خالد الدوري
مفهوم الإمامة في النظرية السياسية: ج٤: عند الحصكفي والرملي.
في التطواف قبل الاخير، إستكمالًا لإستجلاء مفهوم ألإمامة عند علماء الأمّة. نتوقف هنا برهة لنستطلع موقف علّامتين من علماء اُمة الإسلام، وهما العلّامة علاء الدين الحصكفي، والعلّامة الرملي. ولنبحث في رؤيتهما النظرية لجزئية تعريف الإمامة، ضمن بحثهم في المنظومة الشاملة للنظرية السياسية في الإسلام. أما في الجزء التالي "الخامس" فسنحاول ترجيح ما نرى أنه ادق التعاريف التي مَرّت معنا، وأكثرها إيجازًا وتوفيقاً في تحديد ماهية ووضيفة الإمامة.
7- الحصكفي: وهو عالِم موسوعي: فقيه، اصولي، محدّث، نحوي، مفسر، وهو مفتي الحنفية في دمشق.
عرّف الحصكفي (ت1088هـ) الإمامة بقوله: (استحقاق تصرف عام على الانام) (1) وهو ما قال به كذلك العلامة ابو السعود المصري(2)، وقيد العموم في التعريف يُخرِج انواع التصرفات المحدودة بقيد الخصوص كالقضاء والإمارة والجيش والتعليم مما يتحقق فيه استحقاق تصرف غير عام.
والأنام هم المسلمون ومن في حكمهم داخل الدولة الاسلامية، - وإن كان اللفظ مُوهِما على مَن هو خارج الدولة كذلك-، وهو مستبعد التصور.
وظاهر التعريف يوحي بأن الإمام هو صاحب السلطة العليا، المتصرف في شؤون العباد والبلاد، بما لا يد فوقه. وهذا هو نفس ما عبَّر عنه القلقشندي كما مر معنا سابقا في الجزء الثاني "لمقارنة التعريف أنظر ثبت المصادر في الأسفل رقم"(3)، حينما حدد الإمامة بأنها: (الولاية العامة على كافة الأمّة)، فالإطلاق والعموم سِمَة التعريفين. وهذا يعني أن تعريف الحصكفي قد يُوهِم انّ النبوة داخله فيه، باعتبار عمومية الفاظه في التصرف والعموم. والنبوة من موقعها تصرف عام على الانام. فهي اذًا تنضوي تحت مفهوم التعريف.
ولكن امعان النظر في التعريف، يكشف جوانب اخرى تُخالِف قيد العموم الوارد فيه. فاستخدامه لكلمة (استحقاق) يؤدي معنى آخر، يُستبعَد بموجبه دخول النبوة الى حد ما في التعريف. إذ أن استحقاق امامة غير الانبياء على الأنام، تتم وتترتب بموجب الشروط والقيود التي إصطلح وتعارف وإستنبط اصولها علماء هذه الأمّة. وأنّه من تخلفت عنه الشروط أو أخل بها، فقد أفتوا بسحب اليد من بيعته. وأوجبوا عدم طاعته. فهي تُستَحق بخلافة النبوة والبيعة، وفق الضوابط والشروط.
امّا (استحقاق) النبوة للإمامة على الانام فمنشؤها النبوة والوحي. فمن النبوة يستمد الأنبياء الإستحقاق في التصرف العام بشؤون العباد والبلاد، بما يوافق الوحي، وبتوجيه منه. فهو اذًا استحقاق خارج عن إطار الشرط والقيد المصطلح عليه.
والى هذا المعنى ذهب إبن عابدين في شرحه لكلام الحصكفي، فقال عن النبوة أنها: (داخلة في التعريف دون ماترتبت عليه) (4). اما دخولها فمبتنى على اساس عدم لفظ الاستحقاق والتصرف المترتب على النبوة ، واما عدم ترتبها على التعريف، فلأنها مترتبة على الوحي والتوجيه الالهي. وهنا لابد لنا لزيادة الإيضاح من ان نبين: انّ الإمامة في حق سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، هي غير الإمامة التي اصطلح عليها الفقهاء، لأنها متصلة بنبوته غير منفكة عنها. بل ولا يجوز النظر الى نبوته وإمامته على اساس انهما أمران منفصلان. انما هُما أمر واحد. يستحق صاحبها بإمتزاجهما التصرف العام على الأنام. أمّا إمامة غير الأنبياء، فهي خالية من هذا الاقتران. لأنها إمامة بشرية بحتة، مترتبة على توفر شروط معينة، ليس بينها قطعًا النبوة والوحي.
8- شمس الدين الرملي: (ت1004) العالم الموسوعي الملقّب بالشافعي الصغير.
عرّف الرملي الإمامة في مَعرِض حاشيته على أسنى المطالب بأنها: (خلافة الرسول في اقامة الدين وحفظ حوزة الملّة، بحيث يجب اتباعه على كافه الأمّة)(5)، ويلاحظ ان هذه الصيغة مشابهة الى حد بعيد لتعريف الأصفهاني المار الذكر – في الجزء الثالث- "لمقارنة التعريف أنظر ثبت المصادر في الاسفل رقم"(6)، غيرَ ان الرملي فيما يبدو كان موفقا أكثر من الأصفهاني في إختصار التعريف واختيار الفاظه.
الّا انه مما يؤخذ عليه انه لم يكن بالإختصار الكامل الذي يمكن تبنيه لتصدر التعاريف. فالرملي استبعد عبارة (شخص من الأشخاص) المُثبَّتة في تعريف الأصفهاني ، لأنّها مما لا حاجه لذكرها، إذ المقام يُغني عنها. كما إختصر عبارة (اقامة القوانين الشرعية) بإبدالها بلفظ (اقامة الدين) ومعلوم ان لفظ الدين اسم شامل، والقوانين الشرعية جزء منه، إذ ان جزئيات وكليات الحياة كلها تندرج تحت مفهوم الدين، سواء في ذلك الاوامر والنواهي.
وما قيل هنالك عند تعريف الاصفهاني في امكانية الاستغناء عن عبارة (وحفظ حوزة الملَّة) يمكن ان يَصدُق هنا، ولو انّ الرملي قد تجاوزها ولم يذكرها، لكان قد أجاد في التعبير عن الإمامة بتعريف يستوفي ماهيتها باختصار، وجزالة لفظ.
المصادر والمراجع:
(1) الدر المختار شرح تنوير الأبصار 1/ 548 شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي واولاده بمصر 1386هـ - 1966 م.
(2) فتح الله العين على شرح العلامة منلا مسكين 1/ 204 ، ط1/ طبعة قديمة بدون تاريخ ومكان طبع.
(3) قال القلقشندي في تعريفه: (الولاية العامة على كافة الأمّة، والقيام بإمورها، والنهوض بأعبائها).
(4) حاشية رد المحتار 1/ 548 مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي واولاده بمصر - ط 2 ، 1386هـ - 1966 م.
(5) حاشيه الرملي على اسنى المطالب 4/ 108 طبع المكتبة الإسلامية لصاحبها الحاج رياض الشيخ.
(6) عبارة الأصفهاني: (خلافة شخص من الأشخاص للرسول "عليه الصلاة والسلام"، في اقامة القوانين الشرعية وحفظ حوزة المِلّة على وجه يجب اتباعه على كافة الأمة).
734 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع