أيام زمان - الجزء ٥٣ - الأبرة
أقدم اختراع بشري هو الإبرة، ربما تكون أقدم من العجلة.
عندما فكر الإنسان القديم بستر بدنه بالمواد التي توافرت له من الطبيعة، لم يكن يعرف الإبرة والخيط. فاستثمر في البداية جلود الحيوانات التي يصطادها، وأوراق النباتات والعظام والقواقع لستر بدنه، بعضه أو كله، والتي كان يفصلها ويقطعها حسب حاجته، وبما يتناسب مع مناخ المنطقة التي يعيش بها، وتُجمع مصادر مختلفة على أن الإنسان قبل ثلاثين ألف سنة، استخدم تقنيات لصناعة ملابس تناسب جسده، وبشكل بدائي خاط المواد التي كان يلفها على جسده، في البدء صنع بعض الحجارة حادة الحواف كأداة لقص الجلود، واستخدم العظام لثقب قِطع الجلد، وإدخال أحشاء الحيوانات أو الحبال النباتية في الثقوب، لجمع القطع مع بعضها البعض، ثم طورها بإيجاد ثقب في أحد طرفي الإبرة لإدخال أمعاء الحيوان أو حبال النبات في الجلد.
عُرفت الإبرة منذ ما قبل الميلاد بقرون كثيرة، ووثقت ذلك قبل أن يعثر الآثارين على أدلة مادية، فورد في إنجيل مرقس "مُرُورُ جَمَل مِنْ ثَقْبِ إِبْرَةٍ أَيْسَرُ مِنْ أَنْ يَدْخُلَ غَنِيٌّ إِلَى مَلَكُوتِ اللهِ (مر 10: 25) ".
الإبرة (الجمع: إِبَر) يصف التعريف الكلاسيكي، أداة معدنية رفيعة الشكل وتكون بأطوال مختلفة توجد فتحة صغيرة في أحد طرفيها ويكون طرفها الأخر مدبب ليسهل غرزه، تستخدم لخياطة الأقمشة والثياب، أو لخياطة جلود الأحذية، العملان الرئيسيان لمثل هذه الأداة هما ثقب القماش المخيط، والثقب الموجود في الطرف الآخر، حيث يتم ربط الخيط فيها، ومن المثير للاهتمام أن ثقب الإبرة الصغير يسمى في لغات مختلفة بعدة تسميات مختلفة في اللغة الروسية، تسمى الأذن، والإنجليزية العين. وهكذا.
على الرغم من اختراع ماكينة الخياطة، استمرت الخياطة اليدوية والتطريز، في الانتشار بشكل لا يصدق، ولا يتعب الحرفيين من أعمال فن الخياطة والتطريز بالإبرة.
الإبرة هي الشيء الذي دائمًا موجود في أي منزل وجميع الأوقات: منزل الفقراء، منزل الملك، وخلال الحروب العديدة التي كانت الأرض غنيةً بها، كان مع كل جندي دائمًا إبرة خاصة به، يتم لفها بخيط: ويحتاجها الجندي لخياطة زر قمصيه إذا قطع، واستمر هذا التقليد حتى يومنا، ونستطيع القول بأن جميع الأفراد العسكريين لديهم عدة إبر بألوان خيط مختلفة: منها أبيض للخياطة على الياقات، أسود للخياطة على الأزرار وأحزمة الكتف، للإصلاحات الطفيفة.
عندما ظهرت الإبرة الأولى في يد شخص ما، بالطبع من المستحيل القول إنه تم اختراعه في العصر الحجري، كان الناس في ذلك الوقت يصنعون إبرًا من عظام السمك الرقيقة والحادة، وأحيانًا من الخشب، بهذه الأدوات البسيطة قاموا بخياطة جلود الحيوانات، وكانت المشكلة المبكرة هي القدرة على إحداث ثقب صغير في الجلود بما يكفي إمرار الإبرة والتي كانت قطعة من العظم أو شوكة كبيرة.
تعود البدايات الأولى للخياطة إلى العصر الجليديّ الأخير، إذ اكتشف علماء الآثار الإبر العظميّة التي تحتوي على فتحات، والمستخدمة لخياطة الجلود والفراء، وتبقى آثار ذلك في استخدام المخرز وهي أداة لعمل الثُّقوب الصَّغيرة باليد، وقد عثر على إبرة عظم يعود تاريخها إلى 61000 عام واكتشفت في كهف(سيبودو) جنوب إفريقيا. وعثر على إبرة مصنوعة من عظام الطيور وتنسب إلى البشر القدماء (دينيسوفان) في كهف (دينيسوفا) ويقدر عمرها بحوالي 50000 عام. وتم اكتشاف إبرة عظمية تعود إلى (العصر الأوريجناسي) وعمرها (47000 إلى 41000 عام) في كهف (بوتوك) السلوفانية، وعثر على إبر عظمية وعاجية في موقع (شياو جوشان) الذي يعود إلى عصور ما قبل التاريخ في مقاطعة (لياونينغ)، ويعود تاريخها إلى ما بين 30000 و23000 عام، كما تم العثور على إبر عاجية يعود تاريخها إلى 30 ألف عام في موقع (كوستينكي) في روسيا، وتم اكتشاف إبرة من عظام تعود للعصر الحجري الحديث عمرها 8600 عام في (إكشي هويوك) غرب الأناضول في مقاطعة دنيزلي الحالية، وفي كهف بسيبيريا في مدينة نوفوسيبيرسك وجد باحثون روس إبرة طولها حوالي سته سنتيمتر وعمرها حوالي 50000 عام لا تزال صالحة للاستعمال كما يقال.
ويُذكر أنَّ أقدم إبر الخياطة الحديديّة تعود إلى حصن تل سلتيك في مانشنج بألمانيا، ويرجع تاريخها إلى القرن الثالث قبل الميلاد، في حين أشارت دراسات أثرية إلى أن مصر الفرعونية، عرفت الإبرة منذ القرن الخامس قبل الميلاد، وعثر علماء الآثار على إبر من النحاس والبرونز والفضة.
استخدم الهنود الأمريكيون نباتًا الأغاف لأغراض الخياطة. وهو نبات ذو أوراق نضرة له أسنان هامشية حادة يعيش في المناطق الحارة وجنس من الصبار، يتم نقع أوراق الأغاف في الماء حتى تنقسم إلى ألياف طويلة، والتي كانت متصلة بالفعل برأس حاد، ويتم تجفيفها ثم يستخدمون الألياف والتي تشبه الإبرة، كانت هذه الإبر تتصف بالهشاشة وفي محاولة لإيجاد بديل لهم، حاولوا استخدام مواد أخرى، على سبيل المثال، الأشواك السوداء، أما في العصور الوسطى استخدم صانعو الأحذية ومجلدين الكتب أحيانًا إبر القنفذ.
إذا حدث أن تمكنت الحرفيات القدامى، من النظر في صناديق الخياطة للخياطات الحديثات، فمن المحتمل أن يموتن من الحسد، في الواقع هناك شيء يحسد عليه، لأن تكلفة الإبر الآن مجرد فلس واحد، في الوقت الحالي تمتلك كل ربة منزل، الكثير من إبر الخياطة ولها أحجام وأشكال مختلفة.
اعتمادًا على ما تحتاجه الخياطة هناك اثني عشر حجمًا في مجموع الإبر التي تحتاجها، وعليه فإن الإبر ليست فقط للخياطة والتطريز، ولكن أيضًا لخياطة السروج، والفراء، حيث الخياطة العادية والتطريز يستخدم إبر رفيعة طويلة، والإبر المذهبة مناسبة تمامًا للتطريز فهي تنتقل عبر القماش بسهولة، بالنسبة لأولئك الذين يطرزون بكلتا يديهما، هناك إبر مريحة للغاية فيها ثقب في المنتصف، ويسمح للخياط بثقب القماش دون قلب الإبرة. أما التطريز بالخيط يجب أن تكون الإبرة مطلية بالكروم مع عين مذهبة، وتكون عين هذه الإبر أطول بحيث ينزلق الخيط بحرية عند الخياطة ولا يتوقف عند المرور عبر القماش.
تستخدم الإبر ذات العين الطويلة، ولكنها أكثر سمكًا ودائمًا مع طرف حاد لخياطة الصوف، ويكون الطرف غير حاد حتى لا تكسر الألياف السميكة للقماش، وعند خياطة الخرز يجب أن يكون سمك الإبرة مساويًا للثقب الموجود في الخرز ويجب أن تكون إبرة خياطة الجلد سميكة.
هناك إبر خاصة تستخدم في صناعة السجاد والمنسوجات غير المنسوجة، ليس من قبيل المصادفة أن إحدى طرق الحصول عليها تسمى بالإبرة المثقوبة، هناك إبر للمكفوفين؛ من السهل جدًا إدخال الخيط فيها، لأن مصنوعة على مبدأ حلقة. حتى أن هناك ما يسمى بـ "إبر البلاتين" المصنوعة من الفولاذ المقاوم للصدأ والمغلفة بطبقة رقيقة من البلاتين، مما يقلل الاحتكاك ضد القماش، تعمل هذه الإبر على تقصير وقت الخياطة وهي مقاومة للزيوت والأحماض وبالتالي لا تترك بقعًا، تصنع إبر نسيج القماش بعين كبيرة ونهاية مستديرة لا تخترق، ولكنها تدفع ألياف النسيج بعيدًا، وتستخدم الإبر المماثلة أيضًا في الخياطة المتقاطعة للقماش السميك (من 2 إلى 5 مم) والأطول (70-200 مم) تسمى الغجرية، وهي إبر الأكياس المستخدمة في الأقمشة الخشنة مثل الخيش والقماش المشمع إلخ، يمكن أن تكون منحنية.
لقد أصبحت الإبرة جزءًا من الحياة اليومية منذ زمن بعيد وبقوة، حتى أنها بدأت تحمل معنى مقدسًا معينًا، لا عجب أن الكثير من البشائر، وقراءة الطالع والمحظورات، والقصص الخيالية والأساطير مكرسة لها، وهناك الكثير من الأسئلة حول الإبرة مقارنة بالعناصر الأخرى.
يستخدم الجراحون الإبر الطبية للخياطة الأنسجة، هذه الإبر ليست مستقيمة، لكنها منحنية، اعتمادًا على
الغرض، فهي نصف دائرية، شبه بيضاوية، في النهاية عادةً ما يتم عمل شق للخيط، ويكون سطح الإبرة مطليًا بالكروم أو مطليًا بالنيكل حتى لا تصدأ الإبرة، وهناك إبر جراحية بلاتينية، أما سمك الإبر العينية، التي يتم إجراء العمليات بها في قرنية العين، جزءًا من المليمتر من الواضح أنه لا يمكن استخدام مثل هذه الإبرة إلا بالمجهر.
ولا ننسى الإبر الصينية هي إحدى ممارسات الطب الصيني القديم، نشأت وتطورت عبر آلاف السنين وكانت تستعمل قديما الحجارة الحادة، حيث تغرس في الجسم لتحدث تأثيرا معينا، ثم تطورت وبدأ استخدام عظام الحيوانات وخشب الخيزران ثم استخدمت المعادن، بدءا بالبرونز والحديد ثم النحاس فالفضة والذهب، حتى وصلنا إلى الإبر الموجودة اليوم والتي عادة تكون من معدن الفولاذ الذي لا يصدأ، يقوم المتخصص بإدخال إبرة خاصة يصل طولها إلى اثني عشر سم وسمك 0.3 إلى 0.45 مم، بهذه السماكة تكون إبرة الوخز مستقيمة، ولكن لها بنية حلزونية، يمكن الشعور بها عند اللمس فقط، ينتهي الطرف الذي يظل بارزًا بنوع من المقبض، بحيث تشبه هذه الإبرة رأس دبوس.
هناك احتفال بوذي مذهل في اليابان يسمى "مهرجان الإبرة المكسورة"، ويسمى هاري ـ كويو بدأت منذ أربعمائة عام كطريقة لمدبرة المنزل، وعمال الإبرة المحترفين للاعتراف بعملهم، على مدار السنوات الماضية واحترام أدواتهم في التقاليد الروحانية، ويعبر هذا المهرجان بالفائدة الممنوحة للناس من خلال أدواتهم، يذهب الخياطون إلى أضرحة الشنتو والمعابد البوذية، لشكر إبرهم المكسورة على مساعدتهم وخدمتهم. يتماشى هذا مع فلسفة "عدم الهدر" أو "تكريم الأشياء الصغيرة"، يحتفل به في 8 شباط في منطقة كانتو، ولكن في 8 ديسمبر في مناطق كيوتو وكانساي، تحتفل به النساء في اليابان كنصب تذكاري لجميع إبر الخياطة المكسورة في خدمتهن خلال العام الماضي، وفرصة للصلاة من أجل تحسين المهارات، يطلق عليه أيضًا مهرجان "ذكرى الإبرة"، يتجمع رواد المهرجان في الأضرحة والمعابد، حاملين إبرهم ودبابيسهم المكسورة في جو جنائزي، توضع الأدوات في التوفو المعروف أيضًا باسم خثارة الفاصوليا، أو (كعك الهلام الطري) بروح من الحنان والامتنان، وتم إنشاء مذبح صغير من ثلاث خطوات ومعلق بحبل مقدس وشرائط من الورق الأبيض المقطوع تشير إلى منطقة مقدسة، وفي أعلى الدرج توجد قرابين من الفاكهة والكعك الحلو، وفي الدرجة الوسطى توجد كعكة من التوفو والكعك، في الخطوة السفلية توجد العديد من ملحقات الخياطة، في هذا اليوم، تقضي الخياطات إجازة ويحضرن إبرهن القديمة إلى المعبد، بعد ذلك تتلو إحدى الخياطات صلاة شكر خاصة للإبر على خدمتهم الجيدة، ثم يتم لف التوفو مع الإبر بالورق ويتم إنزاله في البحر، أما اتباع
الديانة الشنتوية في اليابان يقيمون المهرجان في 8 فبراير من كل عام، وذلك لنقل الإبر التالفة أو المكسورة إلى معبد محلي للتخلص منها.
في إيطاليا، هناك نصب تذكاري لإبرة وخيط مثبت في منطقة سينان في ميلانو، بالقرب من أحد المحطات تكريما للأزياء الإيطالية العالية.
ومثل كثير من المعتقدات التي ارتبطت بالخرافات، كذلك كان الأمر بالنسبة للإبرة، فبعض الشعوب تؤمن بأن الخياطة مكروهة ليلاً، وكذلك تسليم الإبرة باليد من شخص إلى آخر، ونظراً لارتباط الإبرة بالخرافات فقد استُخدمت لإبطال السحر ‘‘وثقب عين الحسود‘‘.
وللحديث بقية في العدد القادم
المصدر: حقائب إبرة الخياطة العتيقة
تاريخ اللباس من أقدم فترة حتى نهاية القرن الثامن عشر. تشابمان وهال.
للراغبين الاطلاع على الجزء السابق:
https://algardenia.com/mochtaratt/63588-2024-05-30-19-44-33.html
996 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع