»موضة« بيل كلينتون السياسية

                                        


                          د. منار الشوربجي

نشرت مجلة »أتلانتك مانثلي« الشهرية في عددها الصادر في أكتوبر الجاري، حوارا مع الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون، بمناسبة مرور عــــشر سنوات على إنشاء مؤسسة »مبادرة كلينتون العالمية« التي تقوم بأعمال خيرية حول العالم من سيريلانكا لكينيا ونيجيريا.

وأول ما تبادر إلى ذهني وأنا أقرأ الحوار، كان شيئا من نوع »والله زمان«! فها هو كلينتون يتحدث من جديد عن رؤيته التي ملأت الدنيا حين كان في الحكم وأطلق عليها »الطريق الثالث«.

وقتها، لا أعرف بالضبط كم من الأبحاث كتب وكـــم من المقالات دبج وكم من ساعات البث تم استهلاكها، بالــذات في منطقتنا العربية، عن الطريق الثالث وآفاقه وتنظيراته. فالطريق الثالث كان هو »الموضة الدولية« التي تصور الجميع أنها تمثل النظام العالمي الجديد، وكان كلينتون في أميركا وتوني بلير في بريطانيا يشار إليهما باعتبارهما رمزين لذلك التيار. لكن سرعان ما اختفت تلك الموضة بخروج كلينتون من الحكم، وجاءت موضة تغيير النظم بالقوة، وفكرة »الفوضى الخلاقة« لمجموعة بوش.

ولا يزال هناك اليوم بالمناسبة من يتحدث عن تلك »الفوضى الخلاقة«، بعد أن خلصت الموضة! وقد اتضح، فيما بـــعد طـــبعا، أن الطريق الثالث ما هو إلا تكريس لأفكار النيوليبرالية في الاقتصاد والسياسة. فكلينتون كان يمثل يمين الحزب الديمقراطي الذي وصل للحكم في أميركا عبر التأكيد على »أنه ليس ليبراليا«، أي لا يمثل يسار الحزب المؤمن بدور دولة الرفاهية والتأكيد على حقوق الأقليات.

أما توني بلير، فكان شخصيا أكبر دليل على أن الطريق الثالث كان مجرد موضة، لأنه عاد وجر بلاده لأول موضة تالية حين تولى بوش الابن، فهو لم يؤمن بهذه ولا تلك!وقد جاءت أفكار كلينتون في الحوار لتعبر عن النيوليبرالية بامتياز، لكن النيوليبرالية، بصياغات كلينتون، تبدو دائما وكأنها اختيار ثالث بين طريقين فقط.

فهو رأى مثلا أن العالم اليوم فيه طريقان أو قوتان، الأولى هي تلك النظم التي تتراجع عن الديمقراطية دون الرأسمالية، وأسماها »بالرأسمالية السلطوية« كما جرى مؤخرا في المجر، والطريق الثاني أو القوة الثانية هي منظمات غير حكومية وغير قومية، مثل بوكو حرام، هدفها الوحيد هو التدمير. أما الطريق الثـــالث فهو الاعتماد المتبادل بين المال والمنظمات غير الحكومية.

ففكرة المؤسسة التي أنشأها جاءته، كما قال، من حضور عشرات المؤتمرات التي أدرك من خلالها أن النخب في العالم تعرف المشكلات الدولية وتتألم لها، ولكنها لم تحول ألمها أبدا لفعل. لذلك تقوم مؤسسته على خلق شبكة من المنظمات غير الحكومية وأصحاب المال والأعمال والمنظمات الخيرية، للعمل معا من أجل مشروعات بعينها.

وذلك هو جوهر أفكار النيوليبرالية، حيث ينحسر دور الدولة في مواجهة الفقر، بينما يتعاظم دور المجمتع الأهلي والمنظمات الخيرية، إذ لا يوجد عند كلينتون طريق رابع فيه الدولة ذات مؤسسات ديمـــقراطية تتخذ قرارات فاعلة من أجل حماية الفئات الأضعف!

لكن لو سألتني، عزيزي القارئ، عن العبارة التي قالها كلينتون وكان يجب أن تكون عنوانا للحوار، فسأقول إنني لو كنت رئيسة تحرير المجلة لاخترت التركيز على موضوع المساعدات الخارجية، حين قال »لا أريد أن يواريني التراب، ونحن لم نزل البلد الثري الوحيد في العالم الذي يعطي تلك النسبة (الضئيلة) من المساعدات الخارجية لأنفسنا«.

فكلينتون بعد أن أكد أن بلاده تنفق نسبة ضئيلة من ميزانيتها للمساعدات الخارجية، اعترف بأن الجزء الأكبر من تلك المساعدات يحصل عليه المتعاقدون الأميركيون الذين ينفذون مشروعات الحكومة الأميركية في البلدان المتلقية للمعونة.

والحقيقة أن العبارة لا تأتي قوتها من أنها تقدم جديدا، فالقاصي والداني يعرف أن المستفيد الأول من المساعدات العسكرية الأميركية مثلا، هو شركات ومصانع السلاح الأميركية العملاقة، التي تتعاقد معها الحكومة الأميركية من أجل بيع الأسلحة للدول التي تحصل على المعونة.. لكن قوة العبارة تأتي من أنها جاءت على لسان رئيس أميركي سابق.

أما الأمر الثالث اللافت للانتباه في الحوار، فيتعلق بالداخل الأميركي. فبيل كلينتون هو الرئيس الذي أطلقت عليه أديبة نوبل الأميركية السوداء توني موريسون، وصف »أول رئيس أمريكي أسود«. وقتها كان كلينتون لا يزال في الحكم، ولم يكن باراك أوباما قد ظهر على الساحة السياسية.

وتوني موريسون أطلقت على كلينتون ذلك الوصف لأسباب معقدة لا مجال لشرحها هنا، ولكن يكفي القول إنه يأتي من أسرة بيضاء فقيرة عاشت في قاع المدينة حيث العنف والجريمة، وكانت معاناته قريبة الشبه بتلك التي يواجهها الكثير من السود.

والحقيقة أن توني موريسون حين أطلقت عليه ذلك الوصف، فإنه لاقى استحسانا من جمهور كبير من السود الذين أحبوا كلينتون فعلا، وانتبهوا للكثير من الرسائل ذات الدلالات الرمزية، مثل عزفه على آلة الساكسفون الموسيقية في الحملة الانتخابية للرئاسة. لذلك كان من اللافت أن الحوار لم يتطرق مطلقا للغليان داخل الجماعة السوداء منذ أحداث مدينة فيرغسون.

ورغم أن التقليد الأميركي المتعارف عليه هو ألا يتحدث أي رئيس سابق عن سياسات الرئيس الموجود في السلطة، إلا أن غياب أزمة السود عن حوار على أربع صفحات مع كلينتون، مفارقة بالغة الدلالة. فوجود أوباما في الحكم جعل طرح قضية السود كقضية سياسية، حتى مع رئيس سابق، أكثر حساسية وتعقيدا.

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1268 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع