بغداد... في الذكرى العاشرة لنهاية حرب وبداية أخرى

                                   

بغداد... في الذكرى العاشرة لنهاية حرب وبداية أخرى
كريستوف عياد *
الأربعاء ٢٤ أبريل ٢٠١٣

في 25 آذار (مارس) 2003، كانت الطريق البرية بين عمان وبغداد وحدها متاحةً للمسافر، ويومَها اضطررت، أنا الآتي من عمان، إلى قضاء 12 ساعة على الطريق، ودخلت الأراضي العراقية وسط عاصفة رملية دامت 3 أيام، غداةَ أسبوع على بداية الحرب، وأعمت المسافرين عن رؤية أبعد من طرف السيارة. أخبار الحرب المختصرة والموجهة أعمت المراسلين والصحافيين عن فهم الحوادث، فحمَلَنا استعجالُنا على الظن أن الجيش الأميركي «يراوح» مكانه. وبعد أقل من أسبوع، دخلت المدرعات الأميركية الأولى ضواحي بغداد وجوار مطارها، الذي كان متوقفاً عن استقبال الطائرات منذ حرب الخليج السابقة في 1991، وانتظر سقوط صدام حسين ورفع العقوبات قبل أن يُشغّل مجدداً. المسافر في 2013 يهبط في مطار بغداد مباشرة، والغريب أن شيئاً لم يتغير في المطار منذ ثمانينات القرن الماضي: الموكيت الأخضر على حاله، وكذا القساطل في السقف، ومسحة القِدَم الكئيبة على الأشياء.

أما استقبال مراقبي الجمارك والجوازات، فلا يزال فظاً، ومنذ رحيل آخر جندي أميركي في كانون الأول (ديسمبر) 2012، أمست زيارة العراق عسيرة على الصحافيين ورجال الأعمال، وعلى موظفي الشركات الأمنية خصوصاً.

رحل الأميركيون وخلفوا بلداً في طور البناء والإعمار ولمّا يبرأ من جروحه بعد، فالطريق الطويلة بين المطار وبغداد، التي شهدت أثناء الاحتلال أعمال قتل لا تحصى، تضطر المسافرين إلى التوقف عند الحواجز العسكرية عشرات المرات، وتجبرهم على الحضور قبل إقلاع الطائرات بـ5 أو 6 ساعات. هذه الطريق، التي يبلغ طولها 20 كلم، ضربت رقماً قياسياً آخر في الرشوة التي بذلتها بلدية بغداد من الأموال المرصودة لتجميل الطريق وتجديدها، فالسياسة العراقية هي استمرار الحرب بوسائل النهب السلمية.

وزيارة بغداد غداة 10 سنوات على الحرب تشبه الحفريات الأثرية، والبداية من ساحة الفردوس، ففي هذا الحوش المستدير، الذي يطل عليه فندق الميريديان–فلسطين وشيراتون–عشتار وتوسطه أكبر أنصاب صدام حسين وتماثيله، كان الصحافيون يقبعون رغماً عنهم. وجددت الحكومة العراقية الفندقين اللذين استقبلا قمة دول الجامعة العربية في آذار (مارس) 2012، وأبقتهما على هيئتهما، ففي مستطاع الزائر أن يرى أثر قذيفة أطلقتها دبابة أميركية وقتلت صحافيين في 8 نيسان (ابريل) 2003. في هذا المكان حضرنا المؤتمر الصحافي اليومي السوريالي الذي كان يدعونا اليه وزير الإعلام محمد سعيد الصحاف، ليسرد علينا أخبار انتصارات خيالية ومجيدة أحرزتها القوات البعثية على «عصابة حيوانات الصحراء» التي تجتاح العراق. كان إسقاط تمثال صدام رسمياً إعلاناً باستيلاء الجيش الأميركي على بغداد في 9 نيسان بعد العصر بقليل، فانتهت حرب لتبدأ أخرى.

التقيتُ- صباح 9 نيسان- في هذه الساحة بثائر، هو لم يكن سائقاً ولا مترجماً ولا موظفاً في وزارة الإعلام، لكن الحرب حملته على غلق محل بيع قطع غيار السيارات الذي كان يملكه ويعتاش منه، فقصد الساحة بسيارته آملاً بالعثور على عمل، فموظفو الوزارة وأدلاّء الصحافيين ومراقبوهم هربوا مع قادة النظام، وصدام حسين على رأسهم.

كان ثائر دليلي في بغداد وطرقاتها، وسط القوات الأميركية وفدائيي صدام الهائمين على وجوههم، ذلك اليومَ المشهود، فقادني إلى مدينة صدام، وهي ضاحية ضخمة وبائسة ومعارضة، وصار اسمها فور انهيار النظام مدينة الصدر، تيمناً بعالم دين قتله صدام. الحي الكبير بقي فقيراً على ما كان عليه تقريباً، فالنفايات تحترق في حاوياتها على جوانب الطرقات، لكن لافتات المحال تلمع وتستوقف النظر، وتموينها بالسلع أفضل بكثير من السابق لدى سقوط حاكم العراق وحزبه.

خَلَفَ الشيعة صدام حسين في الحكم، وبقي سكان مدينة الصدر على تمردهم وثورتهم. ويسيطر حزب مقتدى الصدر- ابن «الشهيد»- وميليشيا الحزب الملي على المدينة. وحين استقبلنا الشيخ إبراهيم الجبري إمام مسجد المحسن وممثل مقتدى الصدر، بادرَنا بالقول: «لم يتغير شيء منذ 2003، ما عدا حرية إقامة شعائرنا الدينية والدعوة إلى معتقدنا، فنحن يحكمنا نظام تسيطر عليه الولايات المتحدة، وشبابنا من غير عمل، وهمّ السياسيين الوحيد هو جمع المال». زرتُ غداةَ سقوط النظام المعتقلات والسجون، ورأيت الأهاليَ وهم يهدمون نفقاً، ظناً منهم أن وراء جدرانه زنزانات مموهة وسرية. والسجون السابقة التي لم يدمرها القصف جددها النظام، من غير تردد، فعراق اليوم مزيج عجيب من مؤسسات ديموقراطية وممارسات استبدادية. واعترف لي رئيس لجنة حقوق الإنسان البرلمانية سليم الجبوري، بأنه اكتشف مصادفة في2011 سجناً سرياً في المنطقة الخضراء يدعى «شرف». ولا يشك النائب في أن سجون «شرف» أخرى لا علم له بها لم تغلق، وقد لا تغلق قريباً.

 

نهب وإهمال

شهدت مع ثائر نهب بغداد الكبير، الذي كانت دورُ قادة النظام ضحيته الأولى، وأول من نهبت دارته طارق عزيز، ويقيم فيها اليوم أحد قادة المجلس الإسلامي العراقي إحدى المنظمات السياسية الشيعية. ثم نهبت الوزارات والثكن والمتحف الذي لم يفتح أبوابَه بعد مضي عشرة أعوام. ثم دارت الدائرة بعدها على المصارف، وعلى كل ما يمكن انتزاعه وأخذه، وما بقي دُمِّر وأُحرق، وإلى اليوم لم تبرأ بغداد من آثار النهب. فبعض الوزارات لم يفتح أبوابه إلا منذ وقت قريب، قبل أن تدمره عمليات حربية مرة أخرى، وأحياناً ثالثة، شأنَ وزارة المال، والمباني التي لم تصلح ولم ترمم على رغم مرور السنين كثيرة، وما لا يصدق هو أن البنى التحتية لم تجدد، وخطة بناء شبكة مترو فوق الأرض عُهِد بها إلى شركة ألستوم الفرنسية، إلا أنها لا تزال في طور الدراسة. والإنشاءات كثيرة خارج بغداد، في الجنوب الشيعي والشمال الكردي، وفي بغداد لم تعدم قواعد النصب التي خلفها عهد صدام، واقتصر الهدم على التماثيل.

 

دبي حلم العراقيين

ويلاحظ الزائر بعض أعمال الحفر والبناء في مواضع متفرقة من العاصمة، إلى أعمال ترميم الأرصفة التي لا تنتهي. ويقدر عدد المراكز التجارية التي تبنى في حيي الجادرية والمنصور بسبعة، ويبدو أن العراقيين عزفوا عن ترميم الأبنية القديمة وإصلاحها. والمستقبل الذي يحلمون به هو دبي: الاستهلاك ولا شيء غير الاستهلاك، أما الحرية، فلم تجلب معها إلا الفوضى والانقسام. والناس حريصون على إشهار هوياتهم وأعلامهم وألوانهم فوق «أقاليمهم» وديراتهم، فهنا أعلام «أهل البيت»، ويرفعها أهل الشيعة الإماميون في أحيائهم ببغداد، ويلصقها رجال الشرطة على جدران أكواخهم وحواجزهم ولو في الأحياء السنية. وعمد السنة إلى إحياء المولد النبوي والاحتفال به فوق ما كانوا يفعلون، فنشروا الأعلام الخضر والصفر، وفي وسطها الهلال. ويتسابق كلا الفريقين على إعلان انتسابه، ولا يترك شاردة أو واردة إلا ويستعملها في سبيل إثبات هذا الانتساب وقطع الشك فيه.

ولم يؤدِّ ذلك، على رغم حدته واستفزازه، إلى «تطهير مذهبي»، ولا شك في أن أحياء السكن ببغداد أصبحت أكثر تجانساً، فالكرّادة يغلب عليها الشيعة، وكان يغلب عليها المسيحيون، ويغلب الأكراد على الجادرية، وأهل السنة العرب على المنصور، وبعض السكان في هذه الأحياء ليسوا على المذهب الغالب ولكن لا يحول دون إقامتهم مانع، رغم أنهم يشعرون بشيء من العزلة. بعض الأحياء كان مختلطاً، ولا يزال على اختلاطه، وأدلت القوى السياسية بدلوها في هذا الاختصاص، فاصْطَفَت الواحدة منها حياً، وبنت فيه حصناً عسكرياً وتمترست فيه.

كان ثائر يقول إنه شيعي، لكنه أقرب إلى جاره السني أو المسيحي من «أخيه» الجنوبي أو المقيم في مدينة الصدر. ولم يكتم خشيته من الاقتتال في سبيل السلطة مع زوال الطغيان.

 

من سيء إلى أسوأ

وأضعتُ أثر ثائر بعد 2004 مع انقطاعي عن التردد الى العراق، فيومها كان الهاتف الخليوي غير رائج، والإنترنت يخطو خطواته الأولى. ثم وقعت وأنا أراجع مدوناتي على عنوان ثائر في حي الغدير. يسكن هذا الحي موظفون وتجار وإداريون متوسطون، وجميعهم من الطبقة الوسطى التي حطمها الحصار الاقتصادي على العراق بين 1991 و2003. وعدت إلى العنوان المدون في مذكرتي: في وسط الطريق مجرى مياه مبتذلة، وامرأة في جلباب أزرق ترش الطريق برذاذ ماء من آنية معدنية. سألتها عن تاريخ سكنها في الحي، فقالت إنها من عائلة مسيحية كانت واحدة من عشرين مثلها ولم يبق منها إلا خمس عائلات، والأُسر التي تركت حلت محلها أخرى جاءت من الأرياف، ومعظمها احتل البيوت الخالية عنوة وسطا عليها، وهم يستقوون بالبلدية ويلجأون الى عصابات قبضايات. المرأة ترش الطريق، لأن البلدية لا تقوم بذلك. ولا تتردد في القول إن الأحوال من سيّء إلى أسوأ. أما جارتها الشيعية وصديقتها، فتقول إن الحال صعبة وشديدة الوطأة، لكنها تتحسن.

وتروي الامرأتان أن الحرب دهمت الحي مرتين في السنوات العشر الماضية: في الأولى انفجرت قذيفة أطلقها الأميركيون، وفق قول المرأة الشيعية، بل ميليشيات شيعية، وفق قول المسيحية، وفي المرة الثانية خطف أبو جمال، أحد سكان الحي، وأطلقه خاطفوه في مقابل فدية، وأعيد إلى بيته في سيارة انفجرت حال ركنها في مرآب البيت وقتلت أبو جمال. كان هذا عام 2006، أي في ذروة الاقتتال الطائفي المذهبي. وتُقسم الامرأتان على أن الشعب العراقي الواحد لن تفرق الفتن بين شيعته وسنّته وأكراده. أما ثائر، فترك الحي 2008، وهي دونت رقم هاتفه ودخلت منزلها لتأتي بالرقم، فانتظرت في ظل شجرة صغيرة، ولاحظت سيارات دفع رباعي أمام بعض البيوت، قرينةً على أن الحرب لم تجرّ الكوارث على جميع الناس.

 

اجتياح تلو الاجتياح

على بُعد شارعين، كانت تقيم المحامية لهيب نعمان. اشتهر اسمها حين أقامت دعوى على صدام حسين بتهمة اغتيال أحد حراسه. وأوقفتها «الاستخبارات» واغتُصبت وعذبت وأُصيبت بما يشبه جنون. غداة سقوط النظام، شاهدتها في الطريق تائهة في ثياب مخرقة تتلفظ بكلام هاذٍ، وعلى جدران بيتها كتابات غاضبة بعضها يندد بصدام وابنه عدي. أحد الجيران قال إنها توفيت في 2005، وكانت منظمة غير حكومية تولّت إيواءها وعلاجها وتحسنت حالها، ثم أحجم الأجانب عن المجيء إلى الحي خوفاً من الخطف والمتفجرات، فساءت حالها مجدداً، وأراد مسلّحون إجبارها على بيع بيتها فرفضت، وفي صباح يوم من الأيام وجدها بعض الجيران مرمية على جانب الطريق مسحوقةَ الجمجمة. وورثت الكنيسة الكلدانية بيت لهيب نعمان المحامية.

وأخيراً حصلت على رقم هاتف ثائر، اتصلت به والتقينا بعد 3 ساعات، فأخبرني أنه باع محل قطع غيار السيارات، ويعمل سائقاً على سيارة «سايبا» إيرانية رخيصة ومتينة، شرط ألا تتجاوز سرعة السير 140 كلم، فإذا تجاوزتها تفككت السيارة قطعاً. ضحك بمرارة وهو يصف حال السيارة. هو اليوم في الرابعة والخمسين، ملامح وجهه غائرة، شاربه على حاله وشعره على صباغه، ومنذ طلاقه في 2008 فقد متعة العيش، وذهبت ابنتاه زهرة وزينب الى سورية مع والدتهما، وهو يشتاق إليهن. اليوم يرى الحياة بعد الحرب قاسية وثقيلة، والحرية لم تجلب معها عيشاً مقبولاً على شاكلة العيش الذي كفله النظام السابق، مع العمل المتوافر والأكل عند الجوع والأمن على النفس من غير خوف.

فالأمور اليوم كلها عسيرة: التغذية بالتيار الكهربائي تقتصر على 12 ساعة في اليوم، وعلى المرء إعلان ولائه السياسي ليحصل على وظيفة، فإذا تغير الوزير خسر الموظف عمله. المذهب هو معيار الولاء والعمل، والناس تغيروا وتخلّوا عن الأخلاق. وثائر، على غرار أهل بغداد القدماء، يشكو الاجتياحات المتتابعة: اجتياح الأميركيين، واجتياح الإيرانيين وأهل الضواحي والأرياف والمنفيين العائدين وصدورهم عامرة بالكراهية... وفي الأعوام الأخيرة، اكتشف العراقيون الإنترنت والهاتف الخليوي وشبكات التلفزيون الفضائية، فكأن العالم هجم عليهم وأغرقهم في فوضاه واجتاح حياتهم الخاصة، فهم كانوا يحيون على جزيرة نائية وداخل سجن، فإذا بهم في مهب ساحة حرب تسودها قواعد ليبرالية متوحشة لا ترحم الضعفاء.

كنتُ في التاسع من نيسان (أبريل) ببغداد، وانقضى يوم سقوطها «عادياً» إذا جاز القول، ولم تحتفل الحكومة بالمناسبة، ولم يحتفل جمهور العراقيين، وكلما مر ثائر بساحة الفردوس سأل نفسه عما إذا كان هذا كله كابوساً.

*مراسل، عن «لو موند» الفرنسية، 14-15/4/2013، إعداد منال نحاس

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

644 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع