بقلم : علاء الدين الاعرجي – نيويورك …محام/ مفكر عراقي/أمريكي
إضاءات عربية - أصل الداء ورأس الدواء
أرى أن السبب الجذري لتردي الأوصاع وتفاقمها في الوطن العربي، هو تلكؤ العرب أو رفضهم الأخذ بلباب الحداثة(التي لم تعد غربية، بل أصبحت كونية) لاسيما في ميدان الفكر والعلم والتكنولوجيا والتنظيم المؤسسي والعلمانية والديمقراطية . ونرى أن من أهم أسباب هذا التلكؤ أو الرفض هو تخلف العقل المجتمعي العربي. فما هو المقصود بالعقل المجتمعي عموماً؟
“العقل المجتمعي ” Societal Mind ، هو كيان معنوي يتمتع بسلطة قاهرة وسائدة، يخضع لها معظم أفراد المجتمع، إن لم يكن جميعهم، بـ”عقلهم المنفعل” به ، من حيث لا يشعرون. لأنهم يتشربون مبادئه منذ طفولتهم المبكرة. وهكذا تصبح تلك المبادئ جزءاً من شخصيتهم. وبناء على ذلك هم يظنون أنهم يتصرفون بآرائهم التي اختاروها بمحض إرادتهم. بل يدافعون ويتحمسون لهذه الآراء، المفروضة من تلك السلطة ، ويضحون أحيانا في سبيلها بكل شيء، حتى بحياتهم . وبالجمل فنحن جميعاً تقريباً مستعبدين من جانب هذه السلطة.
ويتشكل هذا “العقل المجتمعي” من المحصلة النهائية لسيرورة المجتمع التاريخية وصيرورته التطورية، بما فيها الفكرية والاقتصادية والسياسية، وتفاعلاتها المعقدة، منذ أقدم العصور حتى يومنا هذا.
وتتكوَّن بنية هذه السلطة من مزيج مركب ، متفاعل ومتكامل ، لمنظومة واسعة من القيم والمعارف والمبادئ والمفاهيم والأعراف والعادات والأفكار والمعتقدات، بما فيها الإيديولوجيات، التي تتحول إلى مسلّمات ملزِمة(بكسر الزاء) .
ومع أن معظم أفراد المجتمع يخضعون، في العادة، لمسلمات العقل المجتمعي بـ”عقلهم المنفعل “ Passive Mind ، به، كما أسلفنا، بيد أن بعض أفراده من الروّاد المتنورين، يشرعون باستخدام “عقلهم الفاعل”Active Mind ، فيتساءلون عن مشروعية سلطة العقل المجتمعي وصلاحية مبادئه، ثم يقومون بنقده أو معارضته، سراُ أوجهراً، رهناً بالظروف السائدة المساعدة أو المعارضة . و قد عانى هؤلاء الروّاد الكثير من الصدِّ و القمع بل العقاب والقتل أحياناً. ومنهم الأنبياء والفلاسفة من أمثال سقراط ) أُعدم) وغاليلي (حوكم) والرسول عيسى(صُلب حسب التلريخ المسيحي) والرسول محمد (اضطهد وكاد أن يُـقـتل) و القسّ جوردانو برونو(أعدم بالحرق حياً) ، وغيرهم، وصولاً إلى المفكرين والكتاب االعرب المعاصرين من أمثال علي عبد الرازق(فُصل من القضاء والجامعة) و نصر حامد أبو زيد،(طُلِق وشُرد) وفرج فودة( قــُتـِل) ونجيب محفوظ( طعن بقصد قتله)، ومحمود محمد طه (السودان) (أعدم) وعلي الوردي(اضْطُهد).
ولئن يرى كاتب هذه السطور أن “فرضية/ نظرية العقل المجتمعي” تنطبق على جميع المجتمعات، في كل زمان ومكان، فإن تطور هذا “العقل المجتمعي” وتغيّره ، يتوقف على مدى تطور كل مجتمع واستعداده للتجديد ،بجهود الرواد من أبنائه . ومن جهة أخرى، يرتبط تطور المجتمع بمدى تطور ذلك العقل المجتمعي. وهكذا يرتبط أحدهما بالآخر على نحو جدلي( ديالكتيكي) متبادل. ففي المجتمعات التي ينجح روّادها ، في التغلب على سلطة العقل المجتمعي المتخلف، كما حصل في البلدان المتقدمة، فيعملون على تعديله أو تغييره، يصبح هذا العقل أكثر ديناميكية وتقدماً، ما يؤدي إلى تقدم المجتمع.
فالمجتمعات الأوربية التي تقدمت، بعد أن عانت من سيطرة العقل المجتمعي الكنسي المتخلف خلال القرون الوسطى، ثم انتصرت عليه بعد كفاح مرير وسقوط ضحايا كُـثر،(لاسيما أثناء الحروب الدينية في أوربا في القرنين السادس والسابع، خلال أكثر من مائة عام) فحققت النهضة الأوربية Renaissance La، الفكرية والعلمية والفنية، التي تمخضت عن ثورات جماهيرية من أهمها الثورة الفرنسية وقبلها الأمريكية، وتجلت أكثر بالثورات الناعمة الصناعية فالتكنولوجية فالمعلوماتية والرقمية؛ اقول في مثل هذه المجتمعات يتغير العقل المجتمعي أو يتطور بوتيرة أسرع مما يتغير في المجتعات المتخلفة التي يكون فيها العقل المجتمعي راكداً أو ثابتا ،كما هو حاصل عندنا، بالمقارنة لما يحدث عندهم من تطور سريع . وهكذا نلاحظ مثلا أن الأفارقة الأمريكيين الملونين، الذين كانوا يعانون من الأمرّين من الذل والفصل العنصري، حتى أواسط القرن الماضي، تمكنوا من ترشيح رجل أسود( باراك أوباما) من أب أفريقي مسلم لشغل أكبر منصب في البلاد، في أكبر وأهم بلد في العالم .
بينما ظل العقل المجتمعي الإسلامي العربي راكداً وثابتاً خلال مئات السنين الماضيّة. فالمرأة ماتزال تعتبر مواطنا من الدرجة الدنيا ، ومستعبدة من جانب الرجل، في الغالب. وهي معرضة للقتل غسلاً للعار حتى إذا اغتـُصبت في بعض المجتمعات. وهذا مخالف للشريعة الإسلامية. في حين أن الرجل يتباهى بفحولته وممارساته الجنسية غير الشرعية مع النساء، حتى إذا كان متزوجاً. وغير ذلك من الاعراف والتفاليد القابعة في العقل المحتمعي..
كما خلص رجال الدين المسلمين الى القول “مَنْ اشتدت شوكته وجبت طاعته”، و هو مبدأ تجذر في “العقل المجتمعي العربي الإسلامي” منذ سقوط الخلافة الراشدة قبل 14قرنا، إذ تحوَّلنا إلى “الحكم العضوض”. وعلى هذا المنوال ما تزال معظم السلطات الحاكمة المستبدة في الوطن العربي، تحكم بل تتحكم في رقاب العباد وفي موارد البلاد، بلا حساب أو كتاب. وهكذا وصلنا إلى خراب هذه البلاد، وبروز الجديد من الأسياد منهم الخليفة الذي أعلنته داعش تحت اسم أبو بكر البغدادي .
1051 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع