد خرجوا من أقبية أو سراديب أو من رواية الشماعية لعبدالستار ناصر، يعود لحزنه وعرف بان اللعنة لم تحل عليه فقط بل على الجميع ، يعود راجعا إلى منزله ويتوجه إلى سردابه وليقول لامه .............. (أغلقيه ورائي )
هذا ملخص بسيط عن الرواية ، أعطانا الروائي (نوزت) دروس وعبر كثيرة فيها ، يروي لنا تاريخ العراق ، لقد لخصه فيها واخبرنا عن طبيعة المجتمع ومكوناته الدينية والقومية وكيف كانوا  يعيشون سوية وما هي علاقاتهم الاجتماعية والأسرية، عكس لنا الحياة اليومية للشعب العراقي ولمدينة الموصل .
هذا طور جديد ومدرسة جديدة استطيع أن اسميها (المدرسة النوزتية) فهي حاكت ما في القلوب، ابتعد الروائي عن الكلمات الغريبة التي لا تجدي نفعا كما يكتبها بعض الكتاب لكي يحاولوا إظهار مواهبهم اللغوية، يعتنون بصياغة الجملة بإدخال كلمات بالغة القدم ليصفوا بها أحداث الواقع ، فيبتعدون بذلك عن الواقع، لكن الروائي (نوزت) تلامس وانتقى كلمات جميلة وبسيطة تلامس الواقع  ليعكس في روايته صورة شعرية متناغمة مع ما يجري من أحداث راهنة، تجسد ما يشعر فيه الفرد ليجعل من القارئ وكأنه ثائر بطل الرواية ، وسرعان ما يتقمص شخصيته ، وهذا هو الفن الروائي الناجح .
سقوط سرداب هي مونولوج يصل صوته من الأقبية إلى العالم الخارجي ، سمعنا صوت ثائر وتعايشنا معه ، هذه الرواية التي تستحق الدارسة الدقيقة  والقراءة الرصينة وليست قراءة عابرة، لقد جارت وحاكت كبار الروايات ، فهي انعكاسات وانطباعات لروايات كبار مثل الإنسان الصرصار لديستويفسكي ، الذي يحاكينا أيضا من قبوه ، يصرخ للعالم ويحاول أن يعطي الملل للقارئ بإعطاء صورة ليست جملة عن شخصه ولكن القارئ يجد الفضول  والمتابعة بمعرفة أفكاره والى أين سينتهي به المطاف، ليجد أفكاره في غاية المتعة والحكمة ، ثائر أيضا يقول لنا بأنه ممل ولا يصلح لشيء لكننا سرعان ما نكون بداخله وكأنه يروي ما بداخلنا، وهذه الرواية أيضا كالمسخ لكافكا الذي يتحول لحشرة في صبيحة يوم من أيامه التعيسة ، هنالك يتخلى عنه الجميع ، ويبدأ بمناجاة نفسه .
وكذلك أيضا هي وحي من رواية ذكريات من منزل الأموات لديستويفسكي ، التي تخبرنا بمعاناة المساجين وكيفية العمل للقضاء على الملل اليومي فيقوم احد شخوصها بعد أعمدة السياج الخارجي للسجن، ويعود في اليوم الآخر يعدها مرة أخرى رغم معرفته بعدد الأعمدة ، كذلك ثائر يحاول القضاء على ملله بلصق ظهره على الجدار ويتحرك خطوة خطوة ويعد خطاه وبكل خطوة يقرا صفحات من الكتب .
هذه الرواية التي جمعت في طيات صفحاتها علم النفس الذي خاطب الذات وكيفية صياغة أنفسنا والتمرس على الوحدة ومن الممكن أن نقوم بأعمال لم نكن يوما نتوقع أن نقوم بها، وعكست لنا عن علم الاجتماع وطبيعة المجتمعات ، والتاريخ العراقي من حروبه وويلاته وثوراته، والأدب العربي والعالمي ، حكى لنا عن أهم الكتب والمؤلفين ، سرد لنا حكايات من روايات عبدالرحمن منيف ، الذي يظهر بان الكاتب قد قرأ بإمعان كتب وروايات عبدالرحمن منيف ، ليتعلم منها تجارب الحياة.
رواية سقوط سرداب هي رواية لا استطيع التعبير عنها بكل تفاصيلها بمقال بسيط ، تحتاج للكثير من الكلام ، وتستحق المزيد من الدراسات، وتحتاج أيضا إلى انطباع الروائي نفسه عنها ، لان هنالك أسرار مخبأة في سردابه هو، لا يمكن للقارئ اكتشافا ،  فأسرارها تكمن هنالك عند الكاتب .
أخيرا، استطيع القول بأن اغلب المدارس الأدبية والفقهية قد ولدت في العراق ، والآن قد ولدت مدرسة جديدة فيه ألا وهي (المدرسة النوزتية ) .

سيف شمس الدين الالوسي
بروكسل
24/يونيو/2015

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

797 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع