الشرق الأوسط:شوقي بزيع:قد تكون علاقة الشاعر العراقي بدر شاكر السياب بالمرأة والحب واحدةً من أكثر العلاقات الإنسانية صلةً بالمرارة والخيبة، والشغف المجهض بالآخر المعشوق. والواقع أن نظرةً متأنيةً إلى سيرة السياب ونتاجه الشعري لا بد أن تقودنا إلى الاستنتاج بأن ما وسم حياته العاطفية بطابع التعقيد والاختلال كان يعود إلى تكوينه الريفي الرومانسي، وإلى يتمه المبكر وافتقاره إلى الحنان الأمومي. إضافة إلى عوامل أخرى بينها افتقاره للوسامة، والتعارض القائم بين إحساسه المرير برفض النساء له، والأنا المزهوة بمكانتها العالية على المستوى الإبداعي.
على أن القارئ المتعمق في تجربة السياب العاطفية لا بد له أن يلاحظ نوعاً من التشابك الضدي الذي يحكم علاقته بالمرأة، ويتوزع بين وجهين للأنوثة، أحدهما شهواني والآخر طهراني. فبموازاة القصائد الرومانسية المبكرة التي تقدم صورة للمرأة ناضحة بالنقاء الأمومي والبراءة البتولية، ثمة نصوص أخرى تظهرها في صورة المكر والمخاتلة والفساد الروحي، وصولاً إلى الفسق والبغاء والمتاجرة بالجسد. وقد ظهر التشابك بين الرؤيتين على نحو واضح في الملحمة الطويلة «بين الروح والجسد»، التي اتخذت شكل حوار شائك بين شاعر الروح وشاعر الشهوة.
كما أن ثنائية الجسدي والروحي تجد تعبيراتها وظلالها المختلفة عبر توزع السياب الصعب بين القرية والمدينة، وهو الذي رأى في الأولى حنينه الأبدي إلى مساقط الإلهام والبراءة الأمومية، في حين أنه رأى في الثانية مكاناً لتزييف القيم وقتل البراءة الإنسانية. وقد انشطرت صور المرأة ووجوهها لدى صاحب «أنشودة المطر»، بين الملامح الطيفية لنساء ريفيات مستبعدات الجسد ورهينات الأحلام، ونساء مدينيات منزوعات الروح، ومصنوعات من اللحم الخالص.
الأرجح أن تصورات الشاعر الرومانسية عن المرأة قد ضاعف من منسوبها الجمال الفريد لقريته الصغيرة جيكور، كما لمنطقة أبي الخصيب الواقعة في جنوب العراق، والمظللة بأعداد لا تُحصى من أشجار النخيل. إضافة إلى الرغبة الدفينة واللاواعية في تحويل الحبيبة المنشودة إلى نسخة معدلة عن الأم الغائبة، بكل ما تجسده من حنان بالغ ومثالية أخلاقية.
ومع ذلك، فإذا كان بالأمر اليسير العثور على ما يؤكد لوعة السياب وصدقه البالغ في حبه للمرأة، فإن من الصعوبة بمكان الوقوف على نموذج لهذا الحب، مكتمل الصفات وواضح المعالم. فنحن نجد أنفسنا إزاء عشرات القصائد والمقطوعات التي خص بها الشاعر حبيبات كثيرات تراءى له أنه وقع في غرامهن، في حين أنهن يظهرن من خلال شعره أقرب إلى «قصاصات» معشوقات متداخلات الوجوه والأطياف والأسماء.
وفي تقديمه المطول لديوان السياب، يعدد ناجي علوش بعضاً من أسماء الفتيات اللواتي تعلق بهن الشاعر في مطالع شبابه، ولم يظفر منهن بغير المخاتلة والإشفاق والكلام المعسول. وإذ نتعرف من بين تلك الأسماء إلى لميا ولميعة ولبيبة ووفيقة، فالملاحظ أن الأخيرة احتلت منزلة استثنائية في قلب السياب، وهو الذي حوّل شباك منزلها المجاور لمنزله، إلى شباك كوني لتبادل النظرات بين عشاق الأرض بأسرها. حتى إذا قضت الفتاة نحبها إثر مرض داهم، ظلت أطيافها الزفافية المتجولة في حدائق الموت، تطارد الشاعر في حله وترحاله، فكتب في أوج حنينه إليها:
لوفيقة
في ظلام العالم السفليّ حقلُ
فيه مما يزرع الموتى حديقة
يلتقي في جوها صبحٌ وليلُ
وخيالٌ وحقيقة
أما لميعة التي التقى بها السياب في دار المعلمين العليا في بغداد، وكتب لها العديد من القصائد، فلم تكن سوى الشاعرة العراقية لميعة عباس عمارة، ذات الجمال اللافت والحضور الجريء. ومع أن لميعة أقرت بإعجابها ببدر وملاطفتها له، فإنها اعترفت بأن ما جمعها بالشاعر ظل محصوراً في نطاق الشعر والثقافة والأدب. وهي إذ أكدت على عدم مبادلتها الشاعر الأحاسيس نفسها والحب إياه، لم تنكر حرصها كأنثى على أن تكون عروسة أحلامه وملهمته الأثيرة. ويبدو أنها نجحت في ذلك، بدليل رسوخها في قلبه وذكره لها بالاسم في قوله:
ذكرتكِ يا لميعة والدجى ليلٌ وأمطارُ
ذكرتُ الطلعة السمراءْ
ذكرتُ يديك ترتجفان من فرَقٍ ومن بردِ
تنزُّ به صحارى للفراق تسوطها الأنواءْ
وحيث بدت إقبال من ناحيتها أشبه بحبل النجاة الأخير الذي مُدّ للسياب في أوج وحشته ومعاناته العاطفية، فقد كانت مسارعته إلى الزواج منها نوعاً من التعبير الملموس عن خشيته من تبديل رأيها بشأنه، وتنضم إلى كوكبة نسائه المفقودات. والأدل على ذلك قوله:
وما من عادتي نكران ماضيّ الذي كانا
ولكنْ، كلّ من أحببتُ قبلكِ ما أحبوني
ولا عطفوا عليّ، عشقتُ سبعاً كنّ أحيانا
ترفُّ شعورهنّ عليّ، تحملني إلى الصينِ
أما الوجه الآخر للمرأة عند السياب، فقد ولد من أحشاء التضافر الرمزي بين صورة المدينة الموبوءة، والأنوثة المجردة من الروح. فهو إذ رأى بغداد في صورة عامورة الجديدة والكابوس والمبغى الكبير، كادت نماذجه الأنثوية المدينية أن تقتصر على صور النساء الشهوانيات والمومسات وفتيات المواخير.
ولعل في بعض نصوص السياب ما يشير إلى فشله في إقامة علاقات جسدية تُذكر مع حبيباته «البخيلات»، واقتصار هذه العلاقات على بائعات الهوى السخيات بالعطاء، الأمر الذي يظهره قوله عن إحداهن «ضممتُ منها جثة بيضاءَ، تكفنتْ من داخلٍ، وقبرها في جوفها تناءى».
ومع أن مثل هذه النصوص تستند إلى تجربة بدر القاسية مع المرأة فهي قد كُتبت، بتأثير واضح من التجارب المماثلة لبودلير وإلياس أبو شبكة وآخرين. وإذ تعكس مطولة بدر الشهيرة «المومس العمياء» ما يتصل بانتمائه الآيديولوجي الماركسي، وهو الذي عدَّ بائعات الهوى مجرد ضحايا بائسات لمجتمعات القهر والإفقار وغياب العدالة، فإن في القصيدة ملامسة واضحة لمكبوتات الشاعر ومعاناته وهواماته، بما حولها إلى متحف هائل للكوابيس والرغبات الجحيمية الشهوانية، وصديد الأجساد، والرموز الدالة على التمزق الإنساني.
وإذا كان تركيز الشاعر على معاناة المرأة المومس يمنحه وهو المريض المستوحش والمتعطش إلى الحياة، ما يسميه باشلار «متعة التجانس»، فإن في جعلها عمياء ما يعكس نوعاً من النزوع السادي المضمر للانتقام من الجسد الأنثوي، عبر إطفائه بالكامل، أو مساواة ظلمته بالقبر، الذي كان السياب يقيم على مقربة منه. لا بل إن بدراً كان يرى في صورة «سليمة» العمياء والمحطمة انعكاساً لجسده الواهن و«الأعمى» والأقرب إلى الحطام:
شفتاكِ عاريةٌ وخدُّكِ ليس خدَّكِ يا سليمة
ماذا تخلَّف منكِ فيكِ سوى الجراحات القديمة؟
أن يعجز الإنسان عن أن يستجير من الشقاء
حتى بوهمٍ أو برؤيا، أن يعيش بلا رجاءْ
أوليس ذاك هو الجحيم؟
الأرجح أن ارتباط السياب الزوجي بإقبال هو الذي أعاد إليه بعض اعتباره لنفسه وأعاد لعلاقته بالمرأة شيئاً من توازنها المفقود
الأرجح أن ارتباط السياب الزوجي بإقبال، هو الذي أعاد إليه بعض اعتباره لنفسه، وأعاد لعلاقته بالمرأة شيئاً من توازنها المفقود. ومع أن حياتهما الزوجية كانت مشوبة بالكثير من التوترات، بفعل الطبيعة الرتيبة للمؤسسة، إضافة إلى الفروق الثقافية الواسعة بين الطرفين، فإن بدر وجد فيها الخيار الوحيد الممكن، في ظل التردي المتمادي لأوضاعه الصحية والنفسية والمادية. اللافت أن السياب الذي يعلن في لحظة انفعال غاضب «ولولا زوجتي ومزاجها الفوار لم تنهدّ أعصابي»، هو نفسه الذي ينتظرها مرات كثيرة بفارغ الصبر، والذي يهديها قصيدته «وغداً سألقاها»، التي تعدّ واحدة من أكثر القصائد جرأة و«إباحية » في الشعر العربي الحديث.
وكما أسهمت إقبال في إرساء نوع من المصالحة الرمزية بين جسد الشاعر وروحه، فقد أكسبها السياب رمزية إضافية عبر مماهاتها بالتراب الأم، بخاصة في فترات ابتعاده عن العراق، منفياً أو باحثاً عن علاج، ليخاطبها في قصيدته «غريب على الخليج» قائلاً:
أحببتُ فيكِ عراق روحي أو حببتكِ أنتِ فيهْ
لو جئتِ في البلد الغريب إليّ ما كمل اللقاءْ
الملتقى بكِ والعراقُ على يديَّ هو اللقاءْ
وإذا كانت علاقة السياب أخيراً بالمرأة والحب والحياة أشبه بسلسلة متصلة من المفارقات، فإن من بين أكثر المفارقات غرابة، أن يقف الشاعر من الشعر الذي كتبه موقف الغيور الحاسد. فهو إذ قارن بين تهافت النساء على تلقف قصائده بوجيب القلوب، وبين تلهفه الخائب إلى امرأة تبادله الحب الحقيقي، لم يلبث أن هتف من أعماق حرقته:
يا ليتني أصبحتُ ديواني لأفرّ من صدرٍ إلى ثانِ
قد بتُّ من حسدٍ أقول له: يا ليت من تهواكَ تهواني
ألك الكؤوس ولي ثمالتها ولك الخلود وإنني فانِ؟
695 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع