الإعلامُ العربيُّ في الوقت الراهن القسم الثاني(١)

                                                   

                           د. زكي الجابر

     الإعلامُ العربيُّ في الوقت الراهن -القسم الثاني(1)

             إعداد وتعليق د. حياة جاسم محمد
حوارٌ أجراه عبد الرحيم العطري

- وماذا عن النظامِ الإعلاميِّ الجديدِ الذي أُثيرَ حولَهُ نقاشٌ حادٌّ في وقتٍ سابقٍ، وكذا عن النظامِ العالَميِّ الجديدِ الذي التهبَ الحديثُ عنه آنِفاً؟
- أَودُّ أن أتحدَّث في البدايةِ عن المفاهيمِ الأساسيةِ، فهُناكَ في البدايةِ طُرِحَ نِظامٌ اقتصاديٌّ عالَمِيٌّ جديدٌ، أيْ أنَّ عمليةَ الاحتكاراتِ التي يقومُ بها العالَمُ المُصَنِّعُ وتَبَعيَّةَ العالَمِ الثالثِ ونُشوءَ دُولِ المركزِ ودُولِ الأطرافِ، ولهذا طُرِحتْ في عِدّةِ مؤتمراتٍ مسألةَ التوازُنِ وواجبَ الدولِ المتقدِّمةِ في خَلقِ هذا التوازن.
وبعدَئِذٍ قِيلَ بالتَوازُنِ ليس في الجوانبِ الاقتصاديّةِ فحسبُ بل أيضاً في الجانبِ الإعلامِيِّ، فهُناكَ الوكالاتُ العالَميَّةُ الشهيرةُ التي تحتكرُ الأنباءَ، وهناكَ وكالاتُ الأفلامِ، وهناك شَبَكاتُ التلفزيونِ والقَنَواتُ الفضائيّةُ التي يُسيطرُ عليها العالَم المتقدِّم. إِذَنْ لا بُدَّ من وجودِ نظامٍ إعلاميٍّ جديدٍ يأخذُ بنظرِ الاعتبارِ حاجاتِ الدُولِ الناميةِ ويحقِّقُ عَمَليّاً نوعاً من التَوازُن. فَإذَنْ هُناكَ نظامٌ اقتصاديٌّ يُوازيه نظامٌ إعلاميٌّ، وما دامَ النظامُ الاقتصاديُّ لم يتحقَّقْ ولَنْ يتحقّقَ في ظلِّ نظامِ العولَمَةِ الجديدِ فإنَّ النظامَ الإعلامِيَّ سيَظُل تَبَعاً للنظامِ الاقتصاديِّ، أي استمرارُ اللاتَوازنِ في النِظامَينِ معاً.
والذي حدثَ على الصعيدِ العَمليِّ هو أنّ الدَعواتِ التي تبنَّتْ النظامَ الإعلاميَّ الجديدَ، وفي ’’اليونسكو‘‘ بالذاتِ، أنتَجَتْ ما يُعرَفُ بالتقريرِ الذي وَضعَهُ ’’شون ماكبرايد‘‘
Sean MacBride(2) المعروفِ بـ’’أصواتٌ متعدِّدةٌ وعالَمٌ واحِد‘‘.
فالذي حدثَ هو أنَّ الدُولَ الغربيَّةَ وَقفتْ ضِدّ هذا التصوُّرِ وانتهَى الأمرُ إلى أن تتبدَّلَ صياغةُ ’’اليونسكو‘‘، فلم يُجَدَّدِ الأمينُ العامُّ ’’المختارُ‘‘ الذي كان متحمِّساً لهذا الموضوعِ، بل إنّ إدارةَ الإعلامِ في ’’اليونسكو‘‘ هُشِّمَت. وفي الوطنِ العربيِّ أيضاً، عندما بَدأنا نُطالِبُ بنظامٍ إعلاميٍّ عربيٍّ جديدٍ، وبدأنا ذلك في المنظَّمةِ العربيَّةِ للتربيةِ والثقافةِ والعلومِ بدائرةِ الإعلامِ تجاوُباً مع مُتطلَّباتِ ’’اليونسكو‘‘، حيثُ أُنتِجَ كتابٌ في هذا الموضوعِ ’’نَحوَ نِظامِ اتّصالٍ عربيٍّ حديث‘‘، فالذي حدثَ هنا أيضاً هو أنه هُشِّمتْ إدارةُ الإعلامِ وأُلغِيَتْ، وتوقَّفَ النظرُ على المستَوَيَيْنِ العالَمِيِّ والعربيِّ، وأصبحتِ الدعوةُ إلى نِظامٍ إعلاميٍّ جديدٍ مُقتَرِنَةً بالدعوةِ إلى تَقييدِ الأنباءِ والدعوةِ ضدّ حريّةِ الصحافةِ كي تكونَ هذه الأخيرةُ صدىً للتوجُّهاتِ الحكوميّة.
فالنظامُ العالمِيُّ إذنْ انتهى ذكرُه نهائِيّاً، لا تكادُ تجدُ له صدىً منذُ أن انسحبتِ الولاياتُ المتّحدةُ من ’’اليونسكو‘‘ وبالرغمِ من المحاولاتِ التي تجري الآنَ لاستقطابِها، وبالرَغمِ من وجودِ المُديرِ العامِّ الجديدِ فإنَّ موضوعَ النظامِ الإعلاميِّ الجديدِ قد انتهَى، ويبدو أنه ليستْ هناكَ أيَّةُ محاولةٍ لإرجاعِه، خُصوصاً بعد اندحارِ الاتّحادِ السوفياتيِّ وعَجْزِ الدُولِ النامِية. وهكذا فالنظامُ العالَمِيُّ الجديدُ القائِمُ الآنَ، عالَمُ القُطبِيَّةِ الواحدةِ، لا يُساعدُ إطلاقاً على الدَعوةِ إلى نظامٍ إعلاميٍّ، وإنَّما هناكَ مبدأٌ قائمٌ في ظِلِّ العَولَمَةِ هو أنَّهُ: الطُرقُ مفتوحةٌ، التبادُلُ مفتوحٌ، قُلْ ما تشاء ولكنْ طبعاً فالذي يَقولُ ما يَشاءُ والذي يَستطيعُ أن يَمُرَّ هو الذي لديه البِضاعةُ والمَعلومَةُ وقوَّةُ المُراسَلات.
إذن، فالعالَمُ، سواءٌ في الاقتصادِ أو في الإعلامِ، يسيرُ وفقاً لمُخطَّطِ العَولَمَةِ والذي هو يُسايِرُ قُطبِيَّةَ العالَمِ الواحد.
- قبلَ حُلولِ هذا العامِ احتفلَ العالَمُ بالذِكرَى الخمسينيَّةِ للإعلانِ العالَمِّي لحُقوقِ الإنسانِ، وتَعلمونَ أنَّ الإعلامَ يُعَدُّ أكبرَ حَليفٍ لحُقوقِ الإنسان، فما الذي يُمكنُ أن يقولَهُ الدكتور زكي الجابر بِخُصوصِ الإعلامِ وحُقوقِ الإنسانِ في الوطنِ العربيّ؟
- حُقوقُ الإنسانِ كما طُرِحَتْ في الإعلانِ العالَميِّ هي مَبادِئُ واضحةٌ شموليَّةٌ جيّدةٌ جِدّاً، ومع الأسفِ يجري أحياناً التأكيدُ على بعضِ الحقوقِ وتُهمَلُ حقوقٌ أخرَى. هناك حُقوقُ الإنسانِ في الاقتصادِ والسَكَنِ والتنقُّل، وحقُّ الإنسانِ أيضاً في الحياةِ، وهيَ أهمُّ نقطةٍ ولهذا نجدُها تكادُ تتصدَّرُ الموادَ الأساسيّةَ الأولَى في الإعلانِ العالمِيِّ لحقوقِ الإنسان، وهناكَ إلى جانبِ ذلك حُريّةُ التَعبيرِ، هذا الحقُّ الأخيرُ الذي تطوَّرَ بعد ذلكَ فأصبَحَ حقّاً في التواصُل.
إنّ الحقَّ في التواصُلِ هو الجُزءُ الأساسيُّ في حقوقِ الإنسانِ، ولكنْ وعندما نعودُ إلى النَظَرةِ الكُليَّةِ فإنّنا نقولُ بأنّنا لا نستطيعُ أن نُطالِبَ بِحَقِّ التواصُلِ أو حَقِّ التَعبيرِ إذا لم تتحقّقِ الحقوقُ الأخرَى، وأوّلُها الحقُّ في الحياةِ، لأنَّ كثيراً من الشُعوبِ في العالَمِ تتعرّضُ لعمليّاتِ إبادَةٍ سواءٌ عن طريقِ الحروبِ المحليَّة أو السلاحِ الكيمياويِّ أو المَجاعاتِ التي تنتشرُ هنا وهناك. فالحقُّ في الحياةِ هو الحقُّ الأوّلُ وتَلِيهِ الحُقوقُ الأخرَى، ولا أعتقدُ أنَّ الحقَّ في التواصُلِ أو التعبيرِ يَنفصلُ عنها.
- مشكلةُ التواصُلِ مع المتَلَقِّي من أكبرِ المشاكلِ التي تواجهُ آلَ الإعلامِ اليومَ، فكيف السبيلُ إلى تحقيقِ تَواصُلٍ كُلِّيٍّ مع المُتلقّي؟ أو كيفَ تَضمنُ وُصولَ الرسالةِ المَبثوثة؟
- مِنْ سنَواتٍ طويلةٍ، ومنذُ أنْ بدأ التفكيرُ العلميُّ في مجالِ الإعلامِ والتواصُلِ، كانَ الاعتقادُ السائِدُ بِأنَّ شَحنَ أجهزةِ الإعلامِ بالمَوادِّ الإعلاميّةِ ونَقلَها عَبرَ هذه الوسائلِ يَستطيعُ أنْ يُغيِّرُ اتجاهاتِ وسُلوكَ الناسِ، ومع مُرورِ الزمنِ تبيَّنَ أنّ هذه التوجُّهاتِ غيرُ سَليمةٍ، فالمتلقّي لم يَعُدْ ذلك الإنسانَ السَلبِيَّ، وهُنا طُرِحَ مفهومُ الجُمهورِ العَصِيِّ أو الجُمهورِ العَنيدِ، فَهو ليسَ كُتلَةً من طينٍ وإنّما هو إذا ما وصلتْ إليه المَعلومةُ فَهو يفكِّرُ في مدَى الاستفادةِ منها وفي نَقِلها إلى الآخرين. وهذهِ لم تَعُدْ تَنطَبِقُ على المتلقِّي نفسِه وإنّما تَنطَبِقُ حتىَّ على الذي يُمارِسُ عمليَّةَ النَقلِ وهو الصَحَفِيُّ، أيْ أنَّ الصَحَفِيَّ أصبحَ الآن لا يتوجَّهُ إلى المَعلوماتِ باعتبارِها ذاتّ أهميَّةٍ بالنسبةِ للمُواطن بَلْ إلى المَعلوماتِ التي يَعتَقِدُ أنّهُ بالإمكانِ نقلها عَبْرَ صَحيفَتِهِ أو إذاعَتِه، لِحَدِّ أنْ لا يتوجَهَ إلى القضايا الساخنةِ، حيثُ الحرائقُ المشتعلةُ، إذا عَلِمَ أنَّ نقلَهُ للحقائِقِ في هذه الحرائقِ يُسبِّبُ له مُشكلةً مع المسؤولِ عن الصحيفةِ أو الوَكالةِ، أو أنَّ هذه المَعلومةَ سوفَ لا تُنقَلُ إلى الجمهورِ، ولهذا فهو عَصِيٌّ من هذهِ الناحيةِ لا يُقبِلُ عليها، وكذلكَ الجُمهورُ نفسُه، إذا قدَّمتَ إلى الجمهورِ المعلومةَ التي يستطيعُ أن يَستفيدَ منها لأنَّها عَمَلِيَّةٌ وينقُلَها إلى الآخرينَ آنذاكَ يتبنّاها. وهذه نقطةٌ هامّةٌ جدّاً في عمليّةِ التَواصُلِ، نأخُذُها من الطبيعةِ الاعتياديّةِ للإنسانِ. فالإنسانُ إذا ما كَرِهَ إنساناً آخَرَ فهو لا يميلُ إليهِ ويكره النظر إليه، فكذلكَ الأمرُ بالنسبةِ لأجهزةِ الإعلامِ، فإذا لم يُحِبَّ المُتلقّي هذه الأجهزةَ فهو يتبرَّمُ بها. فهذه ناحيةٌ أساسيّةٌ في عمليّةِ التواصُلِ، وطبعاً هناك نواحٍ أخرَى بالإضافةِ إلى مُعالجةِ همومِ المُواطن. وبالنسبةِ إلى الحياةِ الحاضرةِ وسِيادةِ المُجتمعِ الاستهلاكِيِّ هناكَ لدَينا زيادةٌ في أوقاتِ الفراغِ، فنوعيَّةُ البرامجِ المقدَّمَةِ من جِهةِ الغَربِ خلقتْ لدينا نوعاً من الفَهمِ قد يكونُ خاطئاً ولكنّه قائمٌ، وهو أنّ الإعلامَ في توجُّهاتِهِ الغَربيَّةِ إنّما هو ليس للإعلامِ وإنّما للترفيهِ والتسليةِ. فمَهما كان الحَدَثُ هامّاً، قد يكونُ مُؤلِماً أو مأساويّاً ولكنّه يُصاغُ بالطريقةِ الدراميّةِ بحيثُ يُحوَّلُ الخبرُ إلى دراما هدفُها التسليةُ، يعني أنه يُثارُ المُشاهدُ وبُشَوَّقُ فتظهرُ القضيّةُ وكأنَّها لعبةٌ، فوظيفةُ أجهزةِ الإعلامِ قد تحوَّلتْ عن وظائِفِها الأساسيّةِ التي هي الإعلامُ ومُراقبةُ المجتَمعِ والمُحيطِ ثم التَرفيهُ كعُنصرٍ أخير، فهذه الناحيةُ أصبحتْ خطيرةً جدّاً. فالإعلامُ الغربيُّ قائمٌ على الإعلانِ، ولكي تَزيدَ حصيلتهُ من الإعلانِ يجبُ أن يجعلَ البرامجَ مُشوِّقةً لكي يتلقّاها أكبرُ عددٍ من الجمهور، فكُلَّما زاد الجمهورُ المتلقِّي زادتْ إيراداتُ الإعلانِ، وبذلكَ ندخُلُ نحنُ في دُوّامةٍ، أي أنَّ كلُّ البرامجِ إنّما هي مُزوًّدةٌ عن طريقِ الإعلانِ والإشهارِ، ولهذا يُصبِحُ ليسَ مُهِمّاً تقديمُ المعلومةِ وإنّما مَدَى الحُصولِ على أكبرِ عددٍ من المتلقِّين، ومن هُنا فنحنُ في عمليّةِ مُواجَهَةٍ، فكيفَ نستطيعُ أن نُقدِّمَ إعلاماً يتحدَّى الجُمهورَ العًصِيّ؟
الجُمهورَ العًصِيُّ يُمكنُ أن تتحدّاه أو أن تَجلِبَه عن طريقتين، الأولَى منهما أن يستفيدَ من المَعلومةِ، والثانيةُ هي أن نَجلِبَهُ بواسطةِ الإثارةِ واللعبِ، فنحنُ أمام صراعٍ قائمٍ، والذي يَبدو في الوَطنِ العربيِّ هو أنَّ جانبَ التسليةِ والترفيهِ هو الجانبُ السائِد، فحتَّى البرامجُ التي تقومُ على التَوَجُّهِ، مثل برامجِ ’’الجزيرة‘‘ الآن، لا تتوجَّهَ إلى الناحيةِ الإعلاميّةِ بِقَدْرِ ما تتوجّهُ إلى ناحيةِ إثارةِ وجَلبِ أكبرِ عددٍ من المشاهدينَ سواءٌ في طريقةِ العَرضِ أو في طريقةِ الصِياغةِ، فهي تُحاولُ أن تُغَلِّبَ الجانبَ التَرفيهيَّ على الجانبِ الإعلاميِّ. وهذا ما تسيرُ عليه المحطاتُ، فقد شاهدنا ما حصلَ في الصومالِ ونشاهدُ الآن المآسيَ التي تحدثُ في فلسطين، ونشاهدُ المآسيَ التي تَحدَثُ في كوسوڤو والتي تُعرَضُ بطريقةِ الإثارةِ، وبالتالي تفتقد معناها الاجتماعيَّ والإنسانيَّ.
- الحديثُ عن الجُمهورِ العَصِيِّ يجرُّنا إلى مسألةٍ خطيرةٍ تُفرِغُ العملَ الصحفيَّ من محتواهُ، وهي الرقابةُ المؤسَّساتيّةُ والرقابةُ الذاتيّةُ. فما رأيكُم دكتور زكي الجابر في هذه الممارساتِ التي تُقلِّصُ من هامشِ الحريّةِ لَدَى المُمارِسِ الإعلاميّ؟
- الرقابةُ الذاتيّةُ وما نسميه بحارسِ البوّابةِ الذي يقومُ بعمليَّةِ المِصفاةِ سواءٌ كانت هذه الأخيرةُ داخِلَ الصَحفيِّ أو خارجَه، يعني ضِمْنَ باقي العملِ المؤَسَّسي، فالصَحفيُّ من خلالِ معالجتِه وتمريناتِه اليوميّةِ يكونُ لديه الحِسُّ بأنَّ هذا الخبرَ سيكونُ مقبولاً وهذا الخبرَ لن يكونَ كذلك، هذا يُنشرُ وذاك غيرُ قابلٍ للنشرِ، وهذا يُمكِنُ أن يَجرِيَ عليه تعديلٌ وذاك سيُسمَحُ بنَشرهِ بالكامِل. وهكذا، فالصَحفيُّ عندنا كلما قدَّم أخباراً أو معلوماتٍ تنسجِمُ مع الإطارِ المؤسَّسي العامِّ يستطيعُ أن يحظَى بمكانةٍ أكبرَ وأن يتقدَّمَ إلى مراتبَ عُليا ما دامَ يُسايِرُ الخطَّ العامَّ. فَإِذَنْ في هذه الحالةِ نقولُ إنَّ مثلَ هذه الموضوعاتِ بقَدْرِ ما هي حسّاسةٌ وتُثارُ تبقَى قضيّةُ معالجتِها والبحثُ عن حلولٍ لها لا يُمكِنُ أن تُطرَحَ ضِمنَ نطاقِ معيّنٍ، فالإعلامُ عمليّةٌ شمُوليَّةٌ، ولا يُمكِنُ أن نَطلُبَ من الصَحفِيِّ أن ينشُرَ هذا الخبرَ أو غيرَه، هو لا يستطيعُ فِعلَ ذلك.
والمؤسَّسةُ بدورِها لا تستطيعُ أن تنشرَ ذلكَ لأنّنا نعيشُ ضِمنَ إطارٍ عامٍ لا نستطيعُ منهُ فَلاتاً، فالقضيّةُ هي قضيّةُ مفهومٍ واستيعابٍ ومُمارسةٍ شاملةٍ أكثرَ من كونِها في صحيفةٍ أو في دارِ إذاعةٍ أو تَلفَزة.
- الصحافةُ المغربيَّةُ رُبّما لا تُشكِّلُ استثناءً في الوطنِ العربيِّ، ومعَ ذلكَ فهيَ تحتفظُ ببعضِ خُصوصيّاتِها، من خِلال معايشتِكم لتطوُّراتِها منذُ زمنٍ ليسَ بالقليلِ، سواءٌ في إعدادِ صحافيِّيها أو عبرَ المتابعةِ، كيف تُقيِّمونَ وضعيَّتَها العامّة؟
- الصحافةُ المغربيَّةُ بشكلٍ عامٍّ، وقياساً على صَحافةِ الوطنِ العربيِّ، تتمتَّعُ بحريّةٍ في النقدِ وفي طَرحِ الآراءِ أكثرَ مِمّا هو مُتاحٌ في أيِّ بُقعةٍ من بِقاعِ الوطنِ العربيِّ، أقولُها ليس مجاملةً أو تخوُّفاً أو تَقَرُّباً من أحد، ولكن الذي يَحدُثُ هو أنَّ هذه الحريَّةَ لم تُستَخدَمْ بالشكلِ الُمناسِبِ عن طَريقِ النقدِ الواعيِ والهادِف.
نقطةٌ ثانيةٌ، وهي أنّنا في المغربِ، من الناحيةِ المِهَنيّةِ، لا زِلنا نُعاني من الكثيرِ من التخلُّفِ سواءٌ من ناحيةِ الإخراجِ أو التَحريرِ، فمُستَوَى أيِّ صحيفةٍ مغربيّةٍ، مقارَنةً مع صُحُفِ الأهرامِ أو السَفيرِ أو الحَياةِ، يجعلُنا نخرجُ بأنَّ هناكَ تخلُّفاً في موضوعِ الإخراجِ والمَعلومات. والنقطةُ الثالثةُ التي أعتقدُ أنّها مُهمَّةٌ وهي أنَّ الصحافةَ المغربيّةَ أكَّدتْ على موضوعِ الرأيِ وطرحِ الأفكارِ والمُعالجةِ أكثرَ من توجُّهِها إلى الإعلامِ اليوميِّ وإلى مَعيشةِ الناس. نحن لا نَجدُ في الصَحافةِ المغربيّةِ الأحداثَ اليوميَّة التي يعيشُها المواطنُ، لا تَنقلُ لَدَينا تنقُّلاتِ الموظّفينَ ولا تَنقُلُ لدينا أفراحَ الناسِ ولا الأحداثَ اليوميَّةَ، وإنّما هي تعالِجُ موضوعاتٍ سياسيَّةً عامّةً وظواهِرَ عامّة. قد يكونُ هذا جيّداً ولكنّه ليسَ بالصحافةِ التي نتطلَّعُ إليها. لقد عِشنا كثيراً في بلادٍ أُخرَى وشَعرْنا بأن الصحيفةَ هي حاجةٌ يوميّة، إلا أنَّه يُحزِنْني كثيراً أن أمُرَّ على الأكشاكِ وأرَى الصُحفَ مكوّمةً ولا يشتريها المُواطن. قد تكونُ لذلك صِلةٌ بالناحيةِ الاقتصاديّةِ، ولكنّ المواطنَ لا يشتريها لأنّهُ لا يجدُ فيها معاناتِه، وإلى أن يَحدُثَ هذا اليومُ، وتُستَثْمَرَ الحريّةُ الموجودةُ الآن، وتتوجَّهَ الصحافةُ إلى معاناةِ المواطنِ، وترتفعَ بإخراجِها وتَحريرِها، آنذاك نستطيعُ أن نقولَ إنّنا أمامَ صحافةٍ مغربيّةٍ حقيقيّة.
- إذن بماذا تَنصحونَ، دكتور زكي الجابر، الصَحَفيَّ المغربيَّ للانتقالِ في ممارستِه الإعلاميَّةِ من صحافةِ الرأيِ إلى صحافةِ الخبر؟
- المسألةُ بسيطةٌ جدّاً، فأنا أعتقدُ أنَّهُ، سواءٌ في معاهدِ الصحافةِ، أو في نِطاقِ الجامعةِ التي نَشأتْ فيها أقسامُ التواصلِ، أو في نِطاقِ المِهَنِيَّةِ، يجبُ أن نُعيدَ النظرَ في مَفهومِ الإعلامِ القائمِ، أي أنَّ الإعلامَ الذي تنقلُه الصحافةُ المكتوبةُ الآنَ هو ليس بالإعلامِ الذي يُريدهُ المُواطنُ. لِنَبحثْ إذنْ عن الأسبابِ، نبحثُ في طريقةِ الصياغَةِ، وأنا متأكِّدٌ أنّ الجريدةَ ستجدُ طريقَها إلى الأسواقِ. أمّا أن نبقَى نتحدَّثُ ودونَ أن نقومُ بعمليّاتٍ توجيهيّةٍ تكوينيّةٍ جديدةٍ ناجِعةٍ، وهذا التكوينُ لا يكونُ دائماً عن طريقِ الخُبراءِ والمُنظَّماتِ الأجنبيّةِ بل هو تَكوينُ الصَحفِّي لذاتِه عن طريقِ النقدِ الذاتِيّ. هناك اجتماعاتٌ أُسبوعيةٌ يجبُ أن تُعقَدَ داخِلَ الصحيفةِ، يُعالَج فيها مفهومُ الخبرِ وتُطرَحُ فيها كلُّ الأسئلةِ: لماذا أنشُرُ هذا الخبَر؟ لماذا صحيفَتي لا تُباعُ؟ فإذا استطعنا أن نُوجِّهَ نقداً ذاتيّاً داخلَ مؤسَّساتِنا نَستطيعُ أن نقولَ إنّنا مشَينا خطوةً كبيرةً، ويُرافقُ ذلك التطوُّرُ التكنولوجيُّ في عمليّةِ الإخراج. فيجبُ أن نتحدَّى التقاليدَ الموروثَة في عمليّةِ الإخراجِ، يعني أنّه لا بُدَّ أن نُعيدَ النظرَ في الشكلِ الذي يستَهوي القارئَ. لماذا هذا الخبرُ يكونُ في الصفحةِ الأولَى ولِماذا لا يكونُ في الأخيرة؟ لِماذا لا يكونُ هذا الخبرُ في اليَمينِ بدلَ اليَسار؟ إذا استطعنا أن نقومَ بعمليّاتِ النقدِ الذاتيِ أُسبوعيّاً سنُطوِّرُ الصحافةَ، ثم تأتي العمليَّةُ التكنولوجيَّةُ ثم تَحَدِّي التقاليد.
فأنا لا أفهمُ لِماذا نُغلِقُ صُحُفَنا مع الرابعةِ، فهذا شئٌ غيرُ مَقبول. ومن المُؤسِفِ أنَّ هناكَ توجُّهاً عامّاً إلى عَدَم تغييرِ هذه العادةِ، فلا توجدُ صحافةٌ في العالَمِ تُغلقُ أبوابَها مع الساعةِ الرابعة. فهُناكَ أحداثٌ في المَغربِ تَحدُثُ بعدَ هذا الموعِدِ، وبذلكَ لا تَستطيعُ الصحافةُ المغربيّةُ إخبارَنا بها إلا في اليومِ التالِي أو الذي بَعدَهُ.
وأخيراً، أقولُ بأنَّ الصحافَة يجبُ أن تُكوِّنَ مُراسليها وأن تُكوِّنَ طاقَمَها الخاصَّ وأنْ لا تعتمدَ اعتماداً كُلِيّاً على وكالاتِ الأنباءِ، فهذهِ الأخيرةُ هي مُمَوِّلُ خَبَرٍ لكنَّها لا تُموِّلُ كلَّ الأخبارِ ولا تقومُ بكلِّ التحقيقاتِ، فالذي حدثَ هُنا الآن أنَّهُ حتَّى مراجعاتُ الكُتُبِ والتقاريرُ العامّةُ يُعتَمَدُ فيها على وكالاتِ الأنباء.
وهناك أيضاً اعتمادٌ كبيرٌ على قَلمِ المقصِّ، يَعني أنَّ الصُحُفَ كثيراً ما تَقُصُّ من صُحُفٍ أخرَى وتنقُلُها إلى صَحافتِنا ولكنْ دونَ الإشارةِ إلى المَصدر، وأعتقدُ أنَّ هذا عَملٌ غيرُ مَقبولٍ مِهَنِيّاً، ثم بعدَ ذلكَ على المَدَى البعيدِ يُعَطِّلُ العمليَّةَ الصَحافيّةَ، يعطِّلُ تطويرَها. وبهذه المناسبةِ أُخاطِبُ اخواني في الصحافةِ المكتوبةِ وأقولُ لهم: ’’افتَحوا الأبوابَ أمامَ الأقلامِ الناشِئةِ، هناكَ لدينا شبابٌ مهَيؤُونَ فافسَحُوا لهم المجالَ لنشرِ إنتاجِهم، وظِّفوهُم في عمليّاتِ نَقلِ الأخبارِ، امنَحُوهم الشئَ القليلَ وهم سيعطونكم الشئَ الكثير‘‘.
- التهافُتُ على إجراءِ حِواراتٍ مع القادةِ الإسرائيليّينَ خَطرٌ آخرُ باتَ يُداهِمُ الصحافةَ العربيّة، فما رأيُكم، دكتور، في هذا التَطبيعِ الإعلاميّ؟ وكيفَ نُجابهُه؟
- هُنا نعودُ إلى مجالِ الحريّةِ التي يتمتّعُ بها الصحفيُّ. نحن لو قُمنا بمراجَعةٍ يوميّةٍ أو أسبوعيّةٍ لصحافَتِنا فأعتقدُ أنَّ ضميرَ الصحفِيِّ هو من الاتّقادِ والاشتِعال الذي لا يسمَحُ له بالقيامِ بمثلِ هذه الأعمال. فالصحافةُ في كلِّ أنحاءِ العالَمِ تتعرَّضُ إلى مُغرِياتٍ وإلى كثيرٍ من النواحِي مثلَ التَرهيبِ والإغراءِ، ولكنْ يبقَى لدينا دائماً التربيةُ على المَوضوعيّة والالتزامُ بالحِسِّ الوطنيِّ، وأعتقدُ أنّنا هنا في المَغربِ نستطيعُ أن نقولَ اعتِماداً على الحِسِّ الوطنيِّ القائِمِ إنّنا سنكونُ مُستَقبَلاً في منأىً من هذه الناحيةِ، فلا أخافُ على الصَحافةِ المغربيّة من الانزلاقِ في هذا الدَور. فهناك خطرٌ قائمٌ وهو خطرُ المُغرياتِ، وإذا استطعنا أن نقومَ بعمليّاتِ نقدٍ مستمرّةٍ على سَيرورتِنا اليوميّةِ نستطيعُ أن نَقِفَ أمام هذه التيّارات. وهناك طبعاً جهودٌ مستمرّةٌ من العدوِّ الصهيونيِّ لإقامةِ ركائزِ فِكرِه، لأنه قد يستطيعُ أن يقومَ بدعائِمَ اقتصاديّةٍ أو دبلوماسيةٍ، ولكنَّ الأهم من ذلك هو الدعائمُ الفكريَّةُ.
- شكراً دكتور زكي الجابر. بماذا تودُّون خَتْمَ هذا اللقاء؟
- أذكُرُ من قراءاتي أنه سُئِلَ أحدُ المُراسِلين عن مُهِمَّتِه، فقال: ’’أنا رَجُلُ إطفاءٍ، أبحَثُ عن الحرائقِ لأقومَ بتَغطِيتِها، ليستْ مُهِمَّتي الإطفاءُ ولكنْ تغطيتُها صَحَفيّاً‘‘. ولهذا أعتقدُ أنَّ ما أودُّ قولَه في ختامِ هذا اللقاءِ إنَّ على الصحفيّينَ أن يبحثُوا عن الحرائقِ ويَقُوموا بتَغطيتِها، وما أكثَر الحرائقَ التي نستطيعُ بتغطيَتِها أن نخدمَ الوطنَ والمُواطنِ.
*************
1- نشر القسم الأول على موقع الگاردينيا في 15-06-2020.
2- ’’شون ماكبرايد‘‘ Sean MacBride، 1904-1988. سياسي إيرلندي ووزير خارجيتها، مشارك في منظمات عالمية، حصل على ’’نوبل‘‘ للسلام عام 1974.
نشرت في صحيفة ’’الميثاقِ الوطنيّ‘‘ (المغرب)، 6-2-1999.

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

921 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع