أوراق من سجل العلاقات العراقية - الإيرانية " المناوشات الحدودية و الاحتكام إلى استخدام القوة "

                                                   

                            الدكتور رعــد البيدر

من عاشَ الأيام التي سبقَّت الحرب العراقية – الإيرانية بإدراك سياسي أو عسكري ، أو من يتصوَّر وصف مُجريات تلك الأحداث وتعاقبها يصل إلى قناعة مفادها أن الحرب واقعة بين البلدين لا مُحال ، برغم أن أساليب المساعي لتفاديها كانت ضرورية ومطلوبة ؛ لكنها للأسف كانت بوادر الحرب قبل اتخاذ قرار اندلاعها بالساعة واليوم والشهر والكيفية .

كل الأمور كانت تؤشر وتُساق باتجاه حدث أكبر-  يُنذر بإشعال الفتيل وتفجير الأزمة . فطهران كانت تريد من خلال ( الثورة الإسلامية ) أن تسترجع القدس عبر بغداد التي كانت مُتحدية لطهران . ومن الجهة المقابلة كانت بغداد تريد إسقاط دولة الفرس المتأسلِّمة في طهران- والتي تُهَّدِدُ بقيام عراق فارسي وليس عربي .

من بين تطورات الأزمة ودون أدنى اكتراث بالتدخُل بالشأن الداخلي لدولة جاره - أعلنت طهران سعيها لإقامة نظام ( إسلامي ) جديد في بغداد وفق معتقدها الديني الخاص ( مذهبياً ) هو ما عُرِفَ في حينه بشعار" تصدير الثورة ". بينما أرادت بغداد التشرُّف بأن تكون بوابة العرب الشرقية المانعة والمُتحدية للوقوف بوجه التمدد الإيراني نحو بلاد العرب . وفي ذات الوقت طالبت بغداد بحقوق مواطنين عرب مضطهدين في عربستان - جذور أرضهم المغتصبة عربية . إضافة إلى مطالبتها بحقوقها الكاملة بالسيادة على شط العرب – الذي لم يكن لإيران عِبرَ التاريخ يوماً فيه امتلاك أو عليه سيادة أو به تحَّكُم؛ ولكن جغرافية التجاور أوجبت أن يكون لها منه وفيه انتفاع – أخذ أشكالاً متعددة . كان آخر ما ينظم علاقات البلدين بخصوص شط العرب – هو ما تم الاتفاق عليه في الجزائر عام 1975 .  في السطور اللاحقة سنتطرق لجوانب من الاتفاقية بقدر ما لها من علاقة بعنوان مقالنا الذي نحن بصدده .
أخذت الاعتداءات الإيرانية على العراق صوراً وأشكالاً متعددة؛ منها اعتداءات أهمَّلَ الجانب العراقي الإشارة إلى بعضها كونها بسيطة، وأحتسبَ البعض الآخر من جانب الخطأ وليس من جانب التقَّصُد؛ لاسيما في بدايات التصعيد في مؤشر على حُسِن نوايا العراق آنذاك .
 بلَّغ عدد الاعتداءات الإيرانية المثبتة بوثائق رسمية عراقية للفترة من 23 شباط / فبراير 1979 – أي بنفس الشهر الذي عاد به آية الله الخميني من " نوفل لوشاتو " القريبة من العاصمة الفرنسية باريس إلى طهران ، وحتى 3 آب/ أغسطس 1980، (548) اعتداءً مثَلَّت مختلف أشكال الاختراقات، بالطائرات ، وفتح النار على المخافر الحدودية ، وقصف المناطق الحدودية ، واعتراض السفن في شط العرب، وأُطلِقَت نيران أسلحة إيرانية على طائرات مدنية عراقية قبل الحرب ثلاث مرات . زادَ تعَكُر علاقات الطرفين عندما قامت طائرات التصدي الإيرانية باعتراض وتحذير وتهديد إحدى الطائرات المدنية العراقية وإرغامها على الهبوط في أحد المطارات الإيرانية.

تَصَرَّفَ العراق بالسُبل الدبلوماسية في التعامل مع تطورات الأزمة فوَّثَق (293) مذكرة احتجاج بكافة الاعتداءات التي تعرض لها وقدمها إلى الأمم المتحدة ، والجامعة العربية، والحكومة الإيرانية .
على الرغم من كُثرة المذكرات ورسائل الاحتجاج العراقية الموجهة لإيران والمنظمات الدولية والإقليمية - التي توَّضِح بالتوقيت والتاريخ والمكان حالات تجاوز إيراني وفق الادعاء العراقي؛ لكن وتيرة الأحداث قد تسارعت ، وزاد التصعيد الإعلامي المتبادل من عُمق التأزُم ؛ فصارت الدلائل تشير بوضوح إلى انغلاق الأفُق المُتسامح  بين الدولتين.

بناءً على ما أوجزناه في السطور السابقة ؛ فقد أندفع الطرفان نحو الحرب بسبب سوء التقدير - إذ لم يأخذ كلاهما بنظر الاعتبار النتائج المدمرة للحروب ، ودون أدنى مراعاة بأن خيار الحرب هو آخر الوسائل التي يُفَّضُ بها النزاع بين دولتين ؛ والتي لا ينبغي اللجوء إليها إلا بعـد أن تعجز الوسائل المانعة من تجنبها - وفق المنطق السائد لتفسير دوافع الحروب . ورغم وضوح موقف ونوايا طرفي النزاع فقد غاب الدور الأُممي ، والعربي ، والإسلامي المؤثر على الطرفين، أو الكابح لتأزم علاقات البلدين.

أخذت الاعتداءات الإيرانية شكلاً آخر من التصعيد المُتسارع اعتباراً من 4 أيلول/ سبتمبر إلى 22 أيلول/ سبتمبر 1980 - بموجب أدعاء الحكومة العراقية ؛ فقد  تعرضت المُدن الحدودية العراقية الواقعة ضمن مدى المدفعية الإيرانية إلى قصف متكرر بالهاونات والمدفعية الثقيلة (175) ملم . حددت وسائل الاستمكان العراقية ( وهي وحدات تخصصية مهمتها تحديد مواقع إطلاق القذائف ) بأن مواقع إطلاق القذائف الساقطة على: خانقين، ومندلي، وزرباطية ومصفى الوند – هي من " زين القوس، هيلة، سيف سعد " وتلك المناطق أراضي عراقية منزوعة السلاح  أمتنع الجانب الإيراني عن أعادتها، ولم يُحسَم أمرها رغم وضوح عائديتها إلى العراق بموجب اتفاقية الجزائر1975 " سبق الإشارة إليها "  التي أكسبت إيران نصف شط العرب نظير إعادة بعض المناطق ومن ضمنها هذه القصَّبات . تسبب القصف الإيراني بإصابات لمنشآت حكومية وأهداف مدنية أحدثت خسائر بشرية ومادية ؛ وثَّقها الجانب العراقي وفق مزاعمه بالأسماء والتواريخ وبالصور الفوتوغرافية وأشرطة فديو عرضها من خلال وسائل الإعلام الجماهيرية .

 بدأت الطائرات الإيرانية باختراق الأجواء العراقية ، بعضها لأغراض الاستطلاع البصَّري أو التصويري ؛ أُسقطت أحداها بمنطقة " قزانية " بالقرب من "مندلي" في 4 أيلول / سبتمبر1980، وفي ليلة 16/17 من نفس الشهر شَنَّت طائرتان إيرانيتان هجوماً على منطقة " نفط خانة " في محافظة ديالى- أصيبت الطائرتان بنيران أسلحة الدفاع الجوي العراقي فسقطت إحداهما على مَقرُبَةٍ من مدينة زرباطية ، وقد تم أسرُ قائدها الملازم الطيار " حسين علي رضا لشكري " الذي أحتفظ به العراق للضرورة كشاهد أثبات حي ودليل مادي ملموس على أن من بدأ الحرب هي إيران وليس العراق . ولم يُسَلِمهُ العراق إلى إيران ضمن وجبات تبادل الأسرى التي جرت بين الطرفين لاحقاً. وأخيراً أُطلقَ سراحه مع بوادر الغزو الأمريكي للعراق نهاية عام 2002 على كونه آخر أسير حرب إيراني، والموضوع موَّثق في سجلات الأمم المتحدة ومنظمة الصليب الأحمر الدولية.

          

صرَّح الجنرال " فلاحي" نائب رئيس أركان الجيش الإيراني يوم 14 أيلول / سبتمبر 1980 (( بأن إيران لا تعترف باتفاقية الجزائر بشأن الحدود البرية )) ولعدم صدور ما يُنفي تصريح الجنرال " فلاحي" من قبل حكومة إيران ؛ فالتفسير يعني دلالة قبوله والارتضاء به ، أو التوجيه بإطلاق ذلك التصريح . صَعَّدَت إيران وتيرة النزاع في19 أيلول/ سبتمبر1980- عندما أعلنت عن إغلاق شط العرب ومضيق هـرمز بوجه الملاحة العراقية.

نَبَّهت بغداد حكومة طهران بوضوح بأن إقدامها على هذا الإجراء يعني إعلان الحرب على العراق ، وفي ذات الوقت بدأت بغداد بمناقشات كيفية إبعاد خطر رمي المدفعية الإيرانية على المدن العراقية الحدودية بحتمية إرغامها على الانسحاب وإعادة الانفتاح في العمق الإيراني الأبعد ؛ لتصبح المدن العراقية في مأمن - وخارج مدى مقذوفات الهاونات والمدفعية الإيرانية المتيسرة.

أشارت خلاصة استنتاجات تقدير الموقف السياسي للحكومة العراقية إلى إن حتمية الحرب قائمة ، ولا يفصلها عن قرار إيران بإغلاق شط العرب ومضيق هـرمز بوجه الملاحة العراقية سوى عودة طهران عن نواياها وتغير سياستها تجاه العراق، وذاك أمر لا تقبله أدنى احتمالات التوقع . وبناء على ذلك باشرت المستويات العراقية العليا سياسياً وعسكرياً باستعدادات تهيئة الدولة للحرب.

قرر العراق القيام بالضربة الجوية الأولى بإشراك (192) طائرة مختلفة الأنواع عالجت أهدافها بتوقيت واحد بالساعة 1200 يوم 22 أيلول / سبتمبر كَرَّدِ فعلٍ لأغراض: أرباك منظومة الدفاع الجوي الإيراني، وإضعاف قدرات إيران الجوية، وتحقيق فعل الصدمة المقرون بالمباغتة.

أسقطت الدفاعات الإيرانية طائره "سوخوي" واحدة في "عيلام " وعادت بقية الطائرات، أعقبتها الضربة الجوية الثانية لمعالجة أهداف الصفحة الثانية من الخطة الجوية. ترَّتَب على نتائج الهجمات الجوية تمهيد السُبل بشروع التشكيلات البرية في تنفيذ مهامها وفق مقتضيات الخطط البرية .

شَرَّعَت القوات العراقية بالتعَّرُض مُتَّجهة نحو العمق الإيراني ، مستفيدة من النتائج التي حققتها الضربات الجوية المتعاقبة على الأهداف الإيرانية وفق متطلبات الضرورة لإدارة معارك قواطع العمليات المختلفة . أتَّخذ الهجوم البري ثلاث محاور ( شمالي، وسطي، جنوبي ). كانت غايات الهجوم من المحورين الشمالي والجنوبي رئيسيه . أما غاية المحور الوسطي فكانت ثانوية ؛ وهي من أجل إرباك خطط إيران وإرغامها على دفع احتياطات القطعات الإيرانية المتمركزة في القاطع الجنوب بالتحرك شمالاً ، واستثمار ذلك لتسهيل مهام القطعات المكلفة بالمحور الجنوبي في أدارة معاركها، وتحقيق السيطرة على أهدافها.

تمكَّنت قطعات المحور الشمالي من تحقيق السيطرة على مدينة " سومار" يوم 23 أيلول / سبتمبر، وعلى " قصر شيرين " في اليوم التالي . إما قطعات المحور الوسطي فقد تمكَّنت من السيطرة على مدينة " مهران" يوم 25 أيلول / سبتمبر- ثم أُسقِطَت " گيلان غرب " عسكرياً - من جراء اندفاع القطعات العراقية في العُمُق الإيراني ؛ وبذلك تم أبعاد خطر القصف المدفعي عن المدن الحدودية الوسطية . كان القتال في القاطع الجنوبي شديداً، وبزخمٍ مُدام بسبب تمركز الثقل الرئيسي من الجهد العسكري الإيراني وأهمية الأهداف في ذلك القاطع . الخارطة التالية تُبيِّن أراضي العراق والجزء الغربي من إيران - اتجاهات محاور الهجوم والقطعات التي خُصِصَت لكل محور في المراحل المُبَكِرة للرد العراقي .

            

                 اتجاهات محاور هجوم القوات البرية العراقية

أصدر مجلس الأمن قراره المرقم (479) في 28 أيلول / سبتمبر 1980 - دعا فيه الطرفين إلى وقف القتال والمبادرة للتفاوض عن طريق وسيط ؛ فاستجاب العراق وأعلن موافقته، ورفضت إيران الاستجابة للقرار في تفسير لها على أن الموافقة ستجعل من الرئيس العراقي " صدام " منتصراً، وقائداً قومياً مُحرراً؛ وهذا ما كانت تبغضه ولا تتمناه أبداً .

بمشيئة الله سيكون محور عرضنا اللاحق:
" إطلالات على إدارة حرب الـ ( 8 ) سنوات " .

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

968 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع