حين يُستهدف العدل: سقوط القضاء الحر في دهاليز خور عبد الله… وغيرها من الصفقات!

د.أنور أبوبكر كريم الجاف

حين يُستهدف العدل: سقوط القضاء الحر في دهاليز خور عبد الله… وغيرها من الصفقات!

في واحدةٍ من أكثر اللحظات السوداوية في تاريخ القضاء العراقي الحديث أُحيل القاضي جاسم محمد عبود العميري، رئيس المحكمة الاتحادية العليا إلى التقاعد “لأسباب صحية”، في إجراء مثير للريبة تمّ ترتيبه بين عشية لا ضحاها، بسرعة لافتة لا تعرفها بيروقراطية الدولة إلا في حالات التصفية السياسية.

انه منذ عقود لم يشهد العراق قرارًا طبيًا إداريًا يُنفَّذ بهذه السرعة: كتاب من المحكمة إلى وزارة الصحة، فحص عاجل، تقرير بنسبة عجز 70%، ثم اجتماع قضائي يُقِرّ التقاعد ويُرشّح البديل ، كل ذلك في اليوم نفسه. كما يقول المثل الإنجليزي: “?!All in the same day”.

فهل تحوّل البريد إلى البرق قبل الرعد؟
هذا لا يُشبه دولةً، بل مسرحيةً هازلة بإخراجٍ غليظ، لكن الحقيقة تتجاوز الملف الطبي بكثير.
إنّ القاضي جاسم محمد عبود لم يكن مجرّد موظف في الجهاز القضائي، بل كان رأس السلطة القضائية المستقلة، ورجلًا قال “لا” في وجه السلطة التنفيذية حين حاولت تمرير اتفاقية خور عبد الله التي يعتبرها كثير من العراقيين خيانةً لسيادة البلد.

وقف القاضي في قلب المحكمة ومعه تسعة من أعضائها، ليصدر قرارًا تاريخيًا: الاتفاقية لا يمكن تمريرها دستوريًا، لعدم تحقق النصاب القانوني للتصويت عليها.
هذا القرار لم يكن عابرًا، لقد كشف المستور ووضع وجوهًا سياسية نافذة في زاوية الإدانة الشعبية، فجاء الرد الرسمي لا بالتراجع أو التصحيح، بل بالضغط ثم التنكيل ثم الإقالة المُقنّعة باسم “التقاعد الصحي” وكأنها صلية رشاشاتٍ لتصفية الصيد المناوئ.

لم يكتفِ القاضي بذلك، بل وعلى مدى عامٍ كامل أصدر جملة من القرارات الدستورية الحاسمة بشأن العلاقة المالية بين بغداد وأربيل كان آخرها في واحدة من مواقفه الأشد وضوحًا قرارٌ منصف يُلزم الحكومة الاتحادية بصرف رواتب شعب الإقليم باعتبارهم مواطنين كاملي الحقوق، لا يجوز رهنهم بالصراع السياسي أو النفطي. وعلى الرغم أن هذا القرار لم يُطبق حتى الآن وربما لن يُطبّق بسهولة.
ذلك لأنه كسر حاجز المساومة واعتبر أهل الإقليم مواطنين كاملي الحقوق، لا يجوز أن يكونوا رهائن بين صراعات سياسية أو مصالح متبادلة بين أطراف متنازعة، اختارت أن تجعل الشعب في حيرة لتبقى هي في رخاء.

فقد استُهدف الرجل مرتين: مرة لأنه دافع عن السيادة الوطنية، ومرة لأنه ناصر العدالة الاجتماعية.
لقد أصبح القضاء الحر في العراق مهددًا بالخنق. وإذا كانت المحكمة الاتحادية قد فقدت رئيسها بهذه الطريقة، فما الذي يمنع مستقبلاً أن يُقصى أي قاضٍ يتخذ موقفًا لا يُرضي المتنفذين، أو يهدد صفقات الفساد، أو يعرقل أجندات الخارج؟

ومن يقرأ بين سطور الجرائد وتقارير أخرى المعتمدة يُدرك أن القضية لم تكن “صحة القاضي” بل “مواقف القاضي”، ولم تكن “تقاعدًا” بل “إقالة مغلّفة” ولم تكن “قرار لجنة طبية” بل “أمر سياسي دُبِّر بليل”.

لا يجب أن يُنسى هذا اليوم، لأن القاضي جاسم محمد عبود، وإن أُقصي من منصبه فقد كتب اسمه في سجل الشرف العراقي حين وقف مع حقوق شعب الإقليم، وضد بيع خور عبد الله، وقال كلمته مدوية:
لا عدالة تحت الظل ولا سيادة تُباع بصمت.

وعندما أكتبُ هذا الكـتْـبِ أشهد كما يشهد كثيرٌ من العراقيين أني لا أعرف هذا القاضي وجهًا لوجه ولا جمعتني به مصلحة أو لقاء ولكنني عرفته كما يعرفه أبناء الشعب من خلال أحكامه وقراراته التي كانت في وقتها صوت الضمير وهمس الدستور وصرخة العدل في زمن التواطؤ والانحدار .

ويبقى السؤال الذي يطرق ضمير الأمة:
إذا سقط القضاء الحر، فبأي يد نعيد بناء الدولة؟ وما تزال آبار النفط في الجنوب والشمال آبارًا لم يطمسهن إنس ولا جانّ ما عدا منْ يستخرجها من هؤلاء الغرابيب الغلاظ الذين نقبوا جوف الأرض ونهبوا ظهرها فسالت الدولارات من جراح الوطن ولم تُطبب،
وامتلأت خزائنهم وفرغت خزائن الشعب!
أولئك الذين اتخذوا من المنصب سلعة ومن السيادة صفقة ومن العدالة نكتة يُبرمون العقود ويعقِدون الأيادي خلف ظهور القضاة ويَحلفون بالله زورًا… ويقسمون بالدستور وهم يدوسونه بالأقدام.
فمن يعيد للعدل وقاره؟ ومن يرد للناس اعتبارهم؟
ومن يمنع هؤلاء الذين باعوا الأرض، وابتلعوا الرواتب، وذبحوا القضاء، ثم صلّوا على جثته وهم يكتمون ضحكاتهم وراء ربطة العنق؟
هذا الوطن إن لم تنتفض له الضمائر فسيُكتب عليه أن يُحكم بالسُراق ويُقضى فيه على الشرفاء… ويُجعل نفطه للغُربان… وعدله للغُلمان… وقراره للخذلان!

  

إذاعة وتلفزيون‏



الساعة حسب توقيت مدينة بغداد

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1043 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع