د. علي عبد الرحمن الزعاك
فانتازيا الجينات الأبدية
مزيجٌ فريدٌ من الأساطير القديمة، علم الأحياء الاستكشافي، النظريات الجينية، بل وأكثر!
livescience.com/57985-tardigrade-facts.html
كنت قد كتبتُ في إحدى قصصي الخيالية المنشورة في كتاب* ما يلي:
(عندما غرقتُ في الطوفانٍ العظيمٍ، اكتسبتُ جيناتٍ خالدة. أما كيف عرفت؟ فلأن الأمواج جرفتني بعيداً، ثم صحوتُ بعد عقودٍ من الزمن على شاطئٍ مهجور، سليماً بجسدي وكياني.)
وبصفتي أستاذا في البيولوجي الجزيئي، قادني تحليلي العلمي إلى استنتاجٍ مفاده أنني قد فعّلتُ جينات الخلود بعد أن غمرتني المياه المشبعة بالملح في ذلك السرد الأسطوري، فيما تتشكل في راسي قصة ظريفة أخرى عنوانها (الملح والغريق). وعلى أي حال ربما كانت هذه الجينات كامنةً في شيفرتي أو جديلتي الوراثية - ربما كجيناتٍ ساكنة، أو جينات زائفة، أو تسلسلاتٍ مبهمة – (وهنا ربما أغير اسم القصة الى الجديلة والملح).. ولكن لأشرح الأمر أولا:
جينات الخلود الكامنة:
يحتوي الجينوم البشري على العديد من الجينات غير النشطة، إما بسبب التعديلات الكيميائية (مثل المَثْيَلَة أي إضافة مجموعة مثيل ( CH3 ) الى الجين)، أو الطفرات، أو آليات التنظيم الجيني. بعض هذه الجينات قد يكون مسؤولًا في الأصل عن تعزيز إصلاح الخلايا، تجديد التيلوميرات، أو حتى مقاومة موت الخلايا المبرمج.
لو افترضنا أن أحد أسلاف البشر امتلك هذه القدرات، لكنها تعطّلت مع مرور الزمن بسبب التكيف التطوري أو تغير الظروف البيئية، فقد تظل هذه موجودة كـ "أشباح جينية" في شيفرتنا الوراثية.
تفعيل آلية الخلود:
يمكن لظروف قاسية معينة — مثل تجارب الاقتراب من الموت، أو التعرض لتراكيز عالية من الملح، أو الإشعاع — أن تعيد تنشيط هذه الجينات الخاملة. إذ قد يعمل الملح (أو العوامل البيئية المتطرفة) على تغيير العلامات الجينية، مثل إزالة مجموعة المثيلات، أو تفعيل مسارات بيولوجية مرتبطة بالبقاء، مثل بروتينات الصدمة الحرارية أو عوامل الاستجابة لنقص الأكسجين.
الطوفان كمحفز للخلود
في قصتي، الغرق في مياه مالحة بتركيز عالٍ (مثل مياه المحيط) يمكن أن يُحدث صدمة تناضحية عنيفة تتلف الخلايا إلى حدّ يُفعِّل آليات إصلاح غير عادية، مثل تنشيط الخلايا الجذعية أو تعزيز قدرات تجديد الحمض النووي ويُحاكي الظروف التي عاشتها الكائنات البدائية، حيث كانت بعض الكائنات تمتلك قدرات شبيهة بالخلود، مثل التكاثر اللاجنسي المثالي أو مقاومة الشيخوخة.
أوجه تشابه ملهمة
1. خلايا هنريتا لاكس الخالدة: تصنف خلايا HeLa على أنها خالدة حيث يمكنها الانقسام باستمرار دون أن تموت لأنها تمتلك نسخة مفرطة النشاط من إنزيم التيلوميريس (Telomerase)، مما يمنع تقصير تيلوميرات (Telomers) الكروموسوم، وبالتالي يمنع شيخوخة وموت الخلايا. وقد سميت باسم السيدة التي أخذت منها عينة خلايا السرطان.
2. قنديل البحر (Turritopsis dohrnii) يمكن أن يعود إلى مرحلة حياتية ابتدائية (البولب) تحت الضغط كي يتجنب الموت بشكل فعال ومن ثم تشكيل سلالة جديدة من خلال عملية التمايز الخلوي (trans-differentiation).
3. دبب الماء Tardigrades -micro-animals)) وهي كائنات دقيقة تنجو من الظروف القاسية عن طريق إيقاف عملياتها الحيوية (cryptobiosis)، لحين إصلاح تلف الحمض النووي.
هل يمكن لهذا أن يحدث للبشر؟
من الناحية العلمية، فكرة تحقيق الخلود البشري عبر تفعيل جينات خاملة لا تزال بعيدة عن الوصول لكنها تظل فرضيةً مثيرةً! في حين يمكن استشراف بعض الأسئلة المشوّقة في هذا السياق:
ما ثمن الخلود؟ هل الخلود له آثار جانبية، مثل العقم، أو فقدان الذاكرة التدريجي، أو الحاجة إلى التعرض الدائم لظروف قاسية (مثل التشبع بالمياه المالحة)؟
ما أصل الجينات؟ هل تطورت الجينات المستحثة في حضارة متقدمة مفقودة؟ أم أنها بقايا تطورية من كائنات بدائية خالدة؟
من سيكون الخالدون؟ إن كان قد وُجد أشخاص خالدون في الماضي، فهل شكلوا مجتمعات سرية عبر التاريخ؟ أم سيعشون ضوابط أزمانهم العلنية؟
هذه الأسئلة تفتح الباب أمام احتمالات عديدة سواء في الخيال العلمي، أو الفانتازيا الأدبية، أو حتى الدراما الفلسفية. هل من يرغب في سبر الأغوار؟
* (الكتاب المشار اليه ) (The Immortal Mesopotamian: The rise of moral authority)
( https://www.amazon.com.au/Immortal-Mesopotamian-rise-moral-authority/dp/B0D6N8RG4J)
755 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع