الاصرار الإسرائيلي على إطالة الحرب في غزة .. والولايات المتحدة بين التورط القتالي وحل الدولتين …المبررات والمصداقية

د. سوسن إسماعيل العسّاف*

الاصرار الإسرائيلي على إطالة الحرب في غزة.. والولايات المتحدة بين التورط القتالي وحل الدولتين… المبررات والمصداقية

لم تعد قواعد الاشتباك التقليدية العسكرية ولا التخطيطات الاستراتيجية الاسرائيلية -الامريكية المقرونة بلغة الوعيد والتهديد والردع الشامل بالناجعة في ثني المقاومة الفلسطينية عن المواجهة، أو ذات تأثير على زعزعة عقيدتها التحررية وايمانها المطلق بعدالة قضيتها. لقد استطاعت عملية طوفان الاقصى من كسر وإبطال العقائد وألافكار العسكرية الصهيونية المتغطرسة (الجيش الذي لا يقهر)، وتمكنت المقاومة من تغيير المفاهيم والتوقعات من خلال الامساك بزمام الامور وتغيير صفة حرب المدن والشوارع، والتي من المفترض ان تكون ضيقة ومحدودة، بجعلها حرب شاملة تهدد وجود الكيان وتتحدى عقدة التفوق الامريكية. ناهيك عن ابراز مهارات قتالية جديدة متجددة للمقاومة مع تطور ملحوظ في قدراتها العسكرية (وجلها متواضعة ومحلية الصنع) بإستخدامات تكتيكية مؤثرة مكانياً وزمانياً، لجعلها حربا إستنزافية ملحمية، جاهزيتها ثبات العقيدة والاستعانة بالانفاق ومواجهات المسافة الصفرية وكمائن القنص الجماعي وضربات استباقية لتحقيق نتائج واقعية بإنعكاسات سياسية-تفاوضية.

اصرار الحكومة الاسرائيلية ورئيسها على الاستمرار في الحرب يثير اسئلة عديدة، خاصة بعد ان تكبد جيش الاحتلال خسائر هائلة عسكرية ومالية غير معتاد عليها (17 مليار دولار لغاية الان حسب وزارة الدفاع الاسرائيلية وقتل 502 جنديا وجرح اكثر 5431 اخرين، ثلثهم إعاقاتهم عالية الدرجة)، وكذلك سياسية وأجتماعية ملفته، ناهيك عن آثار هذه الحرب على الامن الداخلي في عموم الارض المحتلة. ففي كل تجارب الحروب الاربعة السابقة مع غزة، كان الجانب الاسرائيلي يلهث وراء الوسيطين المصري والقطري من اجل إيقاف القتال بعد ان يوعز لجيش احتلاله بشن هجمات مكثفة تدميرية على القطاع. بينما في هذه المواجهة الحالية، وهي الخامسة، لا يخرج عن حكومة الحرب، بالاضافة الى نزعتها الانتقامية ونظرتها التي تتصف بكونها أُحادية الجانب وأنية التفكير، سوى عبارات متشددة محددة متمسكة بالحرب مثل (ان الحرب لن تتوقف حتى يتم القضاء على حماس وتحرير المخطوفين، وأن الحرب ستستمر على الرغم من صعوبتها وتكلفتها، وان ليس لدينا غير خيار الحرب، مع طرح رؤى ومقترحات خيالية لغزة بعد الحرب)، في ظل مجتمع دولي منقسم ومحتقن ودعوات شعبية عالمية لوقف المجازر البشرية والابادة الجماعية التي تتعرض لها غزة راح ضحيتها، وخلال اقل من ثلاثة أشهر فقط، أكثر من 21.600 الف مدني فلسطيني وجرح أكثر من 56.000 اخرين، ناهيك عن المفقودين والراقدين تحت الركام. (بالمقارنة اعلنت الامم المتحدة ان عدد الضحايا من المدنيين الاوكرانيين قد وصل حتى الان الى أكثر من 10.000 شخص من جراء الحرب روسية التي ستدخل عامها الثالث في شباط القادم). فما هي دواعي إصرار رئيس وزراء الاحتلال على مواصلة وتصعيد هذه الحرب، مع علمه ان جيشهُ لا يمكنه الإستمرار في حرب طويلة؟ لا سيما وأن عنصر المفاجئة والمباغتة، الذي لم يكن بالحسبان الاسرائيلي، قد جعله في وضع لا يحسد عليه عسكرياً وسياسياً!!
إذا ما وضعنا جانباً الاهانة الشخصية والسياسية والعسكرية التي يشعر بها رئيس الوزراء الاسرائيلي، والذي قد يفسر لجوءه الى القتل العشوائي للمدنيين وتجويعهم وتدمير مساكنهم ومدارسهم والبنى التحتية من ماء وكهرباء، فانه يدرك، بل ومتأكد إن اي وقف لاطلاق نار دائم يعني المطالبة بإستقالته الفورية وإحالته الى المحاكم. ولهذا فان اول سبب لاصراره على إطالة الحرب اكثر مدة ممكنة هو امله في ان يحقق من خلالها نتيجة تُحَسِن من مكانته السياسية التي وصلت الى الحضيض. وبالتأكيد فان ما زاد من آماله في هذا المجال هو الدعم المادي والمعنوي الذي قدمته الولايات المتحدة من خطابات الوعود السياسية وزيارات التطمين الميدانية ومسارعتها في ارسال أسطولها البحري وإنزال قوات برية وتفعيل جسر جوي لتعويض إسرائيل عن كل ما فقدته من اسلحة، وصولا الى تزويدها بإخرى اكثر فتكا (بدليل أن جوش بول الذي يشغل منصب مدير الشؤون السياسية المختص بنقل الاسلحة والمساعدات الامنية في الخارجية الامريكية قد استقال من منصبه احتجاجا على كمية الأسلحة ومنها الفتاكة التي امر بايدن بنقلها إلى اسرائيل). واستمر هذا الامر بأن طلب الرئيس جو بايدن من الكونكرس الموافقة على حزمة مساعدات عسكرية لاسرائيل بقيمة 14.3$ مليار، (إشترط الكونكرس إلتزام إسرائيل بتقليل الضحايا المدنيين في غزة، وهو ما لم تنفذه تل أبيب). واعترفت جريدة يديعوت احرنوت ان الولايات المتحدة أرسلت اكثر من 230 طائرة شحن و20 سفينة محملة بالاسلحة لإسرائيل منذ بدء الحرب. بالاضافة الى ذلك لجأ بايدن الى قرارات استثنائية أخرى منها قرار تفعيل سلطة الطواريء من دون مراجعة الكونكرس لتزويد اسرائيل بالاسلحة بشكل عاجل، علماً بأن هذا الإجراء لم يتم تفعيله في كل تاريخ الولايات المتحدة غير3 أو 4 مرات، ألا إن استخدامه في حرب غزة كان على مرتين وخلال شهر واحد فقط كانون الأول/ديسمبرالحالي، وعن طريق وزارة الخارجية. المرة الاولى كانت من اجل السماح ببيع حوالي 14.000 قذيفة دبابة لاسرائيل بقيمة 106$ مليون. والمرة الثانية من اجل بيع معدات عسكرية ضرورية وبشكل فوري لصنع قذائف عيار 155ملم وبقيمة 147.5$ مليون. وفي المرتين جاء التبرير من قبل وزير الخارجية مبني على اساس أن (هناك حالة طوارئ) وربط ذلك ب(المصالح القومية للولايات المتحدة بموجب إالتزامها بأمن إسرائيل). ما يميز هذه الصفقة، والتي اعترض عليها بعض أعضاء الكونكرس، انها تتكون من مدافع بعيدة المدى توفر لجيش الاحتلال قدرات قصف عن بعد وتجنبه الاشتباكات المباشرة التي تكبد فيها خسائر كبيرة.
الاهم من اصرار بايدن على تزويد اسرائيل بالاسلحة بطرق مختلفة هو السر الخطير الذي كشفته جريدة الغارديان اللندنية قبل يومين ومفاده ان الولايات المتحدة تمتلك مخازن اسلحة كبيرة في داخل فلسطين المحتلة، كانت واشنطن قد أنشأتها في ثمانينات القرن المنصرم، لكي تكون خزين استراتيجي لها تلجأ اليه في حال حصلت اضطرابات في منطقة الشرق الأوسط، وان مفاتيح هذه المخازن بيد الولايات المتحدة فقط. إلا ان إسرائيل استطاعت ان تقنع بايدن بان يمول عملياتها العسكرية من هذه الأسلحة، والان يحاول الرئيس بايدن ان يتجاوز المانع القانوني عن طريق إقناع المشرعين الاميركان بقبول فكرة فتح المخازن امام طلبات جيش الاحتلال عن طريق منح البنتاغون مرونة اكبر لاجراء تحويل هذه الاسلحة لاسرائيل، وبدعوى ان اغلب هذه الأسلحة مخزونة منذ الثمانينات، وبالتالي فانها اصبحت قديمة وعفا عليها الزمن Obsolete) بالمفهوم العسكري). في حين ان خبراء سلاح اميركان يقولون ان المخازن تحتوي على اسلحة فتاكة والالاف من القنابل والقذائف الغبية قد تم استخدامها في غزة. وبسب وجود هذه المخازن يشعر نتنياهو ان كل خسائر جيش الاحتلال في غزة يمكن ان يتم تعويضها خلال ايام، بل ساعات قليلة، ولا داعي للقلق حول الامدادات العسكرية الامريكية التي باتت تشكل الشريان الاساسي لاستمرار هذه الحرب. مع كل هذا الدعم العسكري، جندت الولايات المتحدة تمثيلها في الامم المتحدة لصالح اسرائيل واستخدمت الفيتو في مجلس الامن حيال اي قرار يمكن ان يحقق هدنة انسانية او يدعو لوقف اطلاق النار.
كل ما سبق يفسر سبب تمسك رئيس وزراء اسرائيل بالحرب، بالاضافة الى شعوره بأنها فرصة لا تتكرر يجب استثمارها لتسوية حسابات اخرى مع ايران وحزب الله اللبناني، وكان هذا واضحا من تغير الحديث عن طبيعة المواجهة من خلال العمل على التصعيد وفتح جبهات اخرى. كما ان هناك دلائل تشير الى أن نتنياهو يريد ان يجر الولايات المتحدة للمشاركة في حرب موسعة يعتقد انها ستنتهي لصالح إسرائيل إعتماداً على القوة العسكرية الآمريكية. ولهذا نجده يصعد من قصف الداخل السوري، ويستهدف القوات الموالية لايران هناك، ويتحدث عن ضرورة نغيير الأوضاع على الحدود الشمالية لفلسطين المحتلة ومطالبته بسحب مقاتلي حزب الله من هناك. كل ذلك على أمل ان تقوم هذه الاطراف بالرد وفتح جبهة جديدة ضد الإحتلال، تجبر الولايات المتحدة على الدخول في الحرب بصورة مباشرة. لكن كل هذه المخططات تصطدم بعقبات غير محسوبة، مثل تدخل جماعة أنصار الله في اليمن وفشل الولايات المتحدة في تشكيل تحالف دولي لمواجهة هذه المشكلة التي اغلقت البحر الأحمر امام الملاحة الإسرائيلية، وإبقاء حزب الله رده محدودا. من ناحيته فان الرئيس بايدن، الذي تعهد لنتنياهو بدعمه حتى النهاية، يعيش هو الأخر مآزق كثيره تضعف من تاثيره ودوره. فمن ناحية هو يريد للحرب ان تستمر لانه لا يريد لإسرائيل ان تُهزم، ولأنه يعلم جيدا ان مثل هذه الهزيمة ستمثل بداية النهاية للمشروع الصهيوني اولا وللنفوذ الأمريكي في المنطقة ثانيا وتعزز قوة محور المقاومة ثالثاً، ولهذا صدق اقاويل نتنياهو بان جيش الإحتلال قادرعلى هزيمة المقاومة الفلسطينية اذا ما دعمته واشنطن والدول الغربية في غضون أيام، ثم أثبتت المعارك المستمرة ان إدعاءاته لم تكن سوى تخيلات والمقاومة لم يتم تقييمها بالشكل الصحيح، مما وضع الأثنين في مواجهات كلامية عنيفة.
داخليا لايريد الرئيس الأمريكي خسارة اللوبي الصهيوني في إنتخابات السنة القادمة، كما يشعر ان إستمرار الحرب بدون ظهور بوادر لنجاح إسرائيل، سيزيد من ضغط الشارع الامريكي والعالمي، والمتصاعد كلما ارتفعت أعداد الضحايا من المدنيين والاطفال الفلسطنيين جراء القصف الأسرائيلي البربري، وعجزه عن استعادة الرهائن او الاسرى الاميركان. وربما، اذا ما أستمرت المعارك على هذا المنوال فان الولايات المتحدة قد تدخل على الخط باسلوب ملتوي آخر وذلك من خلال طرح مشاريع تسويفية مثل العمل على حل الدولتين، الذي لا تؤمن به الإدارة الأمريكية أساسا، والدليل انها رفضت قبول فلسطين كدولة عضو في الأمم المتحدة، ومن المؤكد أنها ستجعل من هذه المشاريع فرصة لإشعال صراع فلسطيني–فلسطيني حول من هي الجهة المعترف بها دوليا لحكم الضفة الغربية وغزة، وضرورة إجراء إنتخابات فلسطينية والتي سيتم المماطلة فيها بدعوى (عدم توفر الظروف المناسبة)، وحول مسألة تسليم أسلحة المقاومة، وكيفية اقناع اسرائيل حليفتها عن التراجع عن الحركة الاستيطانية وبناء المستوطنات غير القانونية في الضفة الغربية والتي جعلتها تسيطر على اكثر 60% من اراضيها، والى غير ذلك من الأساليب الملتوية والتي تصب كلها في صالح إسرائيل وتعزز سيطرتها. وهذه المواقف ظهرت بصورة جلية في تسابق مرشحي الانتخابات الرئاسية القادمة في إظهار دعمهم اللامحدود لإسرائيل ولسياسة الإبادة التي تنتهجها تجاه الفلسطينين. ولعل مناظرات الحزب الجمهوري وتصريحات مرشحيه حول كيفية التعامل مع حرب غزة دليل على ذلك، إذ لم يتطرق اي منهم الى حل الدولتين لانهاء هذا الصراع او اتقديم حلول بالطرق الدبلوماسية والسياسية .
من ناحية أخرى، فإن محاولات الولايات المتحدة وإسرائيل اللجوء الى مصر وقطر للتاثير على المقاومة لقبول (هدنة إنسانية مؤقتة) جديدة هي في الحقيقة محاولة لتمكين الرئيس بايدن من تأمين عودة الرهائن (وخصوصاً الأميركان) لدى المقاومة لرفع شعبيته أولاً، ولتهدئة الشارع الإسرائيلي الثائر ضد نتنياهو ثانياً. والمقاومة كشفت ذلك ورفضت فكرة الهدن القصيرة والتبادل المحدود للاسرى، وأصرت على وقف دائم لإطلاق النار مع انسحاب قوات الإحتلال من غزة وإدخال المساعدات بصورة مكثفة الى كل أجزاءها.
بعد ثلاثة أشهر من المواجهة الدموية، والمذابح المتعمدة من قبل قوات الإحتلال الإسرائيلي، ثبت بما لا يقبل الشك عجز التحالف الإسرائيلي-الامريكي والدعم الغربي، عن القضاء على المقاومة، وكلما إدعى جيش الاحتلال انه نجح في السيطرة على منطقة من مناطق غزة (وتطهيرها) يعود ليتحدث عن معارك جديدة فيها. كما ان رقعة المعارك بدأت تتسع سواء في غزة او خارجها، بدليل التعزيزات الاسرائيلية لوحدات نخبة جديدة الى غزة، وسحب تلك التي تكبدت خسائر كبيرة. يضاف الى ذلك إتساع المواجهات، وخاصة في الضفة الغربية، كل هذه الأمور تؤكد ان الحل العسكري الإسرائيلي قد فشل وستنسحب نتائجه على النفوذ الأمريكي في المنطقة، الذي سيتلقى الصدمة الثانية بعد فشل مغامرة اوكرانيا. وسيبقى تاريخ 7 تشرين الأول/اكتوبر 2023 نقطة تحول ارتكازية على مستوى الصراع الفلسطيني-الاسرائيلي ونضال مقاومته رغم الخسائر الكبيرة والمؤلمة.
*أكاديمية وكاتبة عراقية

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

906 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع