أكلات شعبية في ذاكرة جوع الفقراء

      

        أكلات شعبية في ذاكرة جوع الفقراء

 

ما زلنا نشتهيها
يوقظني صوت جدي وجدتي، يستحضران اسميهما من عمق الاهوار.. حسيّن ورسل، كي لا ينسيانه في بغداد التي طوتهم بجوع اخف وطأة من مهانة الاقطاع.. مهاجرين جنوبيين ما زالوا يسمون الجيل الثالث منا (شروگية).
و(شروگي) كلمة حميمة الى نفسي، برغم تعمدها اهانة وليس توقيرا للنسب، لهذه المفردة اكلات لذيذة ورثناها مع فقر الاهل الذين لا يمتلكون ما يورثوننا، سوى صفات كالميسم في ضلع (السليت).
تلك الاكلات اقترنت باستيقاظ جدي وجدتي لصلاة الفجر، تصنع لي جدتي (مريسة) خبز يقطع ويحمس بالدهن، فتتكسب اطرافه؛ لذاذة منقطعة نظير الطعم.
وعندما يستيقظ اخوتي: كاظم.. محامٍ الان وازهار وسعاد.. باحثة اجتماعية وزوجة الفنان علي المطوع، تعد لهم امي (رصاع) وهو خبز تمن ينضج على طاوة، نسميها (تاوة) غير مبتعدين بالتاء عن الطاء، حسب رولان بارت الذي يجيز استبدال التاء بالطاء بالدال في الترجمة.
اذا ما نفر واحد من اخوتي، متبطرا على النعمة، تقول له امي:

لاتتبطر لا الله يطيرها علينا.
فاروح في صفنة تأملات.. هي شحيحة اصلا.. الرزق شحيح، يعني طائر طيب النعمة طايرة منا قبل ان يتدخل الله في طيرانها بسبب تبطر اخي على الرصاع، اذن هل هو الشيطان وحده الذي كان يجوعنا.

محروك اصبعه

اذا كان دوامي في المدرسة، صباحا، فانا اعب المعدة بالـ (محروك اصبعه) قبل التوجه خالي الجيوب الى الصف، ارنو الى اقراني يتلذذون بالكيك وانا اتلظى اشتهاءً (أعف اذا انحنت لهن رقاب) فاقنع زملائي بانني اكره طعم الكيك.
لم يقتنعوا بل كانوا يهينونني: لا انت مو تكرهه بس ماعندك فلوس.. يتيم ماكو احد يعطيك فلوسا.
طيب ما ذنبي بذلك؟ ولماذا يسخرون من كوني لا املك فلوسا وهل انا الذي امت والدي يوم ولادتي واظل مع اخوتي على يد جد وجدة لم يتقيا الله بيتمنا؟
الاطفال من حولي في المدرسة لم يقتنعوا لكن المشكلة انا فقط الذي اقتنعت بان طعم
الكيك كريه، وما زلت حتى زمن الرفاه المالي الذي اعيشه الان، لا استسيغ طعم الكيك بل
اكرهه عضويا وليس نفسيا.

عودا الى المحروك اصبعه، خبز يقطع ويغلى بماء يمكن اعتباره منقوع البصل مع شيء من بهارات اذا توفر في حالات الرفاه النسبي، الذي تحسدنا يرابيع الصحراء عليه.

  

خبز عروك

اثناء شجر التنور من قبل امي، التي لم تكف عن الخبز ظهر كل يوم، على مدى ثمانين عاما، ومن يعش.. ثمانين حولا لا ابا لك يسأم، فبلغ السأم منها حد استبدال عظام الحوض بعتلات بلاتين اقعدتها على عرش الشيخوخة.
نقف انا وسعاد على مسافة آمنة، تقينا لهب التنور، اذا فاض نارا، بانتظار خبزتين استثنائيتين، تسميهما سعاد (حنونة) نأكلهما وقد دست فيهما امي اشياء تشبه الشحم او المصارين او البصل او كل تلك الجردة من الرقائق وتلصقهما في بطانة التنور.

تقسيم البيضة

اذا شاء جدي ان يرحم بناء، سمح لامي بقلي الرصاع في الدهن، حينها يتحول اسمه الى (خبز بدهن) من التمن ومن الحنطة على حد سواء، وفي مراحل متقدمة، عندما كبرت ازهار.. صار عمرها اربعة عشر عاما، توسط لها جارنا داود رحمه الله، فعينت عاملة في معمل الزيوت، امام رعب مدير عام الزيوت مطلع السبعينيات، من ان القانون يحاسبه على تشغيل قاصر، فاجابه داود: ويحاسبك الله اشد اذا جاعت هذه اليتيمة واخوتها الثلاثة.
عندما اشتغلت ازهار تمكنا من اضافة بيضة واحدة، توزعها امي على اربع خبزات بالدهن.

طابك

عندما كبرت السنوات بنا وعمل كاظم محاميا وسعاد باحثة اجتماعية قبل ان تتعرف الى علي من خلالي.. يتحابان من ورائي ويتزوجان. وانا صحفي، استقرت ازهار تدير شؤون البيت، ناعمة بما زرعت فينا من الفة، اهمها لمة (العيال) حول طابك وسمك كل جمعة.
والطابك طحين تمن معجون الى حد يعبر عنه باللغة العربية (لازب) اي ثخين على شكل قرص واسع يوضع على طبق طيني مفخور نسميه (طابك) ايضا، وتحته جمر (المطال) المجفف من فضلات البقر، حتى ينضج متيبسا بشكل شهي من حيث الجهة التي يلتصق عندها طبق العجين مع طبق الطين، وتظل من الاعلى (نص استاو) فنقلب المطال عليها لينفذ اجزاء من رماد (المطال) في (الطابك).
چا اشكد طيب!؟
مرة يؤكل الطابك لوحده، ومرة مع الزوري.. صغار السمك ومرة مع الكطان في حالات شديدة الكلفة.

                    

سياح

يذاب طحين التمن، في الماء، حتى يصبح رائقا وليس معجونا، ويصب على (الصاج) خبزا بسمك ورقة، مكسب ولذيذ مع البيض بالدرجة الاولى يليه القيمر والزبد.


خريط

حلوانا في الاهوار (خريط) مسحوق يجمع من رؤوس القصب والبردي، بطعم الشهد، ولنا من الحلوى (كليجة) تعرفنا اليها من وجودنا على (غصور المدن) نتقبل اسمالهم كمسلمات لا هجاس ولا تحسس ازاءها؛ لانهم مدن ونحن فقراء.
الكليجة تعد في عاشوراء، الى ان جاء من صحح لنا انها للعيد ابتهاجا وليس ليوم (الطبك) حزنا.

            

العسكرية

بعد تخرجي في الدراسة، ملتحقا بالخدمة العسكرية الالزامية، تعرفت الى اكلتين شعبيتين لذيذتين من تراث المحافظات الغربية، سائغ طعمها في الذوق الجنوبي، هما (دليمية) و(خميعة).

دليمية

كعراقي اتفاخر وعلى الدليم جميعا ان يفخروا بالنكتة القائلة بان دليمي احترق بيته، ولما وصلت سيارات الاطفاء اقسم بالطلاق تتغدون يالله تطفون.
كما قال الشاعر مظفر النواب: عراقي هواي وشيمة فينا ان الهوى خبل.. والكرم خبل وكل ما هو رائع نتحمس مبالغين به، حد منع الدفاع المدني من اطفاء بيته ريثما يتغدون! كم هو عظيم هذا الدليمي.
استحضر هذه النكتة المشرفة؛ نظير الاختزالات الغذائية في اكلة واحدة (الدليمية) تؤمن انواع الشهوات: التشريب والتمن واللحم والدجاج، في اكلة واحدة، تدل على ثراء روح الاسلاف الذين تشكل (الدليمية) اكلتهم المفضلة.

خميعة

شالت (الخميعة) جزءا كبيرا من ضيم العسكرية على جسدي الواهي، اذ نجتمع بعد العرضات، وهنا تحضر المناطقية حضور خير وليس من باب التفرقة التي يحث عليها الساسة الان، اذ يتولى ابناء الغربية، تحضير الخميعة، ونحن ابناء الجهات الاخرى من الوان الطيف العراقي الذي كان واحدا وفرقوه الان، نتولى اعداد المفاصل المتبقية من الافطار.
حين لا اكون ضروريا في مفاصل افطار الحظيرة، اشاركهم اعداد الخميعة، التي هي عبارة عن (ثريد) تشريبة حليب، ما ينشبع منها، لا ابالغ اذا قلت استطعم تذوقها من صحراء الرمادي، الى عمق اهوار الجنوب، حيث يفطرني (خميعة) اصدقائي في الفلوجة: رشيد الحمداني.. رحمه الله ومجيد الجبوري وصباح الحلبوسي.

الكاتب:محمد اسماعيل
المصدر: نبراس الذاكرة

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

769 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع