قلم باندان
عند إنكسار البوصلة تصير القيم والمباديء والمثل سلعةً في سوق الضياع
وما حدث في تكريت مثالا جليا
لم يعُد السقوطُ اليومَ صوتاً مدوّياً يهزُّ أركانَ الوعي، ولا صدمةً تُزلزلُ الأرواح. لقد صرنا نسقطُ بصمتٍ، كما تتساقطُ أوراقُ الخريف فوق أرصفةٍ متعبة، لا تسمعُ أنينها الأرضُ، ولا تفتقدها الشجرة. صار الانهيارُ طقساً يومياً، نرتديه كما نرتدي أقنعة النفاق، دون أن ترفَّ فينا شعرةٌ من خجلٍ أو كرامة.
لكن ما هو أفظعُ من السقوطِ نفسه، هو هذا الاعتيادُ عليه. أن نصحو فنرى الخيانةَ قد أصبحت "خياراً استراتيجياً"، والذلَّ طريقاً نحو المناصب، والانبطاحَ فنّاً يتقنه المتسلقون. من يصفّقون اليومَ للجلادِ هم أنفسهم الذين بكوا يوماً من بطشه، ومن يبتسمون له اليومَ هم من كانوا يشتمونه خلف الجدران. أيُّ انقلابٍ في النفوسِ هذا؟ وأيُّ موتٍ بطيءٍ لذاكرةِ الشعوب؟
لقد تآكلت الذاكرةُ الجماعية كما تتآكل الجدرانُ في المدن المنسية؛ حتى صار أطفالُنا لا يعرفون من هو العدو، ولا من طُعن في الظهر، ولا من بكى على عتبة الخيانة. كأنّ المذابحَ كانت مشاهدَ سينمائية، لا دماءَ أمهاتٍ ولا صراخَ أيتام.
يسأل الضميرُ المذبوح: متى صار الانكسارُ شجاعة؟ ومتى أصبح الخنوعُ حكمة؟ ترى الوجوهَ التي كانت تتغنّى بالكرامةِ وهي تباركُ سيفَ من أذلّها. صارت القيمُ بضاعةً في مزاد الانحطاط، يُساومُ عليها المهرّجون، ويشتريها الأوغاد بثمنٍ بخسٍ من التصفيق والإعجاب الزائف.
هل نسيتم الفرقَ بين من يموتُ من أجلِ فكرة، ومن يقتلُ الفكرةَ ليحيا؟ ولكن أيّ حياةٍ هذه؟ أيُّ لذةٍ تلك التي تُنتزعُ من على جثثِ المبادئ؟ إنهم لا يعيشون، بل يركضونَ في مسرحٍ ملوّثٍ بالعار، يمثلون فيه دور "الوطنيّ" وهم يبيعون الوطن في الكواليس.
أن ترى أبناءَ القادةِ يتوسلونَ رضا قاتلي آبائهم، ويقبّلون الأيادي التي دنّستْ قبورَ أبطالهم، فتلك لحظةٌ لا يُحتملُ فيها النظر. أيُّ دمٍ يجري في تلك العروق؟ أهو ماءٌ آسن أم أثرُ لعنةٍ قديمةٍ سرتْ في الأنساب؟ كيف تقبلُ النفسُ أن تُصافحَ مَن لوّث الأرضَ والاسمَ والذاكرةَ؟
حتى الصورُ التي كانت تُعلّقُ على الجدرانِ بأملٍ واعتزاز، أصبحت تُزالُ بخجلٍ، ويُعلّق مكانَها شعارُ شركةٍ أجنبيةٍ أو توقيعُ اتفاقيةِ إذلال. صار الوطنُ شعارًا تجاريًا، لا جغرافيا تُدافَع، ولا تاريخًا يُصان.
هل ماتت "حرمةُ الموتى" في زمنِ المجدِ الزائف؟ أم أن الجوعَ إلى كرسيٍّ وهميٍّ أكل كلَّ ما تبقّى من شرفٍ في النفوس؟ هؤلاء لم يبيعوا التاريخ فقط، بل باعوا آخر ما تبقّى من "حياء الوجوه". لقد رموا العمائمَ والسيوفَ والخطبَ في مزابل التطبيع، ولبسوا أقنعةً من حريرٍ مستوردٍ من خزائن العدو.
يتهادون اليومَ في قاعات الاحتفاء بالهزيمة، يكتبونَ "أبحاثاً" تشيدُ بمَن كانوا يُسمّونهم "عدواً"، وكأنَّ ذاكرتهم تُمحى بممحاةٍ سريعةٍ من الدولار والابتسامات. صارت أقلامهم تُشيدُ بالسيفِ الذي كان يُقطّعُ أوصالَ كرامتهم بالأمس.
الضميرُ العام لم يُصَب بالعمى، بل بالصمم والبُكم. لم يعد يسمعُ الأنين، ولا يردُّ على الأسئلة. يتلوّنُ مع الحشود، وينصاعُ كأجيرٍ في مأدبةِ الطغاة. نحنُ لا نعيشُ في زمنٍ بلا ضمير، بل في زمنٍ يُباعُ فيه الضميرُ على الأرصفة.
أيُّ جرحٍ أعمق من هذا؟ وأيُّ انسلاخٍ عن الذات أكثر فظاعة؟ من يُجيدُ ارتداء ثياب الثقافةِ وهو يبيعُ روحه قطعةً قطعة، ليس مثقفاً، بل مهرّجٌ في سوق الانتهازية.
أبناؤنا لن يرثوا عنّا سوى الخذلان، وسيدرسونَ في مناهجهم أسماءَ من قتلوا أحلامَنا على أنهم "روّاد السلام"! كيف نشرحُ لهم أننا لم نكن خونةً، بل مكسورين؟ هل سنكتبُ لهم على هامش الكتب: "كنّا نحلم، لكنهم باعونا"؟
وفي هذا الليل الثقيل، لا يبدو السؤالُ عن "العودة" إلا صدىً باهتاً في وادٍ مهجور: هل من سبيلٍ إلى الذات؟ هل تُمكنُ لبوصلةٍ مهشّمة أن تشيرَ من جديد إلى الشمال؟
ربما… لكنّ الأمرَ يحتاجُ إلى شجعانٍ يرفعون الصوتَ في وجه الجوقةِ المتماهية مع الذل، يحتاجُ إلى من يقول "كفى" حين يصير "نعم" ميثاقَ العار.
الأمم لا تموتُ حين تُهزَم، بل حين تُخادع نفسها وتبتسمُ في جنازتها. والمأساةُ الكبرى ليست في سقوطنا، بل في أننا نسقطُ، ونضحك. نسقط، ولا أحدَ يصرخ. نسقط، وكأننا لم نكن.
لا أحدَ معفيٌّ من الحساب. كلُّ من سكتَ شريك، وكل من برّرَ الطعنةً كان يحملُ السكين. إننا نعيشُ لحظةً لا تصلحُ فيها الحيادية، لأنّ الصمتَ فيها جريمة، والتخاذلَ خيانة.
فهل نحنُ على استعدادٍ لأن نكونَ ذلك الصوتَ المؤنّب الذي يُزعجُ صمتَ الخانعين؟
وهل مِن أحدٍ… لم يُبَع بعد؟
559 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع