ساعي البريد البوسطجي لنتذكره بين الأمس واليوم في ظل تقدم شبكات الأتصال:البوسطجي...لا تجعلوا الأنترنيت ينسيكم إياه:

             

ساعي البريد البوسطجي لنتذكره بين الأمس واليوم في ظل تقدم شبكات الأتصال:البوسطجي...لا تجعلوا الأنترنيت ينسيكم إياه:

 

       

ترسخ لحضات الأغتراب سحرية تذكر شخوص كانت لها أدوراً في معترك حياتنا التي عاصرناها في زمن جميل فيه من البساطة بواقعه وأحداثه، كنت أشاهد الفلم المشهور والعالمي( ساعي بريد نيرودا) والحائز على عدة جوائز للأوسكار حول صياد يترك مهنته ويعمل كساعي بريد، ويتعرف على الشاعر نيرودا ويحفظ أشعاره ويقوم بأستنساخها وأرسالها الى صديقته على أساس أنه كاتبها، وبسبب عذوبة وحلاوة ومعاني تلك الرسائل يحضى بزواجها، وعندما تعود الحياة عادية الى شيلي، يعود الشاعر نيرودا الى هناك وهنا يبدأ ساعي البريد ينتظر رسائل الشاعر التي لم تصل، وأصبح يشعر بقيمة وعبق الرسائل التي نورت حياته،

وبعد قراءتي للمقالة الجميلة والمعبرة للأستاذ العزيز الدكتور أكرم المشهداني والمعنونة (بغداديات.. الجرخجي..هل نتذكرها) والتي نشرتها مجلة الگاردينيا وقبلها في مجالس حمدان الثقافية، حيث كانت هناك إشارة الى ساع البريد البوسطجي، تملكتني الرغبة بأستذكار مراحل من حياتنا ودور ساعي البريد البوسطجي،

     

وأختمرت الذكريات بعد مشاهدة الفلم العربي ( البوسطجي) للكاتب المبدع يحيى حقي، وهنا تدور أحداث الفلم عن قيم الصراع بين الجهل السائد في القرية التي يعمل بها من خلال معاملتهم الجوفاء له، مما يجعله يتصرف كمنتقم لهم من خلال الأطلاع على رسائلهم ومعرفة أسرارهم، فأزدادت عندي القناعة بتحليل الشخصيتين للفلمين العالمي ساعي بريد نيرودا والعربي البوسطجي، ولكي أنصف هذه المهنة التي كانت في فترة ما أحدى وسائل الفرحة بالأنتظار لمعرفة أخبار الأولاد والمحبين والمعارف بين الغربة والأهالي والتي ينقلها البوسطجي، من سنوات بعيدة كانت تأتينا الرسائل عبر ساعي البريد (البوسطجي)، في ذلك الزمن لم يكن هناك انترنيت ولم نكن نعرف ماذا يعني البريد الالكتروني، وكنا سعداء حين نمسك بهذه الرسائل ونقلب في أوراقها ونقرأها من أول حرف إلى آخر حرف نستعيد ونراجع، لذا توجب علينا الكتابة عنه معتمدين على الذاكرة التي لازالت تحوي وتخزن خلجات ماضينا، وعلى من أستفسرنا وتحاورنا معه من الأصدقاء والمعارف، وبذلك تهيأة لنا مادة تراثية حلوة نسطرها في مقالتنا.

                            

مع تطور حياة الإنسان الأول وتكوين المجتمعات البشرية، وجد الإنسان نفسه غير قادر على التفاهم مع الآخرين، فاهتدي إلي اللغة وعايش المجتمعات الأخرى، فاخترع الكتابة لحفظ إنتاجه الفكري وميراثه الثقافي والعلمي من الاندثار ولتتوارثه الأجيال اللاحقة، ففي سنة 5000 ق م ابتدع الإنسان الكتابة في بلاد الرافدين، وظهرت الكتابة على الألواح الطينية باللغة المسمارية عام3600ق.م، ومع التوسع في الزراعة وبداية ظهور المدن والمجتمعات الحضرية ورواج التجارة ، وظهور العجلة والسفن الشراعية، فكانت اللغة أداة اتصال وتفاهم، يحدثنا التأريخ من خلال الأشارة الى الأكتشافات والرقم الطينية عن وجود رسائل بين ملوك وادي الرافدين وبلاد الشام والفراعنة في مصر الحمام الزاجل كان هو (البوسطجي) متحفظا بشخصيته اللطيفة سواء التنبه من هجوم أوالأبلاغ عن نقاط قوة وضعف المهاجم، بينما في عالمنا الذي عشناه ونعيشه أستخدم المطيرجية الزاجل في الرهان وليس لأرسال الرسائل،أي بما معهناه الكشخة والتبرم فيما بينهم(المطيرجية في بغداد وغيرها من المدن خصصنا لها مقالة وكتبنا عنها وسنعاود نشرها لاحقاًلأنها تحوي على أرث فيه طرائف وقصص كثيرة عن أحوالهم وعاداتهم في مجتمعنا

      

ويحدثنا التأريخ أيضاً عن البريد الذي أسسه العرب القدامى بالأعتماد على الخيل والجمال وتبادل الإشارات بالنيران والدخان والطبول والمرايا في إرسال الأخبار والمعلومات خلال الحروب، ومع التقدم واتساع رقعة الخلافة الإسلامية وزيادة وامتداد الفتوحات الإسلامية التي وصلت إلى حدود الصين، ومع ازدياد مصادر الثروة وكثرة مؤسسات الدولة ودواوينها، أصبح لابد من وسيلة أكثر سرعة لذلك أدخل الخلفاء العباسيون استخدام الحمام الزاجل في نقل البريد، لما يمتاز به من سرعة فائقة بالإضافة إلى انخفاض تكلفة تربيته مقارنة بالجياد والجمال.

وتشير الوثائق المتوفرة بأن أول مركز بريدي كان في البصرة إبان العصر الأموي لنقل رسائل الخليفة مع الولاة والجيش أيام الفتوحات الى آسيا، وتطورت الأساليب بأرسال رسائل بواسطة الفرسان الذين يستخدمون الخيل في العصور الرومانية والبيزنطية، وأستخدم العرب الأباعر والخيل، وبعدها بالسيارات والقطارات والطائرات، يعتبر العراق أول دولة عربية أنشأ فيها دائرة البريد عام1847وكانت الرسائل بين الخليفة العثماني والولاة وكذلك بين كبار القوم، وفي زمننا فأن دائرة البريد كانت تعين ساعي البريد وفق ماتمليه الشروط كالبساطة والأمانة وحسن القراءة وذو ألأخلاق ألحسنة، وعادة الوظيفة تقع في أسفل السلم الوظيفي ومرتباتها ضئيلة ولهذا فأكثرهم يتقبل الأكراميات، فيزود بملابس مهنته الخاكي الفاتح، ودراجة هوائية، وحقيبة توضع على الكتف أو على الدراجة لنقل الرسائل والطرود والبرقيات، وفي القرى والمناطق الجبلية تكون الواسطة هي الحمير والبغال.

  

يبدأ البوسطجي مشواره من الصباح وحتى الساعة الثانية ظهراً متحملاً قساوة برد الشتاء ومطره أحياناً وقساوة صيفه اللهاب وحره، ففي كل منطقة يوجد ساعي واحد معين من قبل دائرة البريد، تنتظر العوائل بكل شوق ولهفة مجيء ساعي البريد بدراجته ألتي فيها جرس المناداة، أومشياًعلى الأقدام حيث يركن الدراجة عند أحدى البيوت في الزقاق أو الشارع، وتتلقى العوائل الرسائل من أولادها في الغربة او من أهاليها الذين يعيشون في مناطق أو محافظات أخرى أو من معارفها، وفي بعض الأحيان يقرأ الرسائل الى أهل البيت ممن لايجيدون القراءة الذين يطلقون عليه بأبو الأخبار الجيدة والحلوة، أنه عادة يعرف العوائل ووضعهم الأجتماعي وفي بعض الأحيان يكتشف أسرارهم ومع ذلك فهو أمين على المحافظة على أسرارها.

                      

العشاق بدورهم ينتظرون البوسطجي لتسليمهم رسائل الحب والشوق وهم يعرفون مواعيد قدومه، ويتفقون معه على تسليم الرسائل باليد دون أعطائها لعوائلهم، وسبب بذلك معروف حتى ولو تأخر التسليم، فهو حافظ لها.

كان متفانياً بعمله، ولا يتمتع بأجازة بسبب عدم وجود بديل عنه، ومن خلال معرفته بالعناوين يقوم أحياناً بأرشاد السائلين من الغرباء عن عنوان من يريد الأستفسار عنه بعد التأكد عن السبب لمعرفة العنوان.

كانت الرسائل تكتب بالقلم، كانت للرسائل طقوسها الزمنية الجميلة لأن فيها عنصر الأنتظار، لأن أي مرسل يعد الأيام لتلقي الرد، وتستغرق الرسالة من أسبوع الى عشرة أيام لوصولها تبعاً لبعد ومكان الأرسال، ويفرح البوسطجي عندما يشاهد عبارة(شكراً لساعي البريد) المضافة الى عنوان المرسل، كلنا يتذكر مغلفات الظروف التي كانت أطرافها ملونة بمقاطع صغيرة مائلة من الأزرق والأحمر والغطاء المثلث الذي نبلله بطرف اللسان ونظغط عليه بقبضة اليد.

         

في شارع الرشيد يقوم البوسطجي بأيصال الرسائل الواردة من المحافظات والمعنونة للطلبة والموظفين الذين يذكرون عناوين المقاهي التي يرتادونها بدل من سكناهم أو مكان أقامتهم في الأقسام الداخلية، وذلك لكثرة ترددهم أليها ومنها على سبيل المثال مقهى خليل ومقهى حسن عجمي وغيرها.

      

فالطابع علامة مميزة توضع على أغلفة ومظاريف الرسائل او الرزم المعدة للأرسال بالبريد، وهي الأكثر أستعمالاً وتتألف عادة من فئات مختلفة تتناسب مع التعرفة المطبقة وهي تحمل صور الملوك والرؤساء والمشاهير أو معالم البلاد السياحية والدينية والثقافية والمشاريع الاقتصادية والعمرانية المميزة، فالطوابع البريدية الجميلة التي كانت تزيّن واجهة الأظرف كانت رائعة وجميلة زاهية بألوانها، وتحمل معاني ومعلومات، وكانت تسهم في تطور معارف الإنسان لمعرفة ثقافات وتقاليد الشعوب وصور مدنها وأعلامها ورؤسائها و..و..و..، أذاً كانت الطوابع البريدية على الرسائل باقة ورد وسلة معلومات إضافية نتعلم منها ونطور معلوماتنا، وعادةً تصدر الدول الطوابع البريدية بمناسبات مختلفة تخليدآ لتلك المناسبة، وتباع تلك الطوابع لإستخدامها في البريد اضافة لجامعي الطوابع والهواة الذين يبحثون عن الطوابع النفيسة والقديمة والنادرة.

على مستوى الدولة، وفي السلك الدبلوماسي يكون أحد الموظفين ومن المؤتمن بهم بنقل البريد الى السفارات التي تتطلب تغير في الطائرات ويكون حاملا للكيس الدبلوماسي المختوم بالشمع الأحمر لكي لا تفتش من قبل السلطات، وتسلم الى السفارة باليد، وبالنسبة لرسائل رئيس الدولة الى نظراءه في الدول الأخرى عادة يكلف الوزراء والمبعوثين وأحياناً السفراء لتسليم الرسائل.

       

هذه المهنة التي كان لها دور وتماس بين ساعي البريد والناس وأشواقهم وحلاوة الأنتظار قد حصل فيها تغير بسبب التطور والتغير بأسلوب تلقي وأرسال الرسائل، فأصبح الأنتظار والشوق والأخبار يأخذ دقائق وأن لم نقل ثواني وفي أية بقعة في العالم، بفضل مواقع التواصل الأجتماعي مع لقاء الأحبة والأصدقاء وحتى التعارف، وثورة الأتصالات بمساعدة محركات البحث للعبور نحو المعلومة، وحل البريد الألكتروني محل الرسائل، كما أن صناديق البريد كانت أيضا تطوراً قلص من مهنة ساعي البريد البوسطجي التقليدية، وأصبحت هناك شركات متخصصة لنقل البريد لقي لا أحد يشعر الآن بمتعة تف، وغيرها والأكسبريس وال.ت.ن.ت مثل الدي.أج.المهما ، لأن فكرة الغياب نفسها أندثرت وأي شخصغائب أو حبيب رسالة من قريب..ترنيت والموبايل والمسجات الآنيةكان بعيداً فهو قريب بفظل الأن

وفي عالمنا اليوم بدأ بعض الساسة معترك البوسطجية كساعي بريد، حيث يكلف بنقل رسائل ورغبات وتوجيهات الجهة التي تجنده خدمة لأغراضها مع الأطراف المقابلة، كما أن بعض الفضاءيات تقوم بوظيفة البوسطجي لخدمة وأهداف من يرسم لها طريقة المخاطبة والأثارة وفبركة وأخراج الخبر أو الحدث!.

  

يبدوا أن دور البوسطجي التقليدي آخذ بالأندثار، في حين أن الرسائل المهمة والسرية حول المشاهير والرؤساء والزعماء ورسائل بعض من الملوك والأميرات بدأت تتجه الى المزادات وباتت سلعة قيمة للتجارة وتجلب الكثير من الأموال ، .. تلك المهنة القديمة، حيث لا تزال بلدان متقدمة تواصل عبر البريد العادي من خلال رسائل خطية أو هدايا رمزية، شيء جميل وشعور لاية من يمكن وصفه ينتاب الشخص عندما يستلم بعد شوق وطول انتظار رسالة خطية، على عكس الرسائل عبر البريد الإلكتروني....

في الختام فأن الرسائل المكتوبة بخط اليد تبقى دفئاً ولها أستنشاق لراحة وعلاقة المرسل للمرسل أليه، الرسائل التي كانت تصف دقائق الحياة بالتفصيل ولولاها لما فتحت نافذة على التأريخ، وهل يوجد من عاش زماننا وما بعده من لم يتذكر قيمة وعبق الرسائل المكتوبة بخط اليد

ورسائل العشق والرومانسية حيث تشم سطورها وتقبلها وتضعها على عينيك وتلمس حروف كلماتها..

سنظل نذكر بكل فخر وأعتزاز مكانة البريد وبوسطجيها في حياتنا ،وسنظل نحلم بقيمة وروعة الرسائل وهي مختومة بعدة أختام وتزينها الطوابع بأنواعها وأشكالها وصورها الجميلة ، انه من الصعب أن تنقل بأمانة تجربتك مع الرسائل الى الجيل الحاضر وتحدثهم عن احساسك الجميل عندما تستلم الرسائل وتقرأها أكثر من مرة وتعيش على جميل عباراتها ، لاتستطيع جميع وسائل الأتصال أن تتحسسها.. ومن الله التوفيق..

سرور ميرزا محمود

 

   

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

911 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع