"شناشيل الشعر والقصيدة والاغاني الحزينة في العراق قديماً وحاضرًا"

  

"شناشيل الشعر والقصيدة والاغاني الحزينة في العراق قديماً وحاضرًا"

  

 

  

العراق متعدد بناسه ومتنوع في جغرافيته، ويحتوي على كل انواع التضاريس في خارطته من جبال وهضاب  وسهول  وصحارى، ويمتاز بوجود نهرين عظيمين دجلة والفرات وفيهما التربة الخصبة، ويلتقيان ويكونا نهرا ثالث محاط هو الآخر بالمناطق الخصبة، وبنهايته يصب في البحر، وأجوائه المناخية متقلبة، هذا التعدد والتنوع جعل الفكر والعلم والأدب والأبداع يتناغم فيها الحب والحزن والفرح والحقد والتسامح لدى الانسان الذي عاش فيه، ولأن الحزن سمة انسانية عامة، فهو يشكل سمة من سمات الكائن العراقي منذ القدم، وجعلت سلوكه متناقضاً، متسلطاً حيناً، وخاضعاً حيناً آخر، قلقاً متوتراً، وغير مستقر على حال، محاط بمسحة من الحزن والأسى، تنعكس في اساطيره وأشعاره وأغانيه التي هي نتيجة لحالة الصراع مع الطبيعة كالفيضانات وبين الانسان والانسان كالحروب والمصائب التي تلحق بالمجتمع والعشق والايمان والعبادة والحرمان، اذاً الشخصية العراقية  تحيط بها مجموعة من الأحاسيس والمشاعر والتي لا يمكن كتمها على مر الزمان، ولهذا ظل شعور الإنسان بالألم و الحزن رفيقه في الحیاة.
هناك منجزات سومرية في الغناء العراقي، أهمها الأبوذية والهوسات "الأهازيج الرباعية" والغناء الحزين، فالحزن منهل الإبداع بكل قيمه وتحديدا الشعر، فقد قيل: البشر يخبئون مشاعرهم تحت جلودهم، ولكن الشعراء لا يحتملون ذلك، فمشاعرهم وحزنهم فوق جلودهم، وفي الشعر يبدو أكثر بروزاً وأوسع سرياناً في النفس، فالشاعر ابن بيئته يستمد من أنوائها ومعالمها وأحداثها عالمه، فيتنفس من هواء المحيط ما لا بد منه، ولا خلاص لها، وإذا تأثر الشاعر بحدث أو انفعل به يستطيع أن يصور ما يجد في نفسه من الروعة أو الحزن تصويرا بليغا ورائعا، ان حضارات سومر، وبابل، وأكد، وآشور، انتجت في قيمها، صورة خلاقة لمدى رقي فكر شعوبها، عبر المزاوجة بين تميز الفكر والشعر والموسيقى.

                   

أن أول تراجيديا كانت على أرض العراق هي تراجيديا جلجامش وانكيدو، فقد مات انكيدو بين أحضان صديقه جلجامش الذي أخذ يبكيه ويولول عليه كما تبكي المرأة على طفلها ، وبكاه سبعة أيام وسبع ليالٍ وهو ينشد:
يا صاحبي لقد حلت بي اللعنة

فلن أموت ميتة رجل سقط في ميدان الوغي

كنت أخشي القتال

فمن يسقط في القتال يا صديقي فأنه مبارك

وليبكيك الفرات الطاهر الذي كنا نسقي منه

لينح عليك محاربو ((أوروك)) ذات الأسوار

من أجل أنكيد، خلي وصاحبي، أبكي وأنوح نواح الثكالي

ثم هام على وجهه في البراري، أن موت أنكيدو جعل صديقهُ جلجامش يتيه في بيداء الحزن والوحدة والأحباط الممزوجة باليأس والأمل، فعايش جلجامش صراعاته وأرهاصاته الداخلية في تفكيره الحزين في البحث عن أجابة شافية للسؤال المحير الكثير الجدل: لماذا مات صديقه الحبيب " انكيدو"؟ وما هو الموت؟ فتفكيرهُ الحزين هذا دفعه إلى البحث عن الأجابة المقنعة في الكيفية التي يمكن للأنسان أن يتخلص بها من الموت ليبقى مخلداً كالآلهة.

  

تعود الاحزان الجماعية في تاريخها بحدود 3200 ق. م، ففي بابل كانت المواكب الدينية تخترق شارع الموكب سنويا لندب الاله تموز، إله الخصب والنماء، للنواح عليه اثر الفوضى والخراب الذي حل بالارض عند هبوط تموز الى العالم السفلي, ونواح عشتار عليه،  وكان الكهان يقومون بتنظيم هذه المواكب التي كان الملك يشارك فيها ايضا، التي تخترق بوابة عشتار وتقيم مهرجانات تستمر اثنى عشر يوما، وفي اليوم السابع تقام دراما محزنة تمثل موت الإله تموز،  وتنتهي هذه الاحتفالات في معبد مردخ الذي يقع قرب نهر الفرات، حيث تعاد فيه تمثيلية قصة الخليقة وفيها الاله تموز الذي يبعث حياً فيبتهج المزارعون ويحتفلون بيوم بعثه.

         

وفي العصر الآشوري تمثلت بأبداع سمفونية حرائق نينوى والتي تتكون من اربع مقاطع، يصف فيها المقطع الاول عظمة الامبراطورية الآشورية وفيها استعراض للجيش، والمقطع الثاني يصف فيها تآمر وتكالب وتعاون الاعداء، والمقطع الثالث يصف فيا المعارك الطاحنة بين جيش الامبراطورية وجيش الاعداء، والمقطع الرابع  يصف فيها الدمار، ويغلب عليه طابع الحزن والاسى لما حل بنينوى من حرائق لتفقد هيبتها، وتعتبر هذه السمفونية من اعظم واجمل عمل موسيقي ملحمي وجد حتى اليوم.
تأثر بدو العراق وهم جز من بادية الجزيرة العربية للشعر الجاهلي الذي يمثل مجموعة من القيم الجمالية فيها الجميل والقبيح والتراجيدي والجليل،  وعبر عن هذه القيم من خلال نظام بنائي جمالي مميّز انسجم وطبيعة تلك القيم،  فاحتفاء الشعر الجاهلي بالتراجيدي عبر حالتين  تتمثل الأولى بتجسيده الدائم لموت " الجميل " وما يخلفه من مآسٍ متنوعة برزت في موقف الطلل، وموقفي الرحيل والاغتراب والفراق،  وتتمثل الثانية بتجسيد الشعر الجاهلي لخيبات الأمل التي كانت تنتاب الشاعر بسبب التناقض بين واقعه وبين " المثل الأعلى " الذي يطمح إليه وكانت دائماً  القبيلة بأنظمتها الصارمة تقف سداً قاسياً بين حلم الشاعر، ووسائل تحقيقه، فألفاظ الشعر الجاهلي قوية صلبة في مواقف الحروب والحماسة والمدح والفخر، لينة في مواقف الغزل والحزن،

  

فمعظم شعر النابغة الذبياني وعنترة العبسي وعمرو بن كلثوم من النوع الذي يتصف بقوة الألفاظ، وهناك نوع من الألفاظ يتصف بالعذوبة للعشق والحزن اشبه بالتوسل، عندها ايضاً جعل الشاعر للمرأة سمو الكواكب وبهاءها، ونضارة النبات وألوانه وأريح العطر في خيال لأرض الصحراء وكأنها خصبة، وأصبحت المرأة فردوسة فى تلك الصحراء الواسعة وقد صنع الشاعر هذا الفردوس أو العالم الجميل وفق هواه، فجمع فيه بين الجمال والجلال والنفع والمتعة، والحزن، والقارئ للمعلقات بروية يجد نفسَه أمام سيل من الدموع، ودفق من الهموم، وجبال من المصائب، وحبائل مقطوعةٍ من الوصال والهجر، ونزيف جراح من الحروب المستمرة لأتفه الأسباب وكان لشعر اصحاب المعلقات الدور الأكبر في تجسيد هذه الحالة ، مما يدفعنا إلى اعتباره " الظاهرة التراجيدية " الأولى في الشعر الجاهلي بلا منازع، نذكر منهم:

          


فعمرو بن كلثوم لم يتوقّف عند الأطلال، وكذلك في بقية أغراضها،  والحزن في بقيَّتها تراوح بين الحزن الحارِّ الذي تحضنه الحسرةُ والدّموع وتُهيِّجهُ الذّكرياتُ
الا هبي بصحنك وأصبحينا..........ولاتبقي خمور الأنـــدرينا
مشعشعة كأن الحص فيــها.......... إذا ماالماء خالطها سخينا
نهايتها:
ملأنا البر حتى ضاق عنا.........وظهر الــــــبحر نملؤه سفينا
ألا لايجــــهلن احد علينـــا......... فنجـهل فوق جهل الجاهلينا

فالشاعر امرئ القيس الذي أجادَ في التعبير والاستجداء والتوسُّلِ،‏ انه وقف واستوقف وبكى واستبكى وذكر الحبيب والمنزل في بيت واحد:
قِفا نبكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزلِ ** بسِقطِ اللِّوى بينَ الدّخولِ فحَومَلِ
ثم يقول:
كأنيّ غداةَ البينِ يومَ تحمَّلوا ** لدى سَمُراتِ الحيِّ نافقفُ حَنظَلِ
وُقُوفاً بها صحبي عليَّ مطيَّهمْ ** يقولون: لا تهلِكْ أسَىً, وتَجمَّلِ
وإنَّ شِفائي عَبرةٌ مُهراقةٌ ** فهل عندَ رسمٍ دارسٍ منْ مُعوَّلِ؟
وقريب من هذه الحرارة يستوقفنا الشاعر طرفة وبمشهدٍ قريبٍ من امرئ القيس، ويلتقيان في بيت أثار الكثير من القضايا النقديّة فيقول طرفة:
لخولةَ أطلالٌ ببُرْقةِ ثَهمَدِ ** تلوحُ كباقي الوشمِ في ظاهرِ اليدِ
وُقُوفاً بها صحبي عليًّ مَطيَّهمْ ** يقولونَ لا تهلكْ أسىَّ وتجلَّدِ
وحاول الهروب من ألم الفراقِ وما أصابه من غم وهم إلى وصف الرحلة الشاقة، فالتمس الحل للتخلص مما هو فيه من غمٍ:
وإنِّي لأُمضي الهمَّ عند احتضارهِ ** بعوجاءَ مِرقالٍ تلوحُ وتغتدي
فالنّابغة الذّبياني في مطلع معلّقته يفضل النداء لتلك الدار القفرة الخاوية:
يا دارَ ميَّة بالعلياءِ فالسَّند ** أقْوَتْ وطال عليها سالفُ الأبدِ
وقفتُ فيها أصيلاً كي أسائِلَها ** عيَّتْ جواباً وما بالرّبع من أحدِ
فالحزن دفين, ولكنه مُحرق للنفس الخائبة، وأضف إليها دلالة المعاني للأفعال
فالشاعر عبيد بن الأبرص يقول في مطلع معلقته:
أقفَرَ من أهلهِ مَلحوبُ ** فالقُطَّبيَّاتُ ، فالذَّنوب
وبُدِّلت منهُمُ وُحوشاً ** وغيَّرتْ حالها الخُطوبُ
أرضٌ توارثها الجدوبُ ** فكلُّ مَنْ حلَّها محروبُ
 في العصر الأموي نرى دموع المحب لمجنون ليلى:
لا يا حماماتِ العراقِ أعنّني *** على شجني، و ابكينَ مثلَ بكائيا
يقولونَ ليلى بالعراقِ مريضةٌ *** فيا ليتني كنْتُ الطبيبَ المداويا
تمرُّ الليالي و الشهورُ و لا أرى *** غرامي لها يزدادُ إلا تماديا
فيا ربِّ إذ صيَّرْتَ ليلى هيَ المنى *** فزنّي بعينيها كما زنْتَها ليا
خليليَّ إنْ ضنّوا بليلى فقرِّبا *** ليَ النعشَ و الأكفانَ و استغفرا ليا
و إنْ متُّ منْ داءِ الصبابةِ فأبلغا *** شبيهةَ ضوءِ الشمسِ منّي

  

وفي العهد العباسي یری المتنبی أنّ البؤس والشقاء شائعان في الحیاة:
صحب الناسَ قبلنا ذا الزمانا وعناهم من شأنه ما عنانا
وتولّوا بغصة کّلهم منه وإن سرّ بعضهم احیاناً
ربّماتحسن الصنیع لیالي ه ولکن تکدّر الإحسانا

ابو فراس الحمداني من شعراء العصر العباسي ومن روائعه ..
أراك عصي الدمع شيمتك الصبر
أما للهوى نهي عليك وﻻ أمر
المناقب النبوية وفولكلور الفراكيات والعتابة نجده محملاً بالحزن، بل حتى بعض من قراء القرآن الكريم يرتلون بمقامات البيات والصبي واللامي وغيرها من المقامات العذبة الحزينة فتخشع لها القلوب وتطرب حزناً ولو مررنا بأحزان عاشوراء واستشهاد الامامين الحسين والعباس عليهما السلام، «فطقوس النواح الجماعي» كانت تمارس القصائد الحزينة للفاجعة بسمفونية المقامات وبأداء شجي.

المجتمع الريفي مجتمع تقليدي مغروس بالماضي، ويحاول معظم افراده محاكاة الماضي، فالمؤرخ والآثاري الدكتور فوزي رشيد في مقالته الموسومة "الغناء العراقي القديم"، حيث يقول : "ومن الأدلة على أن موهبة الشعراء الشعبيين تعود بجذورها إلى الفترات السومريّة والبابلية، هو النظم الشعري الذي يعرف بالأبوذية، أو العتابة، حيث أن النصوص المسمارية قد بيّنت لنا على أن بداية هذا النوع من النظم الشعرية قد ظهرت أيضاً منذ الألف الثالث قبل الميلاد، وربمّا قبل هذا التاريخ بقليل" كذلك "بأن النواح والبكاء والضحك أيضا يمثلون بلا أدنى شك أولى المراحل التي ارتكزت عليها الخطوات الاولى في الغناء وقد تطور هذا الشيء وأصبح صوتاً منظماً شجياً يطرب الآخرين ويسليهم، الغناء نشأ كوسيلة يتوصل بها متعاطوا الغناء الى هدف ما بواسطة التأثير على عواطف الاخرين كما هو الحال مع البكاء والنواح ان الحزن في هذا اللون من الغناء الاصيل كالروح في الجسد والريف والحزن انهما تؤمان يصعب الفصل بينهما لان الموهبة بالفطرة نابعة من ارضية حزينة كان مخزون في مكنونها حزنا انبثق من بين القصب والبردي أغلب سكان هذه المنطقة من نساء ورجال وشباب يتداولون الشعر ويقرضونه بصورة عجيبة ومدهشة على التركيب الرباعي السومري، فيها عن كون الشعر الشعبي (العامي) العراقي في الجنوب مسألة وراثية، كما ان عدداً من الترانيم التي تناغي الأم وليدها في المهد مازالت حتى يومنا هذا لا تخرج عن اطار الحزن" اللوليات"، "دللول الولد يبني دللول وعدوك عليل وساكن الچول دللول الولد يبني" والتي غنتها زهور حسين.

    

ان اول مطرب ريفي عرفه العراق في بداية القرن العشرين هو خضير حسن ناصري عرفه العراق، والمطرب الريفي الكبير حضيري أبو عزيز أول سفير للأغنية العراقية، وهو أول من عرف الشعوب العربية بتراث الغناء الريفي الجميل،

وكيف أصبحت أغنيته المشهورة "عمي يا بياع الورد" أغنية العصر التي يرددها الناس صباحا ومساء، وباتت مدار حديث المجالس الفنية والأوساط الغنائية في مصر، وتكرار إذاعتها من محطات الإذاعات العربية عبر بلدانها حتى أصبحت الأغنية الأولى على مستوى العرب، وأداها أكثر من مطرب عربي، واغنية" عيني وماي عيني " واحدة من الأغنيات التي كتبت لأحدى الطرق السومرية، فأغنية  "حن يادليلي يادمعه سيلي" لداخل حسن، "وياطبيب اصواب دلالي كلف" لناصر حكيم، وعبد الزهرة مناتي " نازل يا قطار الشوق وياوسفة ظني" لعبد الزهرة مناتي "وغريبة من بعد عينج ييمه" لزهور حسين واغاني صديقه الملاية، وحيدة خليل، واغاني مسعود عمارتلي، وجبار ونيسة، وعبد الامير طويرجاوي، وعبدالجبار الدراجي الذي غنت له المطربة العربية الراحلة فائزة احمد من ألحانه وكلماته أغنية "خي لا تسد الباب" في منتصف الستينيات من القرن الماضي، وكذلك وضع الحان اوبريت "غيده وحمد" وهذا العمل تضمن الغناء المورث: "أبو ذية، نايل، سويحلي"، فالنايل الذي هو لون قديم جداً، وسبب تسميته أن هناك فتاة من بني عذره كانت تهوى فتى من قبيلتها أسمه نايل فقالت فيه نايل قتلني و نايل غير ألواني ونال بشوقه سقيم الروح خلاني عادة ما يكون النايل حزينا جدا ومن البحر الشعري مجزوء الرمل حيث أن كل بيت فيه يختلف عن غيره في طريقة الرجز، وأيضا ما قام به الملحنون ناظم نعيم وسمير بغدادي ورضا علي ومحمد نوشي أفادوا المطرب الدراجي بنماذج زاهية من الأغاني الحديثة ذات النكهة الريفية مثل أغاني "تانيني يا جمال" و"دكتور جرح الأولي عوفة"، و"علمتني"، و"ما اريد ألما يردوني" التي تعد من أفضل الاغاني خلال حقبة الستينيات من القرن الماضي، والأغنية الناجحة هي الاغنية التي تجسد لنا شخصية المؤدي وطريقته في الاداء، وهذا ما نجح به ايضا المطربون ياس خضر وحسين نعمة ورياض احمد وسعدون جابر وحميد منصور وكريم منصور ورضا الخياط ومطربون وملحنون كبار آخرون استفادوا من تراث الأغنية الريفية، وقدموا أجمل الألحان والاغاني التي تركت بصمة في تاريخ الغناء العراقي ومنهم عباس جميل، وطالب القرغولي، وجعفر الخفاف، وكاظم فندي، واديب نامق، ومن الكتاب الذين ابدعوا باشعارهم وقصائدهم التي فيها طابع الحزن والشجن عريان السيد خلف وزامل سعيد فتاح.
فالطبيعة البكائية للكلمات . . جعلت الأغنية العراقية تصل فورا لقلب المستمع العربي الذي هو بالأساس شعب عاطفي جدا
الدارمي اصعب انواع الشعر، وهو شعر شعبي عراقي منتشر ومتداول في جنوب العراق، له وزنه الخاص ويتكون من بيت شعر واحد فقط بصدر وعجز  الصدر والعجز بقافية واحدة، يقال ان هذا النوع من الشعر اول من قالته امرأة ذلك لان المجتمع لايعطي وقت كبير للمرأة للتحدث لذلك تلخص ماتريد قوله ببيت واحد فقط، وهو في اصله تعبير عن الألم واللوعة والحزن والحب والشوق:
بنيان إلك بالروح بعلو الثريا**كل ما اكرب اعليك تبعد عليه
يالتنشد على الحال حالي إنا تلفان**كلبي من الضيم شيب والإحزان

  

الغناء في المجتمع الصحراوي بين مضارب أهل البادية وساكنيها، حيث كثبان الرمال الساخنة، واطلالات الجمال وهي تحمل على ظهورها خيام الرحال بحثاً عن العشب والماء بعد ان انجلت الارض التي حلوا ضيوفا عليها وامتصت آخر قطرة ماء جادت بها سماء الله، وقد يأتي الغناء بنغمة تنطوي على الحزن، ليعبر عما يجيش في النفس من لواعج الأسى ومشاعر الحزن والكآبة، والغناء في الصحراء له ألحان متنوعة تفرضها البيئة الصحراوية من حيث النغمة واللحن، وتلنها الطبيعة بألوانها المختلفة التي تتلاءم مع تلك البيئة، وتتناسب مع ظروف العيش في الصحراء، فهو مسرح البدوي الذي أطلق أغانيه بالأزجال المعبرة والالحان المتناسقة والحكايات البديعة، وهي ملهمته التي توحي إلى نفسه أنغامها، وكأن صفير الريح في ربوعها ناي يرافق غناء البدوي ويمتزج بصوته وألحانه، وكأن أرضها وأديمها لوحة يستوحي منها فنه وإبداعه، ترافقه الربابة وأطوارها متنفسا لمن تشتاق أنفسهم للبكاء مع همهمات العازفين وأشعارهم بكل حرقة وألم، لتكون الآلة بحق "قيثارة الحزن العراقي" الذي طال مكوثه بينهم.

الغناء في المجتمع الصحراوي يُقسم إلى نوعين:

قسم خاص بالرجال وهو الأكثر شيوعاً وانتشاراً، وقسم قليل آخر خاصّ بالنساء ويقتصر على مناسبات الأفراح أو المناسبات الأخرى المشابهة لا يتعداها، نبدأ بأغاني الرجال وبالألوان الأكثر شيوعاً، أو التي يعتبرها البدو ركيزة الغناء عندهم ونستهلها بغناء الهجيني
يا طير انا بسألك بالله      بالصوت ماشفت لي نورة
باعينها عين الغزيل          اللي عن الوكر مقصورة
 المسحوب، هذا اللون الشجي من غناء الصحراء  هو المعبر الصادق عن هموم ابناء البادية  ومعاناتهم  من عناء الترحال الدائم تحت حرارة الشمس وعدم الاستقرار والمسحوب هو العزاء ففي شدوة الترويح عن النفس التي ترسبت في قراراتها اكداس من العذابات والجراح
يالله يامدبر الهبايب والدوار        جودك على امداد جودك لطيفه
يارب يامعبود عاون اهل الكار    افرج الشده عليهم كليفة

المسحوب ترافقه الربابة
غناء السويحلي
خلوا العزيز اينام لا تجعدونـــــــــــه  ......    انهوده شبه رمان ليلو اسنونـــــــــــــه
غناء الركباني

حنا عمامك لو رحلنا     ... ...     ياجرد من ننزل  عليها

بحرابها ياما طعنـــنا       .. ....  اوجم فارس صلنا عليها

غناء الكصيد
تعني جميع الوان الشعر البدوي او هي تطلق على جميع الوان الغناء البدوي والدليل على ما نرى ان “الكصيد” في مضارب البادية يغنى بعد ان يصل الراوي الى موقف حاسم من مواقف القصة أو الاسطورة التي يرويها الى الجلاس كترجمة لذلك الموقف وليشدهم الى ما تبقى من فصولها وغناء “الكصيد” ترافقه الربابة ويكتب لاغراض الفروسية والتباهي والفخار وتمجيد البطولات
ياراكب يللي من عقيل تقللو.. على ضمر شبه الحنايا تحايل
قولو لابا زيد ترى الوادي امتلا.. وكل  شعيب من مغانيه سايل
واهم رموز هذا الغناء الجميل جبار عكار وسعدي الحديثي وابراهيم العبد الله وآخرين.
تتميزالأغنية العراقية بغنى مقاماتها وإيقاعاتها الكثيرة التنوع فضلا على وجود حزن وعواطف جياشة تظهر جليا في الكلمة الحزينة.
ثمانية مقامات موسيقية شرقية رئيسية، أربعة منها حزينة، هي الصبا، وهو أكثرها حزناً، والنهاوند، والكورد، والسيكا، ومع أن الأخير يمكن أن يمزج الحزن وانطباعات شعورية أخرى، فالانطباع الذي يتركه لدى السامع يميل إلى الحزن، ثلاثة مقاماتٍ محايدة تترك آثاراً مختلفة في نفس السامع، حسب اختلاف الإيقاع الذي يلعب دوراً مهماً جداً، لكنها تملك القدرة أن تكون حزينة جداً، كالبيات والحجاز، مقابل مقام واحد فرح هو العجم، في النتيجة، ومع المجال الكبير الذي يمكن للموسيقي أن يراوغ به، فالفوز محسوم في لعبة المقامات الشرقية، والتي كانت تقوم عليها وحدها الموسيقى العربية ولمدة طويلة، لصالح المقامات الحزينة، ما يفسر الحزن الهائل الذي يغلب على أغاني ما يعرف بالعصر الذهبي، عصر أم كلثوم وعبد الوهاب، ورشيد القندرجي والكبنجي وصالح الكويتي وناظم الغزالي ويوسف عمر وحمزة السعداوي وعبد الرحمن خضر وحسين الاعظمي ورفاقهم، عندما كانت الموسيقى العربية شرقية بحتة.
كانت مختلف الطوائف الدينية في المجتمع تشترك في الاداء الموسيقي والغنائي، أثناء العصر العثماني، افتى كثير من العلماء المسلمين بتحريم الغناء والموسيقى وبها انحصر الغناء والموسيقى بين يهود العراق، ولذلك نرى يهود العراق يتفوقون في الغناء والموسيقى منذ العصر العثماني خاصة، وكان عصرهم الذهبي في فترة الحكم الملكي،  فقد كان اليهود يمثلون العازفين الامهر بين اقرانهم ويكادون يحتكرون مهنة عازفي الموسيقى في نهاية القرن التاسع عشر حتى منتصف القرن العشرين،

             

ان الفضل في تعلـم هاشم الرجب العزف على آلة " السنطور " والفنان شعوبي ابراهيم على آلة " الجوزة " يعود الى رئيس الوزراء نوري السعيد الذي كان يعشق المقام أيضاً، فلقد أمر بتأخير تسفير اليهوديين العراقيين ( يوسف بتو وصالح شميل ) عازفي ( السنطور والجوزة) إلى ( إسرائيل ) إلا بعد أن يعلما هاشم الرجب وشعوبي العزف على الآلتين، وهكذا كان نوري سعيد سبباً مباشراً في بقاء هاتين الآلتين في تراثنا،

 

وكان صالح واخوه دواود الكويتي وفلفل كرجي من واضعي اسس الموسيقى العراقية الحديثة  وقد سار الملحنون العراقيون على خطاه، انبهرت  أم كلثوم بصالح الكويتي عند زيارتها العراق وغرفت منه لحناً رائعاً لأغنية بصوتها عندما غنت أغنية ( كلبك صخر جلمود ) التي لحنها صالح  الكويتي للمغنية اليهودية سليمة مراد، ومن المغنيات اليهوديات التي كان لهما اداء جميل في بداية القرن العشرين: سلطانة يوسف، ونظمية ابراهيم.
حتى التراتيل الكنسية: التي هي نمط غنائي حر، تعود أصوله إلى عصور قديمة جدا، بدأً لبداية ظهور الديانة المسيحية وحركات التبشير والدعوة ، فإدراك الأثر المعنوي وربط الفكرة وسهولة الحفظ والأسرتجاع يعود للموسيقى التي تصاحب كلمات ونصوص من الكتاب المقدس،  وعليه فإنها تصل من أبسط الناس ثقافة وطبقة حتى أعلاها، وامتازت هذه التراتيل بألحان حزينة مأخوذة من الواقع وهي لا تختلف كثيرا عن ما هو متداول حاليا من أنغام أو أجناس ،
اهتم الشاعر المعاصر اهىتماما کثيرا بالحزن، الاهىتمام کان بظواهر االامور اکثر عندىم والشکوی والانين والغروب والسحب السوداء والموت وما شاب من هذه المفردات الحزن، قد توجد کثيرا فی اشعارهم عيونها الی آلافاق الوسيعة إلانسانية وکانت شديدة الحساسية إزاء تموجات العالم الفکرية بصورة عامة والمجتمع العراقی بصورة خاصة، بالإضافة إلى إدراك حالة موت الكائن، حيث نراه في شعر بدر السياب وشاعرة الحزن نازك الملائكة وشعر مظفر النواب، بحيث كانت اشعارهم بين دمعة وابتسامة وخيال خصب لمسيرة الحياة بقالبها الحزين.

  

موسيقى الجبل وسكانه الكرد لهم صياغات جميلة  فيها مظاهر الحزن في اغانيهم الجميلة والتي تأخذ طابع المقامات باستخدام الاتهم الموسيقية، أما عن التركمان فيقول باحث منهم، نحن معشر التركمان نجيد الحزن ، كأنما خلقنا مع الحزن في ساعة واحدة، إذا الواحد منا دفن حبيباً له وانصرف عنه الناس صعد الجبل ووقف على صدع يطل على الوادي وهو ينشد ويغني بحزن والم ولوعة،  إذا غنى التركمان أغنيةً حزينة رددت صداها الجبال والسهول وبكت معه الأرانب والطيور.
فمنذ الاحتلال الأمريكي الذي عمل على تمزيق النسيج الاجتماعي وتشجيعه على إثارة الطائفية والعرقية، والأتيان بحكام لا يفهمون في السياسة أو إدارة الدولة بقدر ما يتفننون في أساليب الغش والنهب واستغلال السلطة لمصالحهم الخاصة، وعلى الوضع الآخر ارتكبت العصابات الإرهابية لداعش والحرس الايراني، وميلشيات الأحزاب، ورجال السلطة أبشع الجرائم في حق المواطن العراقي، فنجد أن ملايين العراقيين ممن قصمهم القتل والإرهاب والعنف والموت والتشريد وقسوة التدمير والاذلال واستلاب وهدر انسانيتهم وكرامتهم، تتراءى لنا زيادة غير مألوفة في مظاهر الحزن والاغتراب والحنين والضياع وفقدان الطفولة والترمل وضياع الهوية الوطنية والخوف من القادم لدى شعراء العراق، وبذلك حمل الشاعر العراقي هموم وطنه ومحنته الغائرة فكان شعره باختيار اجمل الكلمات في قاموس اللغة كسمفونية حزينة عزفت على أوتار القلوب وجعلتهم يهيمون بها ويتلذذون بسماعها حتى في احتفالاتهم الاجتماعية وخصوصا في الغربة،

     

نذكر منهم الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد، والشاعر سعدي يوسف، والشاعر كريم العراقي، والشاعرة لميعة عباس عمارة، والشاعرة بشرى البستاني، والشاعر عادل الشرقي، والشاعر فاروق جويدة، والشاعر خزعل الماجدي، والشاعر رعد البندر، والشاعرة ساجدة الموسوي، والشاعر خالد السعدي، ومن العرب الشيخ العريفي، وازدادت المواويل الحزينة التي غناها حاتم العراقي وحسام رسام ، وازداد الاداء الغنائي الحزين ، والتي غناها كاظم الساهر وماجد المهندس، ومن العرب لطفي بوشناق وملحم كرم، وغيرهم الكثير.
فجنوح العراقيين للحزن العميق بالشجن المبكي موروث  في وجدانهم بما كان يفعله السومريون والبابليون والآشوريون واستمرت تبعاً لأصولهم وجذورهم وسلالاتهم الأجتماعية والدينية والأسرية، وازدادت بعد الاحتلال للمآسي التي حصلت وتحصل لحزن الاغتراب والتهجير وبأس الطفولة ووجع الأمهات والضياع...، والى متى يظل هذا الحال؟، ومن الله التوفيق
سرور ميرزا محمود

 
 

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1137 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع