محطات في تاريخ شرطة العراق شكر من الملكة عالية بعد عملية في النجف

   

المدخل الرئيسي لصحن الإمام علي (ع) في النجف الأشرف، الصوره ملتقطه في تشرين الأول 1932

  

محطات في تاريخ شرطة العراق شكر من الملكة عالية بعد عملية في النجف

                                                                                       
بقلم: شاكر العاني / المحامي والقاضي وضابط الشرطة السابق

                                  

الملكة هي جلالة الملكة عالية والدة آخر ملوك العراق الملك فيصل الثاني رحمهما الله.

أما الموكب فكان يتكون من سيارتين ودليلهما وحارس الموكب هو العبد لله كاتب هذه السطور، أنا المفوض شاكر العاني، مأمور مركز شرطة النجف، وكان ذلك حسبما بقي في ذاكرتي عام 1950 وقبل وفاتها باشهر عدة من تلك السنة.
كنت حينها استعد للذهاب الى بغداد بعد نهاية دوام يوم خميس لألتقي بأمي التي عادت الى بغداد بعد ان ضاقت عليها الغربة بعيدا عن ابنتها واحفادها، ولألتقي ببعض زملاء المسلك الذين انتسبوا للدراسة في كلية الحقوق لاستلم منهم نصيبي من ملازم الدروس التي ليس لها كتب مقررة، ولكن نداءاً تلفونياً وصلني من مدير شرطة كربلاء السيد/ حسين الملّي متجاوزاً رئيسي المباشر معاونه المرحوم مردان السعد، وطلب مني الحضور الى كربلاء بمفردي، وأن أصل الساعة الرابعة وقبل الخامسة في كل الاحوال من نفسي ذلك اليوم.

  


امتثلت للامر وركبت سيارة الجيب الحكومية التي عشقت سياقتها رغم المحاذير الرسمية التي تمنعنا من سياقة مثل تلك السيارات الحكومية واصطحبت الى جانبي سائقها في هذا الواجب المجهول الذي لم ابلغ بشكله وحدوده.
وصلت الى مسكن مدير الشرطة في كربلاء بعيد الساعة الرابعة وطلب مني الذهاب الى مقر مديرية شرطة اللواء،والانتظار بالقرب من تلفون ضابط الخفر.

              


نفذت ذلك الامر وقبيل الساعة الخامسة دق جرس ذلك التلفون وكان الامر الجديد أن اذهب الى دار المتصرف. وجدت سيارة مدير الشرطة الخاصة وفي تلك السنين لم يكن للمتصرفين المحافظين ولا مدراء الشرطة سيارات رسمية خاصة بهم ولا حراسات وإن كانت لهم حراسة فلا تتجاوز شرطي مسلح بمسدس يمشي وراء المسؤول الذي بتلك الدرجة، وهذا يعني بالنسبة لي ان مدير الشرطة موجود في مسكن المتصرف وعليّ أن أقابلهما وفي خاطري رقة وابوية مدير الشرطة الموما اليه وحزم وشدة المتصرف المحافظ مكي الجميل رحمهم الله.

باب المسكن
ادخلني من كان ينتظرني في باب المسكن الذي يقع على الشارع مباشرة، حيث لم يكن هناك في تلك السنين بيوت فخمة لها حدائق، وعليها حراسات مثل مساكن المسؤولين فيما بعد تلك السنين، ولا اقصد هذه السنين فقط، وأرجو من القارئ ان يعذرني ان وقعت في خطأ في تحديد التواريخ والسنين لأني اكتب من الذاكرة، وقد إمتد بي الأجل الى هذه السنين وربما تخرجني أمراض الشيخوخة عن السياق الذي اكتب فيه... فمعذرة وقد وصف الله جلت قدرته من يصل الى ما وصلت اليه بقوله:

( بسم الله الرحمن الرحيم .. وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا صدق الله العظيم.)
وجدت المتصرف ومدير الشرطة واقفين في غرفة جانبية وأديت التحية لهما رد عليّ مدير الشرطة بما يشبه التأكد من وصولي، أما المتصرف فقد كان مشدود الوجدان والنظر الى شباك يطل على الشارع.
وبعد ان شعر المتصرف بوجودي التفت نحوي وقال إسمع يا شاكر، إني أعتمد عليك في هذا الواجب بعد ان رشحك مديرك وأشار الى مدير الشرطة الواقف الى جانبه.
قلت  له: "حاضر سيدي"!!
قال المتصرف ان جلالة الملكة الوالدة الآن في كربلاء، ولم يذكر المكان الذي توجد فيه، وخطر في بالي لابد وأنها في زيارة مرقدي جديّها الشهيدين الحسين والعباس رضي الله عنهما، وتابعت بانتباه شديد أوامر المتصرف وكان موجزها ان جلالة الملكة متوجهة الى النجف الاشرف وعليّ أن أرافق موكبها وأبقى معها وأنفذ أي أمر او تعليمات تصدرها لي الست ملوك »...

ولم اكن اعرف قبل ذلك من هي الست ملوك ولكني في هذا الواجب علمت انها هي زوجة معالي ضياء جعفر وزير المالية المستديم، ومن المقربات الى الملكة والى أميرات القصر الملكي، والست ملوك من أسرة بغدادية عريقة هي أسرة النواب من أصول هندية لهم منزلة الامراء في بلادهم، وكانت الاسرة تسكن جانب الكرخ الى جوار جسر الشهداء على نهر دجلة مباشرة، ومن هذه الاسرة علاء النواب العراقي الذي عبر مضيق الدوفر قبل ان يعبره المصري الذي اطلق عليه لقب التمساح، وان حظى علاء صديقي وزميل دراستي بتقدير من الأمير عبد الاله، إلا انه لم يأخذ ذلك الاهتمام في الاعلام العراقي، كما أخذه التمساح المصري، وامتهن علاء فيما بعد القضاء وصار قاضياً مرموقاً وظل مستمسكا بوطنه العراق بالرغم من رحيل جميع أفراد اسرته بعد انقلاب عام 1958.
وبعد هذا الفاصل اعود الى مسير موكب الملكة...

  


                 العائلة المالكة..الملكة والوصي وألأميرات
وصلت سيارتان ووقفتا على باب مسكن المتصرف، وكان المتصرف قد خرج الى باب مسكنه بعد ان وصلته إشارة من شخص يقف وسط الشارع بانتظار الموكب، انحنى المتصرف ويده على صدره لمن في السيارة الاولى وأدى التحية العسكرية مدير الشرطة وانا معه لنفس من كان في تلك السيارة، ولم يكن معلوما ان الملكة في أي من السيارتين لان نوافذ السيارتين مُسدلة عليها الستائر، وحتى النسوة كن يضعن على وجوههن برقع ويسمى في ذلك الوقت (بوشي)، وأجسامهن ملفوفة بعباءات سود، إلا انني ادركت ان من كان في السيارة الاولى كانتا وصيفتين ملونتين لأني اقتربت من سائق تلك السيارة واعطيته تعليمات أن يسير خلفي ولا يترك مسافة كبيرة لكي لا يؤثر الغبار على ركاب تلك السيارتين لأن الطريق ما بين كربلاء والنجف الذي يبلغ طوله 100 كم غير معبد ولا يقتصر على مسلك واحد وانما له مسالك متعددة يتجنبها سواق السيارات لكثرة مافيها من الحفر وكثيرا ما تنقلب السيارات لاسيما في موسم الزيارات عندما يركب الزوار على سقوف الباصات الخشبية المتهالكة..

         

سلكت بالموكب طريقا لم يكن مطروقا ولكنه اطول متجنبا تلك الحفر الطسات، ولأن الاوامر التي صدرت لي ان أصل بالموكب الى مرقد الامام أمير المؤمنين علي ابن ابي طالب رضي الله عنه، متجنبا الزحام ودون ان يتعرض الموكب الى ما يؤخر وصوله.

    

وقبيل غروب الشمس بوقت لا بأس به تمكنت من إيصال الموكب بسلام الى باب الطوسي الذي يقع الى الشمال من الصحن الحيدري الشريف لأن سالكيه قليلون وخاصة في هذا الوقت الذي يكون فيه عموم الزوار قد عادوا الى مساكنهم والى مدنهم وهذه الايام لم تكن موسماً لزيارة يكثر فيها الزحام. وجدت السيد حسن ابن سادن كليدار الروضة الحيدرية يقف داخل الصحن وكأنه ينتظر قدوم هذا الموكب، ابتسم بوجهي وعرفت انه مكلف بأن يكون في استقبال جلالتها، تقدمت امرأة بحجابها نحو السيد وهمست له بقول وقدرت ان من كان خلفها من بقية أولئك النسوة هي جلالة الملكة على وجه التحديد لان خطاها كانت بطيئة واهنة، وأما الاخريات وكن خلفها ووجدت ان السيد حسن قد اغلق باب المرقد الحيدري الشريف بعذر او بحجة تنظيفه، ووقفت انا خارج الرواق المؤدي الى باب المرقد الشريف، وتركت سائق سيارة الجيب في حراسة السيارتين الملكيتين مع سائقهما اللذان كانت الاوامر تقتضي ان لا يتركا سيارتيهما.
تمت الزيارة بيسر ولم يشعر احد بوجود الملكة.

   
في هذه المرة خاطرت وتقدمت الموكب وسرت به داخل السوق الكبير باتجاه الميدان مباشرة دون الالتفاف على طريق السور الذي قدمت عليه وسط استغراب وتعجب من شاهد ذلك الموكب، سيارة الجيب العائدة للشرطة وخلفها سيارتين متشابهتين لا أحد يعرف من في داخلها، وكان المتبع ان لا تدخل أية سيارة السوق لضيقه وكثرة رواده مهما علا مقام راكبها، حتى ان جلالة الملك عبدالله ملك الاردن رغب ان ينزل في ساحة الميدان ويدخل السوق ثم الصحن الشريف مشياً على قدميه وأظنه بل وأنه أمر مؤكد بانه كان يريد اجلال صاحب المرقد. وحسب الاوامر التي بُلّغتُ بها وصلت بالموكب الى دار الاستراحة الملكية بالكوفة وكأن خدم وعمال القصر كانوا مبلغين بقدوم ضيف لأن المدخل الرئيسي كان مفتوحا والقصر مهيأ للاستقبال.

         


اتخذت لي مجلسا غرفة آمر مخفر الشرطة الذي في باب القصر بانتظار مايصدر لي من اوامر، بعد حوالي ساعة تقريبا جاء من اخبرني بأن الست ملوك تنتظرني، تبعت من اوصلني الى الغرفة التي كانت تقف بها تلك الست ولم تكن بتلك التحفظات التي سبق ذكرها مع حشمة في الملبس ودبلوماسية في الكلام غير مألوفة لنا نحن عامة الناس. قالت لي ان جلالة الملكة تشكرك على الجهد الذي بذلته وبدأت تفتح حقيبة صغيرة بيدها واخرجت ورقة من العملة النقدية لا اعرف والله حتى الآن مقدارها، وقبل ان تنطق الست ملوك بكلمة قلت لها انها فرصة عظيمة أن أكون في خدمة جلالة الملكة الوالدة وسوف لن اقبل أجورا مهما بلغت عن هذه الواجب الجليل.
إستجابت لطلبي واعادت ورقة العملة الى حقيبتها، واستأذنت وانصرفت. تملكني الفضول لمشاهدة الملكة لأنه كان مشاعاً بين العامة، انها مريضة وانها كما شاهدتها في مشيتها اثناء تأدية مراسم الزيارة واهنة وتكاد تتكئ على الست ملوك وملوك ملتصقة بها ولكني في الحقيقة لم أوفق لمشاهدتها إلا بتلك الهيئة لان ذلك يتطلب مني العودة الى ممرات القصر وهذا يعني تلصص لم أمارسه في حياتي في أمور اعتيادية، فكيف وأنا في هذا الواجب الملكي الجليل،  نعم كان للملك فيصل الاول وابنائه واسرته منزلة تكاد تكون مقدسة في نفوس عموم الشعب العراقي، أذكر ذلك لأن ذلك الشعور كان يتملكني ولايزال. اخذت قسطا من الراحة على سرير في المخفر المذكور، وفي الساعة التاسعة جاء من أيقظني لكي ادخل القصر واتناول عشائي وفعلا ذهبت خلف من دعاني ووجدت مائدة عليها الكثير من الطعام واستأذنت ذلك الرجل باستدعاء السائق الذي كان معي لانه سيكون جائعا مثلي تماما، اما بقية افراد شرطة المخفر فالعادة ان يأتيهم الخدم أو الطباخون بنصيبهم حيث يكون تواجدهم على باب القصر في مثل تلك المناسبات.

 في الصباح الباكر هيأت نفسي للقيام بآخر مرحلة من ذلك الواجب حسب الاوامر الصادرة لي، ركبت النسوة في السيارتين وتقدمتهما بالسيارة الجيب ولكن هذه المرة عبر الفرات على جسر خشبي واتجهت بهم نحو مدينة الحلة، وقبل ان أصل مشارفها، وجدت جمعاً كبيراً من الرجال يقفون على جانب الطريق، وقدرت أن لا بد وأن يكونوا هم المكلفون باستقبال جلالة الملكة، لأن الاوامر التي بلغت لي ليلا ان أصل بالموكب حيث أسلمه الى متصرف لواء الحلة، ولأني لا أعرف الرجل، فقد توجهت الى مدير الشرطة مستدلا عليه من هيئته الرسمية، وبعد أن اديت له التحية تركني وانشغل مع المتصرف بمراسيم الاستقبال، وفي تلك الايام لا توجد مكائد تنصب ولا سيارات مُلغمة تفجر، أديت التحية الى مدير الشرطة، وقلت سيدي هل انتهت مهمتي قال نعم ورجعت الى الكوفة ومنها الى النجف ولم اذهب الى بغداد لاداء الواجب الأُسري الخاص الذي كنت اعددت نفسي له، ولم أشاهد الملكة كما كنت ارغب،

  

                              تشييع الملكة عالية

وقد توفيت بعد أشهر من ذلك اليوم، ولم يكن لموتها ذلك الوقع الاليم الذي صاحب وفاة عمها الملك المؤسس فيصل الاول، ولا لما كان لزوجها الملك غازي، حبيب الشعب، ولا لمقتل ابنها الملك فيصل الثاني في ذلك الانقلاب العسكري الاهوج.
ومن حزن وتألم لمقتله مارس ذلك سرا ًإلا ضابط شرطة اسمه لطفي مظهور من ابناء بلدتي أقام له مأتما في الكوت اثناء عمله في شرطتها، وتلك حكاية ربما جاءت مناسبة وعدت إليها.


      

ليلة القبض على محسن الرعيدي
بقلم: شاكر العاني
ومحسن الرعيدي بطقجي وشقاوه بامتياز وقبل أن أحكي ليلته أذكر شيئا عن كيفية تشكيل هذه الصفة البطقجي كسلوك يتعاطاه بعض الشباب في تلك الايام ثم اذكر شيئا عن بطل حكايتي هذه محسن ولماذا لقب بالرعيدي.

        

من غير المعلوم لكثير من القراء انه كان يستخدم الترامواي كواسطة لنقل للركاب بين النجف الاشرف والكوفة ، ويسمى محليا كَاري تجرّه الخيول، ركبت فيه ذات مرة عام 1948 عندما ذهبت من العمارة الى النجف في أحد الواجبات الشرطوية، وعندما عملت في شرطة النجف عام 1953 كان قد ابطل استعماله ورفعت القضبان ولم اجد اثرا لعرباته وحل محله سيارات اخذت نفس المكان وسمي الشارع الذي تتجمع فيه لنقل الركاب الى الكوفة شارع الكوفة..

         

وكان مثل هذا الگاري موجوداً في بغداد ينقل الركاب بين بغداد والكاظمية ،وكنت أتعلق على احد جوانبه مقلداً زملائي طلاب المدارس البغداديين، لاقطع بعض المسافة بين المدرسة والمحلة التي يقع فيها بيت الاسرة في سوق حمادة ومن المعلوم ان الراكب الذي يستعمل هذه الواسطة الكَاري عليه ان يقطع بطاقة مقابل اجرة نقله وعرب هذا الاسم واصبحت تسمى تذكرة تستعمل الان في جميع وسائط النقل البرية والجوية والبحرية.
وللتعريف بـ البطقجي فانه ذلك الراكب الذي يتهرب من دفع قيمة البطاقة ويركب الكَاري دون دفع اجرة، وتوسع استعمال هذه الصفة واصبحت تشغل فئة صغيرة من الشباب النجفي الذين يركبون الكَاري ولا يدفعون الاجرة، ويشترون ولا يدفعون الثمن، والاوسع من هذه الفئة يعيشون على جهد غيرهم، ومن بينهم بعض أبناء الاسر القادرة الذين لا يمارسون عمل معتمدين على مدخولات اسرهم.
فان سُئِلَ أحدهم عن عمل شاب يأتي الجواب بأنه ليس له عمل بل يكون الجواب الحاضر بطقجي .
ومحسن صاحب هذه الحكاية ليس من اسرة غنية او متوسطة الحال وعندما حققت معه عرفت ان ليس له اسرة وانما له شقيقة هي التي تحنو عليه وتسأل عن اخباره اذا وقع في مأزق وتأويه اذا ما طورد من قبل اصحابه او الشرطة..
ومحسن يعيش على الابتزاز يهدد ويعربد ويلعب القمار ويطلق النار من مسدس قديم (برابلك) من مخلفات الجيش العثماني اذا خسر في لعبة القمار ويسترد خسارته، ولهذا فبالامكان وصفه بالشقاوة (البلطجي)، ايضا ولكن اصحابه أضافوا الى اسمه الرعيدي من الرعد الذي يهز الارض اذا انطلق من السماء ومحسن اذا زمجر فإن صوته وحركاته تشبه الرعد

    

                                احدى محلات مدينة النجف الأشرف

وبعد هذا التعريف او المقاربة التي ارجو ان لا تكون مملة أحكي لكم حكاية ليلة القبض على محسن معتمدا على ذاكرتي.
لقد استلمت مع ما استلمته من مأمور مركز شرطة النجف الذي نقلت مكانه عدة اوراق تحقيقية معها أوامر قبض على محسن الرعيدي وآخرين عجزت الشرطة عن تنفيذها بسبب ضيق ازقة النجف القديمة ولتلاصق المنازل بحيث يتمكن الهارب من القفز فوق تلك الأزقة ويتنقل من سطح منزل الى اخر والقانون والوضع الاجتماعي يمنع رجال الشرطة من المطاردة سيما وان اكثر بيوت البلدة القديمة لرجال دين واسر اخرى لها مكانتها واحترامها لذلك بقيت تلك الاوامر دون تنفيذ.
ووجدت نفسي اعجز منهم انا المقبل الجديد الى هذا البلد المقدس، ذلك انني لم ابدأ بملاحقته وكنت اتمنى ان يكفيني شره إلا ان المجتمع النجفي سيما سكان البلدة القديمة داخل السور قد ضجوا من تصرفاته وامثاله، وجاءت المناسبة.
لقد قضيت يوما عصيبا في واجب شرطوي اوجزه ان صَفّار من أهل البلدة اعتدى بالضرب على رجل من اهل البادية قصد السوق الكبير للتسوق ولان لاهل النجف التجار واصحاب الحرف علاقة مع اهل البادية لصالح النجفيين، فقد تولى القائممقام المرحوم لطفي علي إدارة المشكلة، لان رد فعل اهل ألبادية سيكون شديدا قد يصل الى التعدي بالسلاح الناري انتقاما لما وقع لهذا الرجل وربما منع أي نجفي من الوصول الى مضاربهم في البادية وكان اشهرها كم ابن تركي والذي وقع الاعتــداء على فرد من بيت الشيخ.
انتهت المشكلة بالنسبة لي لان امنت خروج جماعة البدو وسلاحهم وكانوا خمسة رجال باتجاه مضاربهم وحصلت على قرار قضائي بتوقيف المعتدي وحسبت ان ذلك قد هدأ من غضب أولئك البدو، وتلك حكاية اخرى اتركها لوقت اخر واعود الى حكاية محسن الرعيدي.
كنت على موعد مع المرحوم السيد سعيد كمونة تلبية لدعوة من المهندس البريطاني المقيم في مشروع جديد لماء الشرب لمدينة النجف الاشرف وسعيد من السادة آل كمونة النجفيين وليس من الافاضل آل كمونة شيوخ مدينة كربلاء انذاك، وما ان كنت في ساحة بيت ذلك المهندس حتى وصلني نداء تلفوني من مفوض خفر مركز شرطة النجف حميد رحمه الله الذي قتل في احد المظاهرات التي يتكرر حدوثها في تلك السنين ولانه حديث العمل بالنجف وقدراته المهنية محدودة فقد كنت اتابع ما يلقى عليه من واجبات ومن ذلك اخبره بالمكان الذي اتواجد فيه في الليل.
اخبرني المفوض حميد ان سعادة القائممقام يطلب حضوري الى المركز فورا.
سألته ان كان يعرف السبب؟
اجاب لا ادري، بس الدنيا مقلوبة!!!
دق جرس التلفون هذه المرة في غرفتي في المركز ورفعت السماعة وكان على الطرف الثاني سعادة القائممقام المرحوم لطفي علي ما وجدت في رحلتي الحياتية كرجل شرطة ومحامي رجل ذو حزم مع دهاء مثل ذلك الرجل بالرغم من عدم حصوله على شهادة دراسية.

             

                   مفوض شرطة وأثنان من الأفراد

طلب مني ان احضر الى مسكنه وذهبت بسيارة الجيب اسوقها ووجدته يقف بباب الدار. اديت التحية وقلت بيك انا حاضر.
قال ان مجرما اطلق النار على بيت ابو كلل ، وجرح طفلا وقطع التيار الكهربائي عن المنطقة واضاف بصيغة الأمر لا تعود الى المركز إلا وهذا المجرم معك وتحضره أمامي.
لم يذكر احدا في جميع هذه الندائات واللقائات اسم ذلك المجرم الذي يطلب القائممقام احضاره امامه، اصطحبت شرطي واحد وبنفس السيارة توجهت الى الدرعية المكان الذي تسكنه اسرة البو كلل ، واستأذن القارئ الخروج عن النص واحاول ان ازيل مايخطر بباله عن مصدر التسميتين الدرعية والبو كلل.

             


فالدرعية الاولى اسم علم لمدينة في الجزيرة العربية اتخذتها الاسرة السعودية عاصمة لدولتها الاولى وهدمها العثمانيون بجيش قاده ابراهيم باشا ابن والي مصر محمد علي باشا وجيش اخر قاده والي البصرة والتقيا هناك وأسقطا الدولة السعودية، هدموا الدرعية على اخر حجر فيها وابيدت الاسرة السعودية ولم ينج منها الى واحد هو الشيخ ثم الامير ثم السلطان ثم الملك عبد العزيز آل سعود مؤسس الدولة السعودية الثانية رحمه الله وكم اتمنى ان يقرأ سادتنا وكبرائنا التاريخ الحديث لهذه المنطقة، واقتداءا بهذا الاسم ولقوة حصون الدرعية الاولى سمى العثمانيون هذا الحصن الذي يقع عند ملتقى السور الغربي والجنوبي لمدينة النجف ويتحكم قتاليا بمساحة الارض المفتوحة امامه بحر النجف وما يليه من الصحراء وبسلاح مدفع واحد او مدفعين تمكن اهل النجف او الجيش العثماني من صد هجمات البدو ثم الوهابيين عن المدينة على عكس ما كان لمدينة كربلاء غير المحصنة فقد احتلها الوهابيون لاكثر من مرة.
اما البو كُلل، فألبو وحدها تعني آل أو بيت أما الكلل فهي الكرات الحديدية او البرونزية التي تحشى بها المدافع مع البارود لتطلق على الاعداء وكانت هذه الاسرة البو كلل هي التي تصنع تلك الكرات وزعيمهم يومها الحاج عطية وله من الاولاد تركي وكردي وعجمي وهندي، وهندي وصل الى درجة عقيد بالجيش ثم نقلت خدماته الى الشرطة واما كردي فكان مختار لمحلة العمارة وهذا ما كان سبب اهتمام القائممقام بذلك التعدي الذي وقع على تلك الاسرة التي لها مكانتها الاجتماعية سيما وان الحكومة مقبلة على انتخابات نيابية وتريد تجميع مؤيدين لمرشحيها السيد عطية السيد سلمان.

    

                                                        لوحتان لمدينة النجف الأشرف     

وصلت الدرعية بسيارتي الجيب وتبين لي الاتي:
ان الذي اطلق النار هو محسن الرعيدي بعد ان خسر في لعبة قمار في مقهى كوني التي تقع في اسفل الحصن وانه حقيقة تسبب في قطع التيار الكهربائي وان ما قيل عن جرح احد الاطفال فلم يكن صحيحا لاني طلبت مشاهدته لارساله الى الطبيب ورفض اهله وتبين انه مصاب بالحمى وافزعه صوت اطلاقات النار من مسدس الرعيدي. كانت ساحة تعقيبي لمحسن الذي طلب مني القائممقام ان لا اعود إلا وهو معي وعرة متمثلة في معامل الدباغة الموجودة اسفل السور وبيوت عشوائية للعمال ولم يدر بخللي ان محسن سيتجاوز هذه المنطقة ويدخل منازل البو عامر الكائنة على الجهة الشرقية من سفح مرتفع اقيمت عليه مدينة النجف، والنجف كما هو معلوم لغويا هو المكان المرتفع المعلق فلذلك سميت الفوانيس الكبيرة التي تعلق في السقوف نجفات ولكن صوت الاطلاقات قد وجهني الى منازل البو عامر لقد صحبني في هذا الواجب عريف مخفر شرطة الدرعية الذي يعرف مسالك الطرق، وعم الظلام في امكنة وضياء مبعثر لانارة تلك البيوت.
بقينا نفتش ونتبع صوت الاطلاقات حتى كادت شمس صباح اليوم التالي تشرق علينا واصبحنا الى جوار محلة البربر وهم جماعة من الافغان تتخذ مساكن لها على طريق المدينة المنورة وهو حقيقة الطريق الذي يسلكه الحجاج في ذهابهم الى بيت الله الحرام، وهؤلاء البربر من الافغان معروفين بشدة البأس لا يدخل احد محلتهم إلا نهارا وجهرا لحاجة متعلقة بعملهم حياكة الشعر تقام منها بيوت البدو قبل استعمال الانسجة الأخرى واخرها البلاستيكية، ولم يخطر ببالي ان محسن سيتجرأ او يتمكن دخول هذه المحلة لانهم يقومون على حراسة أنفسهم بانفسهم ولم تقع أي جريمة سرقة او تعدي وما شابه بينهم او في مساكنهم، وعند نموم الصباح بدأت أفكر بمصيري عندما اعود الى عملي وليس معي محسن الرعيدي، بلغ مني التعب والسهر والرجال الذين معي ما جعلني اتوجه الى مخفر الشرطة ويسمى مخفر شرطة الامير غازي في منطقة الجديدة وهذا الاسم اعطي للمحلة الجديدة التي سكنها من خرج من اهل البلدة والمقيمين خارج سور النجف.
لقد كان نسيم الصباح يغري بالنوم فتمددت على فراش احد أفراد الشرطة وتركت لاصحابي حرية العودة والتصرف بالساعات الباقية حتى بداية الدوام.
لم اكد اذهب في نومي حتى سمعت لقطاً أمام باب المركز وحقيقة كان بربرة خليط من لغة عربية ولغة اجنبية ولم اهتم لذلك ولكن فضول الواجب دفعني لاستطلاع سبب تلك البربرة، اخبرني عريف المخبر ان البربر امسكوا بـ حرامي دخل الى محلتهم وحقيقة وبعد مضي هذه السنين الطويلة اقر بانه لم يخطر ببالي ان هذا المقبوض عليه هو محسن الرعيدي الذي اعقبه واريد القبض عليه وان مصيري في هذه البلدة او نقلي الى ناحية شفاثة عين التمر مرهون بالقبض عليه وعندما تذكر شفاثة يقرن بها ليس فيها عافية لانها مبتلاة بمرض الملاريا.

   

                                                               مسدس قديم


نهضت من مكاني وطلبت من عريف المخفر احضار المقبوض عليه من قبل البربر حيث جلست واحضره ومعه مسدس برابلك عند ذلك أدركت ان هذا هو صيدي، سألته عن اسمه ولم ينكر واصطحبته وعدت الى المركز مشيا على قدمي مع حارس معه وما ان وصلت المركز وكان السابلة قد ملأت الشوارع وشاهدت هذا المنظر مأمور المركز ومعه شخص مكبل ومحروس من شرطة وسرعان ما انتشر خبر القبض على محسن الرعيدي والذي قبض عليه هو مأمور المركز شاكر العاني ومنحت لقبا من اهل البلدة مقرون بالدرعية واذا ارادوا تمييزي عن شاكر اخر قيل شاكر درعية وهكذا جعلني محسن الرعيدي بطلا دون ارادتي.
وإلى لقاء في حلقات أخرى وذكريات جميلة

            

الگاردينيا: كل الشكر للأستاذ الدكتور/أكرم المشهداني على هذه المادة التأريخية الرائعة ....

ملاحظة: صور الشرطة وسيارة الشرطة والهاتف من تصميم المجلة والمفوض ليس كاتب المادة.. للعلم فقط

   

           

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

464 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع