
لوحة "مرآة فينوس" (1875) لبورن جونز (موسوعة الفن الكلاسيكي)
ملخص
من هنا لم يستغرب أحد أن تكون لوحة "مرآة فينوس" مستقاة من حكاية تضمها مجموعة حكايات أصدرها ويليام موريس، المفكر الاشتراكي المعروف في ذلك الحين، تحت عنوان "الفردوس الأرضي"، مما يعني أن معظم اللوحات المعروضة معها مقتبسة، بدورها، من ذلك النوع من الحكايات، بالتالي لها المقاسات الضخمة التي لهذه اللوحة (200 سنتيمتر عرضاً مقابل 120 سنتيمتراً ارتفاعاً).
الأادنبيدت/إبراهيم العريس:صحيح أن عدداً من كبار نقاد أواسط القرن الـ19، ومن بينهم من كانوا قد قدموا دعماً كبيراً للتيار الفني الإنجليزي الذي كان يطلق على نفسه اسم "ما قبل الرافائيليين"، هاجم بقوة مشاركة الفنان إدوارد بورن جونز بما لا يقل عن 8 لوحات في معرض جماعي أقيم لأعمال رسامي ذلك التيار بعدما كان هو قد تغيب عن المشاركة طوال 7 سنوات، غير أن ذلك الهجوم لم يؤثر في مكانة بورن جونز المتقدمة بين فناني التيار، والتي كانت قد ترسخت في الفترة السابقة وجعلته يعد المنافس الرئيس للزعيم المعلن للتيار نفسه غابريال دانتي روزيتي، بل إن الهجوم نفسه قفز ببورن جونز إلى صف الزعامة من دون منازع.
وربما كان الفضل في ذلك إلى كون الهجوم تركز على واحدة بعينها من اللوحات المشاركة، وهي تلك المعنونة "مرآة فينوس" التي وجد فيها جمهور المعرض تطبيقاً حرفياً لقواعد التيار، بالتالي استلهاماً من فن النهضوي بوتيتشيلي الذي يقوم على الجمال في سبيل الجمال وحده من دون رسالة محددة أو معنى مضمر. ولكن قبل أن نمعن في الحديث عن هذه اللوحة، قد يكون من المفيد الإشارة إلى أن غياب بورن جونز عن معارض السنوات السابقة في غروسيفينور، يعود إلى الفضيحة التي اندلعت في معرض عام 1870 من حول لوحة عارية له عنوانها "شجرة النسيان"، لم يكن الجمهور البريطاني المحافظ على استعداد بعد لتقبلها.
المهم أن بورن جونز عاد في عام 1877 بقوة إلى المعرض نفسه، وقد تناسى الفضيحة، ولكن جاعلاً من النساء وحكاياتهن، موضوعاً أثيراً للوحات راحت تتخطى في مقاساتها كل ما كان قد اعتاد أن ينتجه سابقاً. ولقد كان من الواضح أنه جعل لوحاته الجديدة بأحجام تمكنها من الدخول إلى بيوت الموسرين، على العكس مما كان يحدث سابقاً حيث كانت اللوحات تعرض بصورة محدودة في الكتب والملصقات الصغيرة.
اقتباسات أدبية ومع ذلك فإن الرسام لم يتخل في "مرآة فينوس"، عن عادته القديمة، والمرتبطة على أية حال بتوجهات التيار الذي ينتمي إليه، والتي تفضل للأعمال المرسومة أن تكون مقتبسة من نصوص أدبية، ولا سيما مسرحية كما من أساطير قديمة.
من هنا لم يستغرب أحد أن تكون لوحة "مرآة فينوس" مستقاة من حكاية تضمها مجموعة حكايات أصدرها ويليام موريس، المفكر الاشتراكي المعروف في ذلك الحين، تحت عنوان "الفردوس الأرضي"، مما يعني أن معظم اللوحات المعروضة معها مقتبسة، بدورها، من ذلك النوع من الحكايات، بالتالي لها المقاسات الضخمة التي لهذه اللوحة (200 سنتيمتر عرضاً مقابل 120 سنتيمتراً ارتفاعاً)، لكن هذا التفصيل لم يكن أهم ما في هذه اللوحة، ولا كان الأهم كذلك أنها تذكر إلى حد بادي الجمال بفن بوتيتشيلي، بل لعل أجمل ما فيها هو الموضوع الذي ترويه، حتى وإن لم يتمكن أحد من فهمه، إلا لاحقاً على ضوء قراءة الحكاية التي يرويها ويليام موريس، ولكن حتى هنا، بدت الحكاية غامضة وغير متوافقة مع المشاهد المعهودة عن حياة إلهة الجمال الإغريقية، ولا سيما أن الفنانين اعتادوا ربط فينوس (أفروديت) بالبحر، أما بورن جونز فجعلها واقفة بين رهط من صويحباتها، قرب بركة ماء بالكاد يمكن مشاهدتها وسط امتداد صحراوي لا تخرقه سوى بضعة تلال جرداء ويكاد ماء البركة لا يفيد إلا بكونه مرآة تعكس صورة 9 نساء باديات الحزن والجمال، ينظرن بقدر كبير من اليأس إلى انعكاس وجوههن وأجسادهن بصورة عامة على صفحة البركة التي من المؤكد أن ما من رياح هنا لهزها، ولا النساء بقادرات أو حتى راغبات بتحريكها، ولا تفعل ذلك، وتختلف عنهن اختلافات بينة، وليس في لون ردائها وشفافيته فحسب، بل كذلك في اتجاه نظرتها الساهمة والتي تبدو غير مبالية بما يشعرن هن به من يأس وحزن على مصير يبدو غامضاً، ولكن أيضاً في وقفتها الاستثنائية.
فينوس الخالدة، والحقيقة أن الرسام إنما ميز في لوحته هذه الحسناء لأنها ليست سوى فينوس الخالدة. وهو عبر عن ذلك الخلود، بالطبع، من خلال استثنائيتها وجمالها المطلق ولا مبالاتها وشموخها، بل حتى قوامها الذي يبدو من ناحيته طالعاً مباشرة من لوحتين، هما: "فينوس" و"الربيع" لبوتيتشيلي الذي لم يكن الرسام "ما قبل الرافائيليين" ليخفي إعجابه به معتبراً إياه معلمه الأكبر.
من هنا بالطبع ما تبدو عليه هذه اللوحة، وقبل أي شيء آخر: فهي تحية جدية لذكرى ذلك الرسام الكبير. فإن لم يتنبه المشاهد إلى هذه الناحية في "مرآة فينوس" ستنغلق عليه اللوحة تماماً، فتبدو عابقة بالجمال، حقاً، لكنه جمال مجاني لا يعني شيئاً سوى ذاته، غير أن ثمة في المقابل تحية أخرى في هذه اللوحة، لا تتعلق بالفنان النهضوي، ولكن إلى جانب اجتماعي من الحياة اللندنية تجلى في الحقبة التي رسم فيها بورن جونز لوحته هذه، وعنوان هذا الجانب هو بالتحديد "صالون إل برنسيب"، وهو في حقيقته صالون أدبي اجتماعي كانت تقيمه وتديره بصورة منتظمة سيدات من تلك العائلة كن من رعاة الفنون والآداب في لندن "ما قبل الفيكتورية"، واشتهرن بأناقة ملابسهن، كونها تخرج عن الأطر الرائجة، بل تستغني عن المشدات والألوان المحافظة القاتمة من دون التخلي عن قدر لا بأس به من الحشمة، وهو ما يعبر عنه الفنان حقاً في اللوحة على أية حال.
كان صالوناً يرهص بتجديد اجتماعي واعتاد المبدعون المتنورون، في المجالات كافة ارتياده، حيث كان يتلاقى فيه روبرت براوننغ وألفرد تنيسون وأعضاء التيار الفني "ما قبل الرافائيليين"، ليتناقشوا في شؤون الفن والمجتمع والسياسة في مناخ من الحرية الفكرية محاطاً بكل ذلك الحسن وبكل تلك الأناقة التي تضمنها نساء ذلك الصالون الذي شغل لندن وقصائد شعرائها، ناهيك بلوحات فنانيها وعلى رأسهم بورن جونز الذي نجده يستعير شخصياته النسائية من تلك النساء في وقت كان يفعل فيه زملاؤه في التيار نفسه، شيئاً مشابهاً حين يستلهمون النساء أنفسهن في لوحات لهم، ولعل المثال الأسطع على ذلك، إلى جانب ما فعله بورن جونز، هو استلهام ويليام هولمان هنت نساء الصالون لرسم لوحتين له في الأقل هما "إيزابيل وإناء الحبق" و"الراعي السيئ".
أما بالنسبة إلى بورن جونز فإنه تجاوز الجميع في استلهامه حين نقل فاتنات الصالون إلى ذلك المكان الصحراوي لينشر فيه جمالاً لم يُسئ إليه بالطبع أن يكون جمالاً حزيناً يائساً على أية حال.

930 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع