أوراقٌ مُختارة من سجلِ العلاقات العراقية – الإيرانية

                                      

                           د.رعد البيدر

                   

أوراقٌ مُختارة من سجلِ العلاقات العراقية – الإيرانية
" العلاقات في عصر الحضارات القديمة "

ما نَعنيه بعصر الحضارات هو العُمق التاريخي لدولة إيران الحالية مُمَثلاً بحضارتي "عيلام وفارس" . ومن نافلة القول ما لا يُقفَزُ عليه ، ولا  يُنكرُ بأن حضارة عيلام هي واحدة من أولى الحضارات في المنطقة ، وقد استمرت قائمة بين عامي 7000 – 539 ق . م .

كلمة فارس مشتقة من كلمة الفُرس، وهم قبيلة من القبائل الآرية البدوية التي هاجرَّت من أواسط آسيا واستقرَّت في جنوب الهضبة الإيرانية بمنطقة قرب شيراز - التي سُميَّت في ما بعد باسم إيران ، وفق ما تشير لذلك الكثير من مصادر التاريخ .  أطلق الفُرس على موطنهم الجديد تسمية " بارسيس"  وهي لفظة يونانية تعني ( السائب والغازي ) يقابلها بالتسمية بالعربية " فارس" . استطاع الفُرس أن يحكُموا الهضبة الإيرانية التي صارت تسمى بلاد فارس بمسميات دول- إمبراطوريات مختلفة منها الإمبراطورية الأخمينية ، والساسانية ، وامتدت أطماعهم الفرس وعدوانيتهم فشملت سيطرتهم وتحكُمِهم ببعضِ شعوب ودول الجوار.

تأسيساً على الوصف التاريخي  فأن المقصود بكلمة ( الفُرس ) من معنى - هُم أحفاد وورثة الإمبراطورية الساسانية ( إيران شاه ) أي سيادة الإيرانيين ( الآريين ) ، وليس من حقِ أحدٍ إن يُحاسبَ إيران على انتمائها القومي الفارسي واستحضار تاريخها الذي تعتبرهُ مَجيداً تعتزُ به ، فالتاريخ الإيراني الذي تفتخرُ به دولة إيران المعاصرة - هو تاريخ بلاد فارس فعلاً . أما القوميات المكوِّنَة للشعب الإيراني، والأقاليم الجغرافية التي تشَّكلُ إيران الحالية فهي أسيرة الانتصارات الفارسية في عصور ازدهار إمبراطورية بلاد فارس .

ومن الطرف الآخر كانت حضارات بلاد ما بين النهرين ( الرافدين ) التي تُمَّثل امتداد العُمق الحضاري للعراق المُعاصر في فترة الحضارات العراقية القديمة ، وهو المحور الذي ستتضمَّنُهُ السطور التالية مُمَثلاً بحضارات : سومر ، وأكد ، وبابل ، وأشور . لا يوجد مُنصِف بالقول أو بالقلم يُنكِرُ إسهامات حضارات عراق الرافدين على الإنسانية جمعاء ، وليس من غايات موضوعنا التوَّسُع بذلك .

احتلَ العيلاميون بابل ثلاث مرات ، كان آخرها عام 1157 ق . م ، وأظهروا حقداً وكراهية وانتقاماً قل نظيرهما في مُدَونات التاريخ ؛ إذا لم يسلم من تدنيسهم و تخريبهم حتى المعابد البابلية، إلا أن بقائهم في بابل لم يَدُم طويلاً ؛ فقد تمكَّن البابليون من طردهم وتحرير بلادهم في نفس السنة ، وأقاموا سلاله " بابل الرابعة " استكمالاً للسلالات الثلاث السابقة التي ابتدأت أولاها في بابل عام 1894 ق . م .

حققَ " نبوخذ نُصَّر الأول " رابع ملوك سلالة بابل الرابعة نصراً كبيراً على عيلام حين باغتها بهجومٍ خصَصَ له قوة كبيرة ، واختارَ له توقيتاً غير متوقع ، وبذلك انتقمَ من العيلاميين شر انتقام ؛ نظيراً لما قاموا به من إساءةٍ للمعابد البابلية خلال احتلالهم الأخير لبابل . لا يكادُ مصدر من مصادر التاريخ تناول تلك الفترة الزمنية - يخلو من الإشارة والإشادة  بالملك "حمورابي"  سادس ملوك تلك الدولة العراقية القديمة – الذي عُرفَ بالحكمة وحُسن الإدارة والتنظيم وتشريع القوانين طيلة فترة حكمه التي استمرت (42) سنة ، والثابت تاريخياً أن علاقات "حمورابي"  مع دولة عيلام قد تباينت بين مواقف الودِّ ومواقف التوتر.

ضِمنَ مُسلسل التآمر المُتواصل نحو الدول العراقية القديمة التي تشكلَّت في بلاد الرافدين وحَكَمَّت أراضيه ، فقد ساندت مملكة عيلام " ياقين الكلدي" أحد زعماء القبائل ومَكنَّتهُ من السيطرة على العرش البابلي الذي كان خاضعاً لنفوذ الآشوريين آنذاك ، فأعلَّنَ انفصال بابل عن مملكة آشور. ولإصلاح ما أفسدهُ المُكر والخديعة والتآمر العيلامي ، فقد جَهَّزَ الملك الآشوري " سنحاريب بن سرجون " حملة عسكرية ضخمة مكَّنتهُ من استعادةِ بابل بعد أن فَرضَ عليها حِصاراً دامَ تسعة أشهر، لكنه أخطأ حين بالغَ بتدمير المدينة ومُصادَرة المُمتلكات البابلية . وعندما استتبت له السيطرة وثبَّتَ أركان حُكمهِ ، توجه لتأديب عيلام عقاباً على ما قامت به من سياسة تحريض ومساندة لبابل ضد مملكة آشور؛ فجهَّزَ حملة عسكرية برية وأخرى نهرية خصصَ لهما جيوشاً كبيرة هاجمت مملكة عيلام فلقنهم درساً في التعامل الدولي بسبب سياستهم بالتدخل في شأن داخلي لدول الجوار ، وأحدثت جيوشه تدميراً واسعاً وانتقاماً بمُدُنِ عيلام جَزاءً وتناظراً مع عدوانيتهم بتدمير بابل.

أُغتيلَ الملك " سنحاريب " في ظروفٍ غامضةٍ من قِبَلِ أحد أبنائه عام 681  ق . م ، ولابُدَ من التوقفِ بعض الشيء عند مقتلِ سنحاريب - المُنتقم من عيلام ؛ كونه حادثاً ليس طبيعياً ، رغم أن الشواهد التاريخية تشير على وجود حوادث مماثلة كثيرة : قتلَ فيها الأخ أخية ، وقتلَ الأبن أبيه، واشتركت الزوجة بقتلِ زوجها – طمعاً في كرسي الحُكم ، ولسنا بصدد التعمق بهكذا أحداث ولا تسمية مرتكبيها . أن ما يستوقفنا هو:  هل كان في حادثة القتل تآمراً جديداً دفعَ الأبن على قتلِ أبيه الملك سنحاريب؟ . حول أي جهة تدور الشبهات ، هل المشتبه به بابل أمْ عيلام ؟. فسنحاريب أهانَ بابل وعيلام على حدٍ سواء ، لكن بابل مدينة أمسَّت تابعة لآشور مُجدداً وضعيفة الاقتدار  .. أما عيلام فهي دولة كانت قوية في نظر الغير ولها سيطرة مُمتدة خارج الهضبة الإيرانية ، وليس من السهل أن يُمَرِغُ سنحاريب أنف حُكامِها وشعبها بالتراب دون ردة فعل ، أن لم تكن بالقوة ، فبالتآمر ... فهل كانت عيلام سبباً مباشراً أو غير مباشر بحادثة مقتل سنحاريب نضعُ علامة استفهام بين هلالين (؟). وهل تحمَّلَت عيلام الإهانة على أرضها دونَ ردةِ فعلٍ ، سنُضيفُ علامةَ تعجبٍ إلى علامة الاستفهام(؟!) .. لسنا بصدد اتهام دولة عيلام ، ولا نُبرئها ، ولَّسنا شهود زورٍ كالذين يكتبون عن ما لا يعلمون ، لكننا نثيرُ حقيقة تتحملُ جدلاً واسعاً مَضَّت عليه آلاف السنين ، وصار جذور علاقاتٍ تغذَّت منها علاقاتٍ لاحقةٍ ، وأنجبت على شاكلتها من رَحِم الهضبةِ الإيرانيةِ حوادث تآمر كثيرة في علاقات البلدين سنبينها تباعاً في الأوراق القادمة .

بعدَ مقتلِ سنحاريب تولى العرش ابنه " أسرحدون " الذي استطاعَ بسياسةٍ حكيمةٍ اتصَّفت بذكاء التعامل مع البابليين وإصلاح ما أفسَدَه أبوه عندما أعادَ بابل تحت النفوذ الآشوري، فأعاد الممتلكات العامة والخاصة التي أُخِذَّت منها ، ورتَّبَ المدينة عمرانياً، وقضى على الفتَّنِ التي كانت قائمة ، وبذلكَ أضاعَ الفرصة على عيلام في استمرار نواياها بتحريض البابليين على التمَّردِ ضد الآشوريين.

لم تنقطع سياسة عيلام من التحريض ضد الآشورين، فقد حرَضَّت أبناء الملك أسرحدون بعضهما على البعض ، فشجعت ملك بابل" شمش- شم- أوكن" بالتمَرُدِ على أخيه " أشور بانيبال" ؛ وتسببت بنشوبِ حربٍ استمرت ثلاث سنوات بين الأخوين، انتهت بانتصار الآشوريين الذين استثمروا انتصارهم ومعنوياتهم العالية فتوجهوا شرقاً نحو عيلام المُنهكة آنذاك بسب الفتن الداخلية ، فدخلها الجيش الآشوري ودمَّر مُدُنِها وفتحَ عاصمتها التي كانت في مدينة الشوش الحالية عام 640 ق . م ، وبذلك يتضِّح أن الملك العراقي " أشور بانيبال"  هو من كسَرَ شوكة دولة عيلام وأنهى وجودها ، فجعلها تاريخاً يقال فيه: على هذه الهضبة الإيرانية كانت هناك إمبراطورية سادت وتحكمَّت وحرضَّت وظلمَّت واغتصبَّت حقوق الغير ، لكن قوَّة ملك عراقي، وجيش من عراق الرافدين دَفنَتها في تراب هضبة إيران.

نستخلِصُ أن عيلام قد استخدمت العنف في احتلالِ مُدنٍ عراقيةٍ مرات متكررة بظروف قوتها . أما في فترات ضعفها فقد استخدمت أسلوب التفرقة لتمزيق صفوف العراقيين ، لتُسَّهِل مقاتلة بعضهم البعض ، فاستثمرت نتائج تمزيق وحدة العراقيين لصالحها. وأن ملكاً من دول العراق القديم أنهى وجود عيلام كإمبراطورية . في الورقة القادمة سنتطرق بمشيئة الله إلى علاقات العراق بفارس - بدولها التي سُميَّت على أسماء الأُسَر الفارسية الحاكمة .

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

785 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع