كوزومبولوتية دبي

                                            

                             هند السليمان


ما الذي تصنعه المدن في حياة ساكنيها؟ وهل تُشكّلنا المدن في حين نتوهم أننا من يشكّلها؟ وكيف تفعل ذلك؟ هل عبر دمغنا ببصمتها، لينتهي أصحاب المدن بحمل بصمات متقاربة؟ أيحدث هذا حقاً؟ وما شكّل هذه البصمة؟ وهل لكل مدينة بصمتها أم أن المدينة -أي مدينة- «ذات» تجعل لها بصمات متقاربة؟ بعض من الأسئلة التي دارت برأسي فترة مكوثي في دبي.

دبي تحتضن -ولا أدري إن كانت كلمة تحتضن مناسبةً هنا- أفراداً من بلاد متعددة، بعضها لم نسمع بها من قبل، ومع هذا نجد أن هناك نمطاً مشتركاً يجمعهم. في مدينة لا تمنح إقامة سهلة للغرباء، بل هم محاصرون بعقود عمل، وبنظام إقامة وكفيل، ومع هذا استطاعت أن تمنحهم البصمة ذاتها تقريباً، أم هي تستقطب من يشابه روحها كمدينة؟ فمثلاً حتى «غربيي» دبي لا يشابهون الغربيين الذين تقابلهم في لندن أو نيويورك، أو حتى هاننقتون (إحدى مدن أميركا الفقيرة). هم غربيون يحيلونك إلى صورة المستشرق القديم، الذي يأتي إلى ديار غريبة محملاً بمعرفته وبتعاليه المعرفي، لجمع ثروة في أرض بكر. نعم أرض بكر، حتى وهي تمتلئ بناطحات السحاب، فالبكارة هنا حالة ذهنية. سلوك الغربيين في دبي يستحضر صورة محددة من القرن الـ19، وفيه يظهر قفص بوسط إحدى المدن الأوروبية، وبداخله شخص أفريقي كنوع من الترفيه، باستعراض الكائن الغريب والبدائي.

المفارقة، أننا حين ذهبنا إلى الغرب، توقف الغربي عن وضعنا في ذلك القفص، ولكن حين أتى إلى مدن الشرق سلك سلوكاً لعله ينطلق من فكرة القفص تلك. ألا يصر الغربيون على الإقامة في مجمعات سكنية، حتى وقبل أن تعاني المنطقة من آفة الإرهاب؟ نعم، قد يقول أحدكم: ولكن هم من يحاصرون أنفسهم داخل القفص.

بالنظر إلى طبيعة الحياة والخدمات داخل تلك المجمعات السكنية لعلنا نرجح أنهم أقاموا داخل أسوار المجمع ليضعوا السكان المحليين داخل قفص افتراضي يحمون أنفسهم فيه من بدائية هؤلاء المحليين. وفي هذا حديث آخر يطول.

بالعودة إلى دبي، كيف تقرأ دبي كمدينة؟ أهي مدينة كوزموبوليتية كما يتم وصفها؟ ألا تُعرف المدن الكوزموبوليتية بأنها مدن مفتوحة للغرباء؟ كل الغرباء، إذ لا يشعرون بالغربة داخلها. أهكذا يشعر سكان مدينة دبي؟

حدثتني امرأة عربية تقيم في دبي منذ أعوام عدة، أنها بدأت أخيراً تفهم دبي، وتتعامل وفقاً لمنطقها. تقول إنها تذهب إلى بعض الأماكن باعتبارها لبنانية مسيحية ليتم قبولها فيها، وتلبس العباية كخليجية تقليدية لتستطيع التوائم في أماكن أخرى، أما بقية الأماكن فهي بين هذا وذاك، وهي تتحدث تذكرت كتاب أمين معلوف «هويات قاتلة»، فهل ما يحدث هو صراع هويات بين أفراد أم هو صراع هويات داخل الفرد ذاته؟ الأمر الآخر، أهو صراع هويات حقيقةً يحمل إشكالات نفسية ووجودية وثقافية أم هو لبس لأقنعة لتسهيل العيش في مدينة لا تتقبل كل الهويات؟ بحيث تصهرها بهوية عالمية، متجاوزة للهويات المحلية والإقليمية، وأن ما يحدث هو قبول لوجود هويات متعددة في مكان جغرافي، على أن يلتزم صاحب كل هوية بنمط سلوكي ومعاشي محدد وفقاً لهويته؟ أهذا هو جوهر وجه دبي؟ الأجل هذا يشعر المقيمين فيها ببعض الراحة، وبالوقت ذاته بدرجة عالية من الاغتراب، وكأن المدينة تقبلهم وتمنحهم فرصاً قد لا يجدونها في أماكن أخرى، ولكن هي تفعل ذلك، وهي تضعهم ضمن دوائرهم. فللعرب لباسهم وأماكنهم وكذلك الأوربيون، والسكان المحليون. أهذا يصنع منها مدينة كوزموبوليتية أم مكان تتجاور فيه هويات، قد تتقاطع مصادفة، لكنها لا تذوب لتمتزج.

لعل أفضل طريقتين لاكتشاف المدن هي المشي سيراً وسط المدينة، ثم الجلوس في أحد مقاهيها، واستراق السمع لأحاديث سكان المدينة. والأخرى هي الحديث مع سائقي التاكسي، فهم من يمتلك مفاتيح المدينة. أحاديث مرتادي المقاهي في دبي تدور في فلك الصفقات، الصفقات ذات الطابع السريع والخاطف. ولا تنحصر الصفقات هنا بالصفقات التجارية، بل حتى العلاقات وطريقة تناولها أو لترتيب زواج تفرضه طبيعة المدينة. أما سائق التاكسي فحين يحدثك تشعر به منفصلاً عن المدينة، فهو ليس جزءاً من نسيجها، كما تستشعر عند الحديث مع سائق تاكسي نيويوركي مثلاً. كل شيء هنا طارئ وسريع؛ لاقتناص فرصة قد لا تتكرر. ألا تشكل المشاريع السريعة والبناءات التي تظهر بشكل مفاجئ ليتبعها بناء آخر وكلها تتبع منطق صيغة «أفعل» أطول، أكبر.. هذه الصيغة التي تنطوي على روح تنافسية، وبالوقت ذاته استعراضية؟ أليس في قول أطول وأكبر استعراض ما؟ ألا تنسحب على روح ساكني هذه المدينة؟ إذ تتشكل علاقاتهم بالآخرين وبذواتهم وفق منظور صيغة التفضيل «أفعل»، ليصبح البحث عن شركاء أطول وأجمل وأغنى.

ولأن إيقاع البناء مستمر، فكل عمارة شاهقة تسجل رقماً قياسياً، يتبعها بزمن بسيط عمارة أخرى تتجاوزها. أيحدث هذا في العلاقات الإنسانية أيضاً؟ لعل قراءة أدبيات سكان المدينة تمنحنا أجابة ما.

أمر آخر وشخصي، في زيارة لدبي ذهبت وحيدة، فوجدت أن عروض دفع فاتورة الطعام تتكرر من غرباء، لا تعرفهم ولم تتبادل معهم نظرة واحدة. أهو كرم المدينة انعكس على سكانها؟ أم هو تقليد متبع هنا؟ وما دلالته؟ لأكتشف وبعد سؤال عدد من النساء ممن سافرن وحدهن، أن الأمر تكرر كثيراً معهن، وبطريقة مزعجة، تجعل فكرة الجلوس في مقهى لساعات والاسترخاء بمتابعة المارة وقراءة كتاب صعباً تحقيقه في دبي لامرأة وحيدة. نعم لا قانون يمنع ذلك، ولا شروط واضحة وصارمة للباس النساء، ولكن أن تتعرض النساء الجالسات وحدهن في أماكن عامة لموقف مشابه، فهو يكشف عن أمر مستبطن داخل هذه المدينة حول المرأة، والتصور عنها وعن دورها.

حديث المرأة العربية حول أزياء «التنكر»، التي ترتديها لتتعايش مع المدينة، ونظرات آسيويين المدينة، التي تكشف جوعاً لمن يعيش في هامش يعرف أنْ لا مخرج له منه، والنساء الوحيدات التي تُحرجهن المدينة وحدتهن، جميعها تدفع إلى التساؤل: أفعلاً دبي مدينة كوزموبوليتية؟ آلمشكلة في دبي أم في استجلاب مصطلحات بزغت ونمت في ظرف تاريخي وثقافي مختلف؟ لنقوم بتبنيها، معتقدين بأنها كافية لوصف واقعنا.

من المؤكد أن دبي كمدينة وكحالة تستحق التأمل والإعجاب، ولكن ألا يمكن أن يكون هناك وصف آخر يناسب المدينة، ينطلق من حقيقة المدينة بإيقاعها وعلاقات سكانها وبحقيقة ظرفها الجغرافي والثقافي؟ ثم أليس هذا هو جوهر إشكالاتنا؟ ترجمة مفاهيم نشأت وتطورت في الغرب، ومن ثم إسقاطها بشكل ممسوخ على أفكار وتجارب فكرية، لم تحمل إلا صورة الفكرة لا جوهرها. ولعل أكبر مثال يأتي للذهن هو مفهوم الليبرالية. مفهوم تم تبنيه أخيراً كحل لأزمتنا التاريخية، ولكننا لا نزال نعيش ونصارع سوء الترجمة للمصطلح. سوء الفهم هذا في حقيقته، هو سوء فهم مجازي لمفهوم لم تتشكل القيم والمفاهيم الكافية بعد لاستيعابه. وأخيراً سؤال مشاكس، ألا يفسر انجذاب «أشباه» الليبراليين لمدينة دبي بكونها تمثل «شبهاً» لمدينة كوزومبولوتية؟

* كاتبة سعودية

Hendalsulaiman@

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

957 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع