الرشيد .. مسرح بغداد المفتوح بين الماضي والحاضر

 مقهى الزهاوي يفتح أبوابه

أطلق العراق المرحلة الثانية من تأهيل شارع الرشيد في بغداد، ضمن مشروع لإحياء التراث المديني. يمتد الشارع إلى أكثر من ثلاثة كيلومترات ويضم معالم تاريخية وثقافية بارزة. المبادرة تشمل ترميم المباني والبنى التحتية، وإحياء المقاهي والمكتبات. ويُعد الشارع رمزًا لذاكرة العراق، ومسرحًا لأحداثه الكبرى، ومركزًا نابضًا بالثقافة والحياة البغدادية.

العرب/بغداد - في قلب العاصمة العراقية بغداد ينبض شارع الرشيد من جديد، بعد عقود من الإهمال والتراجع، ضمن مشروع طموح لإحياء التراث المديني وإعادة الحياة إلى أبرز معالم المدينة التاريخية. فقد أطلق رئيس مجلس الوزراء محمد شياع السوداني المرحلة الثانية من أعمال تأهيل هذا الشارع العريق، مؤكداً أن الحكومة عازمة على استعادة الوجه الثقافي والتراثي لبغداد، وإبراز هويتها الحضارية أمام العالم، باعتبارها مدينة عريقة تستحق أن تُروى قصتها من جديد.

جاء ذلك خلال افتتاح المقطع الأول من شارع الرشيد، الذي يمتد من ساحة الميدان إلى ساحة الرصافي، بعد استكمال أعمال الترميم والتأهيل، والتي شملت واجهات المباني التراثية، والبنى التحتية من شبكات الصرف الصحي والكهرباء والاتصالات والإنترنت، بالإضافة إلى إنشاء خط ترامواي تراثي لتسهيل التنقل، ومركز بلدي لتقديم الخدمات، ومركز شرطة لضمان الأمن في المنطقة.

السوداني أشار إلى أن الشارع عانى من الإهمال لأكثر من أربعين عاماً، ما ترك أثراً سلبياً في نفوس العراقيين، وأن إعادة تأهيله ليست مجرد تجميل للواجهات، بل مشروع متكامل يعيد الروح إلى بغداد القديمة، ويمنح المهندسين والفنيين الشباب فرصة لاكتساب الخبرة في صيانة المواقع التراثية، تمهيداً لتوسيع هذه التجربة في محافظات أخرى، في إطار رؤية وطنية شاملة لإحياء ذاكرة العراق المعمارية والثقافية.

ويمتد شارع الرشيد إلى مسافة تزيد عن ثلاثة كيلومترات، من سوق هرج في الميدان إلى جسر الجمهورية، ويضم عدداً كبيراً من المباني والأسواق والمقاهي التراثية التي شكلت ذاكرة البغداديين لعقود. عند جامع الحيدر خانة، الذي يعود إلى الحقبة العباسية، يعمل الحرفيون على ترميم الواجهات التي تهالكت بفعل الزمن، في مشهد يعكس التلاحم بين الماضي والحاضر، ويُعيد إلى الشارع ملامحه الأصلية التي كانت شاهدة على تحولات المدينة.

مستشار رئيس الوزراء للشؤون الثقافية، عارف الساعدي، أوضح أن الخطة تتضمن إعادة الحياة الثقافية إلى الشارع، عبر إحياء المقاهي البغدادية، وفتح المكتبات، وتشجيع الحرف الشعبية ومحال الأنتيكات، ليعود الشارع إلى مكانته كمحور ثقافي نابض، لا مجرد ممر مروري أو تجاري.

ويعود تاريخ شارع الرشيد إلى أكثر من قرن، حين أسسه الوالي العثماني خليل باشا عام 1916 كطريق عسكري موازٍ لنهر دجلة، ثم تحول إلى شارع مدني يحمل اسم “الخواص”، قبل أن يُطلق عليه اسم “الرشيد” عام 1936، تيمناً بالخليفة العباسي هارون الرشيد، على يد المؤرخ مصطفى جواد الذي أراد أن يمنح الشارع هوية ثقافية ترتبط بالعصر الذهبي لبغداد.

الشارع لم يكن مجرد طريق، بل كان مسرحاً للأحداث الكبرى في تاريخ العراق. ففي عشرينات القرن الماضي خرج العراقيون فيه مطالبين بالاستقلال عن بريطانيا، وفي السنوات الأخيرة عادوا إليه محتجين على الفساد والنفوذ الأجنبي، ما حوله إلى ساحة صراع بين المتظاهرين وقوات الأمن، حيث اختلطت أصوات الهتاف برائحة الغاز المسيل للدموع، في مشهد يعكس التوترات السياسية والاجتماعية التي مرت بها البلاد.

وقد شهد الشارع فصولاً دامية من التاريخ، منها سحب جثة ولي العهد الأمير عبدالإله في انقلاب 1958، ومحاولة اغتيال عبدالكريم قاسم عام 1959، التي نجا منها بأعجوبة، وكان من بين مدبريها الشاب صدام حسين، في واحدة من أكثر اللحظات توتراً في تاريخ العراق الحديث.

ورغم هذه الأحداث ظل شارع الرشيد مركزاً ثقافياً واجتماعياً، يضم مقرات الصحف والمطابع، إذ كانت تصدر منه أكثر من 38 صحيفة يومية، ويحتوي على 91 مطبعة، خاصة في منطقة الحيدر خانة ومحلة جديد حسن باشا، ما جعله بمثابة شريان إعلامي نابض، يضخ الأخبار والأفكار في جسد المدينة.

كما يحتضن الشارع عدداً من الساحات التاريخية، مثل ساحة الميدان التي كانت تُعرف بـ”البقجة” في العهد العباسي، حيث كانت تُمارس فيها لعبة الكرة والصولجان، وساحة حافظ القاضي التي بقيت شاهدة على تحولات المدينة، من زمن الخلافة إلى زمن الدولة الحديثة.

ومن أبرز معالم الشارع المقاهي التي كانت ملتقى الأدباء والمثقفين، مثل مقهى الزهاوي، وحسن عجمي، وعارف آغا، والشابندر، والمقهى السويسري، إضافة إلى المقهى البرازيلي الشتوي الذي كانت رائحة البن فيه تجبر المارة على التوقف، ومقاه حديثة مثل المربعة وأم كلثوم، حاولت أن تستعيد روح المقاهي القديمة ولو جزئياً.

كما ضم الشارع العديد من البنوك ودور السينما التي كانت منارة للثقافة، مثل سينما رويال، والحمراء، وسنترال، والرشيد، والزوراء، والوطني، والرافدين، وروكسي، وريكس. وبعضها تحول إلى مسارح مثل سينما الزوراء، ومسرح النجاح الذي لا يزال قائما وشاهداً على تحولات الذائقة الفنية في المدينة.

جهود المنظمات غير الحكومية لإعادة إعمار المباني الأثرية في الشارع اصطدمت بالبيروقراطية وتداخل السلطات، ما أعاق بعض المشاريع، لكن المبادرة الحكومية الأخيرة أعادت أمل أن يستعيد شارع الرشيد مكانته كرمز حضاري وثقافي، وواجهة تاريخية لبغداد، يمكن أن تُروى من خلالها قصة المدينة بكل تناقضاتها وجمالياتها.

وفي ظل هذه الجهود يبقى شارع الرشيد أكثر من مجرد شارع، إنه ذاكرة وطن، ومرآة لتاريخ العراق الحديث، ومسرح لأحلامه وآلامه، ومتنفس لأهله الذين يتطلعون إلى أن يعود كما كان… نابضًا بالحياة، عامرًا بالثقافة، ومضيئًا بتاريخ لا يُنسى، لا كحكاية من الماضي، بل كحلم مستعاد في الحاضر.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الساعة حسب توقيت مدينة بغداد

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

697 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع