في بيت أمير الشّعراء أحمد شوقي

التفاصيل

المجموعة: ثقافة وأدب

تم إنشاءه بتاريخ الأربعاء, 23 تموز/يوليو 2025 15:13

حيث تسكن القصيدة ويعيش المجد

ميدل ايست اونلاين/إبراهيم مشارة:يعد بيت أمير الشعراء أحمد شوقي (1868/1932) المعروف بكرمة ابن هانئ تحفة معمارية وجمالية بالغة القيمة، هذا البيت أو الفيلا الأنيقة التي تحولت إلى متحف بتاريخ 17 يونيو/حزيران 1977 والتي تضم أغراض الشاعر المختلفة كأثاث بيته ومخطوطاته الشعرية وكتبه ونياشينه وأوسمته وثيابه وثياب زوجته،حيث يعيش الزائر لهذا المتحف لحظات في جو الشاعرية الباذخ والقصائد العصماء، ويستذكر التاريخ العامر بالأحداث السياسية التي مرت بها مصر والمواقف التاريخية لأحمد شوقي في تفاعله مع أحداث بلده وقضايا أمته العربية والإسلامية.

يقع المتحف في الجيزة على شاطئ النيل وقد أحسن الشاعر اختيار الموقع فهو يمتاز بقلة الضوضاء وقلة الازدحام، وله إطلالة فريدة على النيل الخالد الذي نظم فيه الشاعر من قبل قصيدته الخالدة:

من أيّ عهد في القرى تتدفّـّــق

وبأي كفّ في المدائن تغــــــدق؟

ومن السماء نزلت أم فجّــــرت

من عليا الجنان جداولا تترقرق؟

لقد تحول الشاعر إلى الإقامة بالجيزة وبنى هذه الفيلا الفخمة المترعة جمالا وفخامة على غرار قصائد الشاعر العصماء، مما يعكس ذوق الشاعر وحاسته الجمالية وولعه بالطيبات من العيش، وهو الشاعر الذي تعشق الجمال وتعبد في محرابه وخصه بالرائع من الشعر، سواء كان الجمال في الإنسان أو الجماد،فبعد عودته من منفاه في إسبانيا لم ترق للشاعر الإقامة في منزله القديم بالمطرية فاختار المكان الحالي في الجيزة المطل على النيل وطالما ردد شوقي قول الشاعر القديم:

إذا كنت في مصر ولم تكن ساكنـــــــا

على نيلها الجاري فما أنت في مصرا

أطلق الشاعر على بيته اسم كرمة ابن هانئ وذلك راجع لحب الشاعر لأبي نواس وتقديره لشعره وعبقريته، وقد كان أبو نواس شاعر الحب والحياة والمباهج واللذائذ الدنيوية، وديوانه ملئ بالأشعار الفخمة التي احتفى فيها بالحياة وبأطيافها السعيدة.

في هذا البيت عاش شوقي بقية عمره منعما بالمجد والفخر والعطاء كما زاره فيه العظماء وأعلام مصر والعالم العربي والإسلامي، ولا عجب في ذلك فهو عرين الشاعرية وديوانها الفخم الباذح .

يطل البيت على النيل كما يقع غير بعيد عن الأهرام التي كان الشاعر كثير الزيارة لها، فلما استقر ببيته الجديد صار بإمكانه رؤيتها من هناك.

يدفع الزائر إلى المتحف رسما رمزيا ليصحبه دليل وهي فتاة حسناء ملمة بحياة شوقي، تشرح للزائر أسرار البيت ومحتوياته بدءا بالحديقة الجميلة التي يتوسطها تمثال لشوقي من نحت الفنان الراحل جمال السّجيني، ويستطيع الزائر في الدور الأرضي أو العلوي أن يرى كثيرا من اللوحات الفنية وهي من مقتنيات الشاعر ولوحات أخرى للفنانة حفيدة الشاعر خديجة رياض أهدتها للمتحف بمناسبة مرور خمسين عاما على رحيل الشاعر . وبعض الصور الفوتوغرافية لشوقي ووالده وجده وأفراد أسرته كزوجته خديجة هانم شاهين وأولاده علي وحسين وأمينة وبعض الشخصيات السياسية الشهيرة التي زارته في بيته كسعد زغلول.

كما يستطيع الزائر أن يطلع في الدور الأرضي على كثير من المخطوطات الشعرية لقصائد شوقي الكبيرة ومكتبته الشخصية في غرفة المكتب التي تضم أمهات كتاب الأدب وتعليقات شوقي على الهامش كالأغاني والعقد الفريد وزهر الآداب والذخيرة وغيرها، وكان شوقي بعد عودته من المنفى قد كف عن القراءة بغير العربية وخصص وقت القراءة لأمهات كتب الأدب ودواوين فحول الشعراء .

وفي هذا الدور القاعة الشرفية (قاعة الاستقبال الرسمية) وفي جناح الضيافة الغرفة المخصصة لإقامة الموسيقار محمد عبد الوهاب، وقد كان شوقي يحبه كابنه حسين ولا يستغني عنه إلى درجة أن خصص له جناحا للإقامة، لقد كان عبد الوهاب محظوظا إذ عاش في كنف الشاعر الكبير الذي خصه بالمودة والتقدير وجعله يلازمه كظله، وبدوره اغتنى عبد الوهاب بهذه الصحبة وألهمته هذه الرفقة السامي من الحياة ومن المثل والباذخ من الفن، وغنى بعض قصائد شوقي لعل من أشهرها قصيدة شوقي في مصيف زحلة:

يا جارة الوادي طربت وعــــــادني

ما يشبه الأحلام من ذكــــــــــــراك

مثلت في الذكرى هواك وفي الكرى

والذكريات صدى السنين الحـــــاكي

وفي غرفة خاصة يمكن للزائر أن يرى الأوسمة والنياشين التي حصل عليها الشاعر وملابس التشريفة الخاصة به، وكذاك بعض الهدايا والوثائق التي قدمت إليه بمناسبة تتويجه أميرا للشعراء .

وفي الطابق العلوي يتفقد الزائر غرفة نوم الشاعر وسريره الذي مات عليه يوم 14 أكتوبر/تشرين الاول 1932وغرفة نوم زوجته وسريرها وأغراضها الخاصة، وصالة مخصصة لاستقبال المقربين من الشاعر.

من البلكونة يمكن للزائر أن يعاين الإطلالة الجميلة على النيل في سيره الوئيد إلى مصبه في الشمال، هذا النهر الخالد الذي كانت مصر هبته كما قال هيرودوت، وكم استمتع أمير الشعراء بإطلالته على النيل من البلكونة مستمعا إلى همس النسيم ومتأملا ترقرق صفحة النهر الخالد وهو يسير بتؤدة إلى مصبه في الشمال، يهب الحياة للكائنات الحية وللأرض التي يروي عطشها فتخرج من الغلال ومن الثمار ما يحيا به الناس، وكم استمتع من هناك بأشعة الشمس المتراقصة في سيرها اليومي باتجاه المغيب في الغرب حيث مدينة الموتى، منظر كله جمال وجلال وشاعرية .

مركز كرمة ابن هانئ:

تم إحياء نشاط مركز ابن هانئ الثقافي - متحف أحمد شوقي- وذلك من أجل تفعيل نشاط الحركة الثقافية والفنية من خلال برنامج ثقافي يشمل معارض للفن التشكيلي (الحديث والمعاصر) بقاعة الفن التشكيلي، وتفعيل الحديقة الثقافية بإنشاء كشك الموسيقى الشرقية والذي يعمل على إقامة الحفلات الموسيقية الشرقية وخاصة إحياء أغاني أحمد شوقي، وقد غنى عبد الوهاب وكوكب الشرق السيدة أم كلثوم بعضا من قصائده، وصالون كرمة ابن هانئ الأدبي لاستضافة ورصد لأهم الأحداث الثقافية في مصر.

وبلا شك إن تحويل الفيلا إلى متحف والاحتفاظ بأغراض الشاعر من مخطوطات وكتب ونياشين وثياب وصور فنية وصور فوتوغرافية وأثاث يجعل الزائر للمتحف يعيش في جو روحي يستذكر من خلاله الشعرية العربية الإحيائية في الربع الأول من القرن العشرين ومحطاتها الكبيرة، وقد كان شوقي أميرا حقيقيا للشعراء وللشعر العربي في العصر الحديث.

ولعل مبايعته بإمارة الشعر تجسيد حقيقي لمكانة شوقي في الشعر الحديث ولقيمة شعره الذي جدد به وجه الشعر وبيض صفحته بالنور والوهج والجمال بعد أن سقط في الاجترار والإسفاف والابتذال في عصر الضعف.

كما أن المحافظة على هذا الميراث الهندسي والعمراني والفضاء الثقافي الجميل والاحتفاظ كذلك بأغراض الشاعر - وإن كانت الكتب المدرسية لا تخلو من قصائده وأناشيده- من حق الأجيال الجديدة التي لم تر الشاعر ولم تعش في عصره أن تتواصل مع ذلك الجيل عبر المحافظة على تراث الرواد المادي والمعنوي، وخاصة الأمكنة التي عاشوا فيها وشهدت نبوغهم وشهرتهم وعطاءهم الكبير، وهي أحسن وسيلة لتكريس الروح الوطنية والاعتزاز بمآثر العظماء المبدعين، لعل ذلك ما يحفز الأجيال الجديدة على الاقتداء بهم وتمثل تراثهم الروحي والأدبي والفكري ووصل حاضرهم الطامح بذلك الأمس المزهر المعطاء.

في ختام الزيارة يمكن للزائر أن يطلع على سجل الزيارة ويتصفح المكتوب وأسماء الزوار من ربوع العالمين العربي والإسلامي وتاريخ الزيارة وتوقيعاتهم كما يمكنه أن يضيف لذلك السجل ما جادت به قريحته وما جاشت به نفسه من مشاعر الإعجاب بالمتحف ومحتوياته، والتبجيل لشوقي شاعر العصر الحديث وأميره بلا مراء.