عوني القلمجي
لكم وثيقتكم وللثورة العراقية وثيقتها
في ليلة ظلماء، وتحديدا يوم الاثنين الماضي الثامن عشر من هذا الشهر، اجتمع على عجل قادة الطوائف والمليشيات المسلحة، في بيت عمار الحكيم زعيم تيار الحكمة، واصدروا مشروعا للاصلاح تحت اسم وثيقة الشرف ذات الاربعين فقرة. وهذه تحكي قصة معروفة ومملة. فكلما عجزت الحكومة عن قمع انتفاضة شعبية او انهائها، تلجا الى هذه الوصفة الجاهزة. وقد تضمنت وثيقة الشرف هذه ما لذ وطاب من الوعود الوهمية، ومغلفة بعنوان محاربة الفساد والفاسدين، ومذيلة بتعهد اسقاط حكومة عادل عبد المهدي، اذا لم تتحقق الاصلاحات الواردة فيها في مدة اقصاها خمسة واربعين يوما!!!. ولكسب ثقة الثوار بهذه الوثيقة واضفاء نوع من المصداقية عليها، اصدر مجلس النواب في اليوم الثاني من صدورها قانونا يقضي، "بالغاء امتيازات جميع المسؤولين في الدولة، ابتداءً من منصب مدير عام حتى رئيس الجمهورية، على أن يبدأ تطبيقه مع بداية العام الجديد، 2020.". لكن هذه الوثيقة ذات "الشرف الرفيع" نسفت مضمونها جملة وتفصيلا في فقرتها الثانية. حيث ذكرت بالحرف الواحد"ان الحفاظ على بنية الدولة ونظامها السياسي والديمقراطي وترسيخ مبدا التداول السلمي للسلطة عبر الاليات الدستورية، هي المثابة التي يلتقي عندها الجميع، وتجاوزها وانهيارها خط احمر" وهذه تنسف اهم مطلب من مطالب الثورة العملاقة وهو اسقاط النظام.
ليس غريبا والحالة هذه ان يرفض الثوار هذه الوثيقة، واعتبارها محاولة بائسة ومناورة فاشلة، تنطوي على الكثير من الخداع والتضليل، والتاكيد على ان هؤلاء الاشرار لم يقوموا بهذا الفعل الا بعد عجزهم عن القضاء على الثورة بقوة الحديد والنار. وان"المفسد في الارض لا يمكن ان يكون مصلحا"، كما هي الشجرة الخبيثة لا تنتج سوى ثمار خبيثة. ثم عبروا عن هذا الموقف بجمل قصيرة رفعت في ساحة التحريرمنها : "هذه الوثيقة الفاسدة لا نريدها + ثورة العشرين والله نعيدها"، ومنها ايضا أن "الوثيقة مرفوضة وعار لن يقبله الثوار" وكذلك ترديد اهزوجة تقول "هذا الشعب كله عرف هاي الوثيقة بلا شرف"، لينتهوا الى حرقها وسط هتافات تدين وتشتم هؤلاء الاشرار. في حين ان عموم الناس في العراق قد استقبلها بالسخرية والاستهجان، حيث مرت عليهم خلال سنوات الاحتلال العجاف اكثر من عشرين وثيقة من هذا النوع، وكان اخرها وثيقة عادل عبد المهدي، التي تعهد فيها معالجة اربعين ملف من ملفات الفساد، دون ان ينجز ملفا واحدا. بل على العكس من ذلك تماما، اذ تم بعد شهرين اكتشاف 410 حالة فساد جديدة في وزارة الداخلية لوحدها.
ليس الثوار وحدهم الذين رفضوا هذه الوثيقة، وانما رفضها الساعون، من شخصيات وتجمعات سياسية، الى ايجاد صيغة توافقية بين الحكومة والثوار تحت ذريعة وقف نزيف الدم، الذي يتعرض له الثوار السلميين على يد الة القمع الحكومية والمليشيات المسلحة. حيث اعتبرت هذه الوثيقة غير صالحة ولا مقنعة وشككت بمصداقيتها وكشفت عن حجم الخداع والتضليل فيها واستهزأت بانعقاد الاجتماع خارج قبة البرلمان، المكان الشرعي للإجتماعات، وشبهت وقت الاجتماع ليلا بالمؤامرات السرية التي تعقد في جنح الظلام، ولامت المجتمعين بعدم تتناول قضية اقالة الحكومة، او ذكر من تورط منها بدماء العراقيين، وقفزت على المطالب الرئيسية، وهي اسقاط النظام وحل البرلمان والغاء الدستور. وخلصوا في النهاية الى القول "بان الغرض منها هو المماطلة والتسويف لكسب الوقت".
اما الذين روجوا لهذه الوثيقة واكدوا على جديتها واهميتها، ودعوا الثوار الى ضرورة استثمارها، انما يخدعون انفسهم قبل ان يخدعوا الثوار، ليقدموا خدمة لهؤلاء الاشرار، فالحديث عن عدم قدرة الحكومة على تجاهل مطالب الثوار، يجافي الحقيقة والواقع. فسقوط عدد من الحكام العرب جراء تعنتهم بعدم تلبية مطالب شعوبهم، مثل بن علي ومبارك والقذافي وعلي صالح، لن يكون بالضرورة درسا يجبر الحكومة على الاهتداء به، كما يدعي المروجون، وانما اعتبروا صمود بشار الاسد ونجاحه بقمع الثوار والبقاء في السلطة، هي التجربة التي تحتذي بها الحكومة، وتنتهجها دمويا لتصفية الثورة والثائرين. حيث سقط اكثر من عشرين شهيدا وجرح ما يقارب المائة بعد صدور هذه الوثيقة بيوم واحد. في حين لم يجر الانتباه بالقدر الكافي الى واقع الحال في العراق، الذي لا يسمح للثوار في الوصول الى الاهداف المركزية التي قدموا من اجلها هذه الدماء الزكية، وفي مقدمتها اسقاط الحكومة وحل البرلمان والغاء الدستور واجراءات انتخابات مبكرة، بشروط تضمن نزاهتها.
بالمقابل وعلى الجهة الاخرى، فان الية انجاز اي مشروع اصلاحي مهما كان متواضعا، يتطلب وجود دولة وطنية مستقلة تسعى، كما الدول الوطنية الاخرى لخدمة بلدها وشعبها. في حين ان الدولة في العراق هي دولة فاسدة من الراس حتى اخمص القدمين، بل وصنفت من قبل المعنيين على انها الاولى او الثانية في سلم الدول الفاسدة في العالم. يضاف الى ذلك افلاس خزينة الدولة وتراكم الديون عليها، ناهيك عن البنى التحتية المهدمة بالكامل . وبالتالي فالدولة الفاسدة تعد المعوق الاساس لمحاولات التقدم، وتقويض دعائم التنمية، مما يجعل آثار الفساد ومخاطره أشد فتكا وتاثيرا من أي خلل آخر، كونه لا يقتصر دوره المخرب على بعض نواحي الحياة دون البعض الآخر، بل يمتد إلى شتى نواحي الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. وكل هذه النتائج الخطيرة التي تحدثنا عنها، نجدها ظاهرة للعيان في العراق.
هذا ليس تجنيا، وانما اكد عليه جميع المسؤولين دون استثاء. بل اعترقوا اضافة الى هذا الخراب والدمار، بسرقة الاموال التي جنوها من خلال مناصبهم، بما فيهم اعضاء في لجنة النزاهة، التي من المفترض ان تكون معنية بتقديم المفسدين الى المحاكم. ثم كيف يمكن اجراء اصلاحات من هذا الوزن الثقيل في ظل الدولة، التي تحولت الى دولة مليشيات مسلحة تعبث بمقدرات العراق والعراقيين قتلا وتدميرا وخرابا؟ ثم من يستطيع محاكمة رؤوس الفساد، والكل يحتفظ بملف فساد ضد الاخر؟ الم يؤكد هذه الحقيقة رئيس الوزراء السابق نوري المالكي حين هدد بكشفها ردا على محاولة سحب الثقة منه؟ الم يعتمد ذات النهج حيدر العبادي بعد ان فقد الامل بولاية ثانية؟ الم يجابههما الاخرون بذات النهج مهددين بقوة بما تيسر لهم من ملفاتهما السوداء؟
اما الجانب الاخر فان الدول الاقليمية التي تسعى الى انهاء الثورة، تدفع الحكومة وتشجعها على عدم الرضوخ لمطالب الثوار، او عقد تسوية معها. خاصة وان لهيبها امتد لهذه الدول والثورة لا تزال في بدايتها، مثل لبنان وايران نفسها، ترى كيف ستكون حال هذه الدول اذا ما حققت هذه الثورة انتصارها النهائي؟ وبالتالي ليس غريبا استنفار ايران لكل قوتها من اجل مساعدة الحكومة على انهاء الثورة باي وسيلة كانت. في حين اكتفت الدول الاخرى بالتامر على هذه الثورة بكل ما اوتيت من قوة، بدءا بالتقليل من شانها ومرورا بالتعتيم الكامل على كل القتل والذبح والاختطاف الذي راح ضحيته مئات الشهداء والاف الجرحى، وانتهاء بتقديم كل خبراتها المتخصصة بقمع التظاهرات والثورات الشعبية.
خلاصة القول، فان طرح مثل هذه الوثائق، او خطط الاصلاح من قبل هذه الطغمة الفاسدة، هو ليس من اجل الناس واصلاح حالهم، وانما من اجل اعادة انتاج الفساد بطرق ملتوية،ومخادعة، وبالتالي فان العراقيين عموما والثوار خصوصا لن يراهنوا عليها، او يسمحوا لانفسهم بالانتظار فترة اطول، أوالانشغال ما بين مؤيد ومعارض او ما بين متفائل ومتشائم، وانما زاد الثوار اصرارا على تحقيق مطالبهم كاملة غير منقوصة وفي مقدمتها اسقاط هذه الطغمة الفاسدة وحل البرلمان وكتابة دستور جديد واجراءات انتخابات نزيهة.
وفق هذا السياق، فان الحديث عن اصلاح الوضع في العراق على يد هذه الطغمة التي اجتمعت في بيت الحكيم، او من قبل حكومة عبد المهدي، التي هي نسخة طبق الاصل من الحكومات السابقة، هو امر مستحيل. وبالتالي يمكننا التاكيد دون تردد، بانه لا اصلاح قبل الخلاص من هذه الحكومة الفاسدة ومليشياتها المسلحة وبرلمانها المزور وقضائها المرتشي ودستورها الملغوم دفعة واحدة، والاتيان بحكومة وطنية قادرة على انجاز مثل هذه المهمة الكبيرة. خاصة وان الحكومة المنشودة لم تعد صعبة المنال، بعد ان ابدى الثوار استعدادهم للتضحية من اجل تحقيقها. ومن يشكك في هذه الحقيقة او يقلل من شانها،بصرف النظر عن نواياه، فانه لفي ضلال مبين.
عوني القلمجي
22/11/2019
614 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع