روسيا والقوقاز في قصة تولستوي "حجي مراد"

روسيا والقوقاز في قصة تولستوي "حجي مراد"

تتناول القصة إحدى حلقات حرب القوقاز، التي استمرت من عام 1817 إلى عام 1864. وقد كانت أصعب مراحلها خلال الأعوام 1834 - 1859

‏صورة نادرة للإمام شامل الداغستاني الذي قاد ثورة مسلمي القوقاز ضد الروس لعدة أعوام في منتصف القرن التاسع عشر الميلادي، تم أسره وبعد إطلاق سراحه هاجر إلى المدينة المنورة وعاش فيها حتى وفاته ودفن في البقيع.

عندما قاد المقاومة ضد القوات الروسية الإمام شامل، الذي أعلن نفسه حاكماً على أراضي الشيشان وداغستان. في هذا الوقت، لم تحقق جميع هجمات القوات الروسية النتيجة المرجوة. ولم يحدث اختراق هام في العمليات العسكرية إلا بعد أن وقع الإمام شامل في الأسر.

حاجي مراد الداغستاني.. مقاوم الاحتلال الروسي الذي أطلقوا عليه لقب "الشيطان الاحمر" 

وتجدر الإشارة إلى أن حجي مراد هو شخصية تاريخية حقيقية وكان نائباً لشامل وذراعه اليمنى. وقد انتشرت هناك الأساطير حول شجاعته الفائقة. وكان تولستوي أثناء خدمته في القوقاز قد سمع عنه الكثير. ولهذا فقد استمد الكاتب موضوع قصته من أحداث واقعية عايشها أو سمع عنها أثناء خدمته في جبهة القوقاز مع بعض التعديلات اللازمة . فإن معظم الشخصيات كانت واقعية ويشهد عليها تاريخ المنطقة الحافل بالصراعات الدرامية.

يبدأ تولستوي قصته ببعض التأملات والأفكار المفعمة بالحكمة مشيراً إلى الأسباب التي دفعته لتأليف هذه القصة حيث يقول:

" كنت عائداً إلى المنزل عبر الحقول في منتصف الصيف. وقد جرت إزالة المروج وبدأ العمل للتو في حصد الجاودار.

وهناك جمعت باقة من الزهور المختلفة وتوجهت إلى المنزل فرأيت نبتة كاملة الازهرار من الصنف الذي نسميه "الأرقطيون " ... وخطر لي أن أقطف زهرة هذه النبتة فنزلت إلى الأخدود وشرعت في قطفها ... لكن الأمر كان بالغ الصعوبة... فبالإضافة إلى أن ساقها كانت توخزني من كل جانب، حتى من خلال المنديل الذي لففت به يدي، كانت الزهرة متشبثة بالأرض بقوة حيث أنني صارعتها خمس دقائق نازعاً أليافها واحدة واحدة. وحين تسنى لي قطفها في نهاية الأمر كانت ساقها قد تمزقت تماماً، وحتى الزهرة نفسها لم تعد تبدو بالنضارة والجمال اللذين كانت عليهما...
ندمت على أنني أهلكت عبثاً الزهرة، التي كانت جميلة في مكانها ورميتها. قلت لنفسي متذكراً ذلك الجهد الذي بذلته في قطف زهرة"الأرقطيون". ولكن يالقدرتها على الحياة وقوتها! كم حياتها غالية عليها، وكم استماتت في الدفاع عنها!".
كان الطريق المؤدي إلى المنزل يمر عبر حقل من الأرض السوداء المحروثة حديثاً. ولم يكن ممكناً رؤية نبتة أو عشبة واحدة في هذا الحقل الأسود الميت. وقلت لنفسي" أي كائن قاس مدمر هو الإنسان! وكم أهلك من شتى الكائنات الحية والنبات لكي يدعم حياته!...وخطر ببالي لا إرادياً أن أبحث عن شيء حي في هذا الحقل الأسود فوجدت أمامي على يمين الطريق شجيرة ولدى اقترابي منها عرفت أنها من نوع "الأرقطيون" أيضاً، الذي قطفت زهرته بصعوبة بالغة ورميتها".
كان لدى هذه الشجيرة ثلاثة أغصان وكان أحدها مقطوعاً وما تبقى منه يتدلى كاليد المقطوعة، وكان على كل من الغصنين الآخرين زهرة. وكانت الزهرتان حمراوين ذات يوم. اما الآن فهما سوداوان. وكان أحد الغصنين مكسوراً ونصفه متدلياً إلى أسفل مع زهرة متسخة في طرفه، أما الغصن الآخر فكان لا يزال منتصباً رغم أنه ملطخ بالوحل الأسود. وكان واضحاً أن عجلة عربة قد مرت فوق النبتة مراراً، ولكنها كانت تنتصب ثانية. ولهذا كانت مائلة، ولكن منتصبة رغم ذلك، كأنما اقتُلعت قطعة من جسدها، وانتُزعت أحشاؤها، وقُطعت يدها، لكنها ظلت واقفة ولم تستسلم للإنسان الذي يبيد جميع أخوته من حوله. قلت في نفسي :" يا لها من قدرة كبيرة! لقد انتصر الإنسان على كل شيء وأباد ملايين النباتات، فيما هذه النبتة لا تزال صامدة ولم تستسلم!".
وعند ذلك يتذكر تولستوي قصة قوقازية قديمة كان شاهداً على جزء منها وسمع جزءاً من شهود عيان وتصور ما تبقى . إنها قصة أحد كبار قادة انتفاضة الزعيم الداغستالي الإمام شامل النائب حجي مراد.

"الإمام شامل أمام القائد الأعلى الأمير أ. آي. بارياتينسكي، 25 أغسطس 1859"، لوحة للفنان أ.د. كيفشينكو، 1880

وينتقل تولستوي إلى سرد القصة حيث يبدأ بالحديث عن زيارة حجي مراد السرية مع مريده إيلدار لصديقه سادو في قرية"محكيت" ليطلب منه تأمين شخص مناسب من أجل إرساله مع خطاب إلى القائد الروسي في المنطقة الأمير سميون فورونتسوف نجل القائد العام ميخائيل فورونتسوف. وبعد أن عرف أهالي القرية عن وجوده اضطر حجي مراد على الفور إلى الهرب.
في تلك الليلة نفسها، حاول سكان قرية محكيت، التي زارها حجي مراد، اعتقاله من أجل تبرئة أنفسهم أمام شامل. ولكنه استطاع الإفلات من المطاردة واقتحم مع مريده إيلدار الغابة، حيث كان بقية المريدين ينتظرونه – الأفاري حنيفي والشيشاني حمزالو. وهنا يتوقع حجي مراد أن يستجيب الأمير فورونتسوف لاقتراحه بالخروج إلى الروس والبدء في القتال إلى جانبهم ضد شامل. إنه، كما هو الحال دائما، يؤمن بسعادته وأن كل شيء يسير هذه المرة على ما يرام، كما كان يحدث دائما من قبل.
في الصباح الباكر، خرجت سريتان من فوج كورينسكي لقطع الحطب. ويجتمع ضباط الفوج وهم يتناولون الخمر ويتحدثون عن وفاة الجنرال نيكولاي سليبتسوف مؤخراً في إحدى المعارك. وخلال هذه المحادثة، لا يرى أحد منهم الأمر الأكثر أهمية - نهاية حياة الإنسان وعودته إلى المصدر الذي جاء منه - ولكنهم لا يرون سوى الشجاعة العسكرية للجنرال الشاب. وأثناء خروج حجي مراد إلى الروس، أصاب الشيشان، الذين كانوا يلاحقونه، الجندي المرح أفدييف بجروح قاتلة؛ فيموت في المستشفى، دون أن يتوفر لديه الوقت لتلقي رسالة من والدته تبلغه فيها بأن زوجته غادرت المنزل نهائياً.
وعندما جاء مبعوث حجي مراد إلى الحصن الصغير، الذي يسكن فيه فورونتسوف، كان الأمير يجلس مع ضيوفه حول مائدة لعب الورق في غرفة الاستقبال. وقد أبلغ المبعوث أنه على استعداد لاستقبال حجي مراد كضيف وأنه سيفعل ما في صالحه.
ويأتي حجي مراد إلى قلعة فوجدفيجنسكايا ويعلن للروس أنه سلّم نفسه إلى مشيئة القيصر معرباً عن رغبته في خدمته ومشيراً إلى أنه أراد ذلك منذ وقت طويل ولكن الإمام شامل كان يمنعه. ويبتهج الأمير كثيراً لأن عدو روسيا الرئيسي الأقوى شكيمة والثاني بعد الإمام شامل قد استسلم له. ويشير تولستوي إلى أن الأمير قائد فوج كورينسكي " يعيش في أحد أفضل المنازل في القلعة مع زوجته ماريا فاسيليفنا ذات الجمال الفائق والمعروفة في المجتمع الراقي لمدينة سانت بطرسبرغ، ومعها ابنها الصغير من زوجها الأول. وعلى الرغم من أن حياة الأمير تذهل سكان القلعة القوقازية الصغيرة برفاهيتها، إلا أنه يبدو لأسرة فورونتسوف أنها تعاني من مصاعب كبيرة هنا".
جميع الروس الذين رأوا "ابن الجبال الرهيب" لأول مرة يندهشون من ابتسامته اللطيفة شبه الطفولية واحترامه لذاته وهدوئه أمام من حوله. وتبين أن استقبال الأمير فورونتسوف في قلعة فوجدفيجنسكايا كان أفضل مما توقعه حجي مراد؛ ومع ذلك فإنه لا يثق بالأمير ويطالب بإرساله إلى والده القائد العام ميخائيل فورونتسوف نفسه في تفليس.
تدور أحداث هذه القصة خلال العامين 1851-1852 في القوقاز، أثناء حرب الإمام شامل ضد القوات الروسية الغازية. فبعد أن تشاجر النائب مع رئيسه الإمام القاسي والرهيب الذي لا يرحم لإعلانه أن خليفته سيكون ابنه غازي محمد قرر حجي مراد اللجوء إلى الروس طلباً للمساعدة.
أصبحت مسألة تحول النائب حجي مراد إلى جانب الروس أساس القصة. تظهر صورة البطل الرئيسي تدريجياً فيها. من خلال رسم هذه الشخصية يلفت تولستوي الانتباه إلى أنه كان رجلاً "مثيراً للإعجاب" حيث كان الجميع يعرفون مآثره العسكرية وشجاعته المذهلة. وفي الوقت نفسه، كان هناك شيء طيب وطفولي في تعابير وجهه. وليس من قبيل المصادفة أن ماريا فورونتسوفا أحببت ابتسامته.
الموضوع الرئيسي للقصة هو المواجهة بين شعوب القوقاز والروس في القرن التاسع عشر. وعلى مثال الشخصية الرئيسية، يظهر تولستوي لا أخلاقية ونفاق الطبقة العليا الروسية. ويحتج الكاتب على السياسات الإمبريالية في القوقاز بطريقته الخاصة. البطل الرئيسي حجي مراد محارب شجاع وفارس مغوار ينتقل إلى صفوف الجانب الروسي لا لأنه خائن، ولكن لأن زملائه من رجال القبائل، مثل الإمام شامل، ليسوا أقل قسوة وفساداً. وإن كون الروس لم يثقوا به وقتلوه في نهاية المطاف يدل على أن طرفي الصراع يتصرفان بطرق معيبة للغاية، وأن الرجل الجدير الذي صورته القصة، للأسف، لا مكان له بينهم.
ويلاحق أتباع شامل حجي مراد، ويتم احتجازعائلته من قبل رجال الزعيم، ويهدد الإمام الرهيب بالتنكيل بها إذا لم يستسلم الحاج مراد. لكن الأمل في الحصول على مساعدة من الروس ليس له ما يبرره حيث لدى الروس مصالحهم الخاصة في هذه المنطقة فهم يراوغون ويسعون إلى استخدام حجي مراد، لكنهم لا يريدون المخاطرة بحياة جنودهم من أجله.
يعيش حجي مراد في مدينة تفليس بجورجيا، ويحضر حفلات المسرح وأمسيات الرقص، ولكنه يرفض في قرارة نفسه بشكل متزايد أسلوب حياة الروس. ويروي قصة حياته وعدائه للإمام شامل إلى ميخائيل لوريس- ميليكوف وهو الضابط المرافق للقائد فورونتسوف المعيّن لمراقبته. ويطلعه على سلسلة من جرائم القتل الوحشية االتي ترتكب وفق قانون الثأر وحق الأقوياء. يراقب لوريس- مليكوف أيضاً مريدي حجي مراد حيث يرى أن أحدهم، وهو حمزالو، لا يزال يعتبر شامل قديساً ويكره جميع الروس. أما الآخر وهو خان- محمه، فإنه خرج للروس فقط لأنه يلعب بسهولة بحياته وحياة الآخرين؛ ويمكنه العودة بكل بساطة إلى شامل في أي وقت. وبالنسبة لإيلدار وحنيفي فإنهما يطيعان حجي مراد دون أي تردد.
خلال الاجتماع في تفليس، يدرك فورونتسوف الأب تمام الإدراك أنه لا ينبغي أن يصدق كلمة واحدة من أقوال حجي مراد، لأنه سيظل دائماً عدواً لكل ما هو روسي، وهو الآن واقع تحت ضغط الظروف فقط. ويرى حجي مراد، بدوره، أن الأمير الماكر يعرف بواطنه حق المعرفة. وفي الوقت نفسه، يخبر كل منهما الآخر عكس ما يضمران تماماً بخصوص ما هو ضروري لنجاح المفاوضات. ويؤكد حجي مراد أنه سيخدم القيصر الروسي بإخلاص من أجل الانتقام من شامل، ويتعهد بأنه سيكون قادراً على إثارة داغستان بأكملها ضد الإمام. ولكن لهذا كان من الضروري أن يقوم الروس بدفع فدية الافراج عن عائلته من الاحتجاز أو عن طريق تبادل الأسرى. فهو بدون ذلك لا يستطيع أن يخدم الروس ويقضي على الإمام شامل كما هي رغبته. ويعده القائد العام بالتفكير في الأمر. وقد طلب حجي مراد مراراً إعطاءه رجالاً وأسلحة لمهاجمة الإمام شامل وإنقاذ أسرته المحتجزة، لكنه لم يلق أي جواب حازم من الروس.
وبينما كان حجي مراد في تفليس أصدر القيصر نيقولاي الأول أوامره لفورونتسوف بمهاجمة أهالي الجبال بشكل أكثر نشاطاً. وشرع القائد العام بتنفيذ أوامر القيصر في كانون 2/يناير عام 1852، بشن هجمات على قرى الشيشان. وقد شارك فيها أيضا الضابط الشاب بوتلر الذي تم نقله مؤخراً من وحدات الحرس. وكان قد ترك الحرس بسبب خسارته في القمار وهو الآن يستمتع بحياة جيدة وشجاعة في القوقاز، محاولًا الحفاظ على فكرته الرومانسية عن الحرب.
لكن الهجمات اللاحقة للروس على القرى الجبلية لم تسفر إلا عن انضمام أنصار جدد إلى قوات الإمام شامل. وقد أدى الهجوم الروسي على القرية الشيشانية محكيت إلى تدميرها. وهي نفس القرية، التي أمضى فيها حجي مراد الليلة عند صديقه سادو قبيل ذهابه إلى الروس.
ويصف الكاتب نتائج غارة القوات الروسية على القرية المذكورة فيشير قائلاً:" عند اقتراب الروس من القرية غادر سادو، الذي نزل حجي مراد في ضيافته، الجبال. وعند عودته وجد بيته مدمراً... أما ابنه – ذلك الصبي ذو العينين البراقتين، الذي كان ينظر إلى حجي مراد بإعجاب- فقد حُمل إلى المسجد ميتاً على ظهر حصان مُغطى ببُردة. كان قد طُعن في ظهره بحربة. وكانت المرأة الرزينة ، التي خدمت حجي مراد أثناء زيارته لهم تقف فوق جثمان ابنها، في قميص ممزق عند الصدر، وقد انكشف ثدياها الهرمان الذاويان، حاسرة الرأس، وهي تنشب أظافرها في وجهها حتى أدمته.
ومضى سادو حاملاً معولاً ومجرفة مع أقاربه ليحفر قبراً لابنه. وكان الجد العجوز جالساً عند جدار البيت الخرب يبري عوداً ناظراً قدامه في بلادة، فقد عاد من منحله للتو. وإن كومتي الدريس اللتين كانتا هناك أُحرقتا، وأشجار المشمش والكرز التي غرسها الكهل وتعهدها بالرعاية كُسرت وأحرقت، والأسوأ أن قفران النحل كذلك أحرقت مع النحل.
كان عويل النساء يُسمع من البيوت كلها، وفي ساحة القرية حيث جُلبت جثتان. وكان الأطفال الصغار يبكون مع بكاء أمهاتهم. وكانت الأبقار الجائعة أيضاً، التي لم يكن هنالك شيء لإطعامها تخور...والأولاد الأكبر سناً لم يكونوا يلعبون وإنما كانوا يرمقون الكبار بعيون ملؤُها الفزع. كما تم تلويث نبع الماء، حيث من الواضح أن ذلك جرى عمداً وبات من المتعذر جلب الماء منه، والمسجد ايضاً تم تدنيسه وتلطيخه بالقذارة. وكان الملا وتلاميذته ينظفونه من النجاسة...
تجمع شيوخ القرية في الساحة وراحوا يناقشون وضعهم، وهم جالسون القرفصاء. لم يأت أحد على ذكر كراهية الروس، فما كان يشعر به الشيشان جميعاً كبيرهم وصغيرهم، كان أقوى من الكراهية. لم يكن الكره ما يشعرون به، بل استقر في داخلهم أن الكلاب الروس ليسوا بشراً، وكان شعورهم بالنفور والقرف وعدم الفهم تجاه قسوة تلك المخلوقات الجنونية من الشدة بحيث كانت الرغبة في سحقهم، مثل الرغبة في سحق الجرذان والعناكب السامة والذئاب، شعوراً طبيعياً كغريزة حفظ الذات". (النسخة العربية- ترجمة هًفال يوسف).
لم تنجح المفاوضات بشأن فدية العائلة، التي يجريها الحاج مراد في الشيشان، فيعود إلى تفليس، ثم ينتقل إلى بلدة نوخا الصغيرة الواقعة في أذربيجان، على أمل انتزاع عائلته من شامل بالمكر أو القوة. وكان يحصل كراتب وهو في خدمة القيصر الروسي على خمس قطع ذهبية يوميا. لكن الآن، عندما يرى أن الروس ليسوا في عجلة من أمرهم لتحرير عائلته، يدرك أن خروجه إلى الروس كان بمثابة تحول رهيب في حياته. ويتذكر بشكل متزايد طفولته وأمه وجده وابنه. وأخيراً، يقرر الفرار إلى الجبال، واقتحام مدينة فيدينو مع الأشخاص المخلصين من أجل تحرير عائلته أو الموت.
ينتقل حجي مراد إلى قلعة غروزني. وهناك يُسمح له بإقامة علاقات مع سكان الجبال من خلال الجواسيس، لكنه لا يستطيع مغادرة القلعة إلا بمرافقة القوزاق. أما عائلته فهي محتجزة حالياً في قرية فيدينو بانتظار قرارالإمام شامل بشأن مصيرها. ويطلب الإمام أن يعود حجي مراد إليه قبل عطلة عيد الأضحى، وإلا فإنه يهدد بتوزيع النساء على القرى سبايا وبقتل ابنه يوسف أو جعله أعمى.
ويعيش حجي مراد مدة أسبوع في القلعة بمنزل الرائد بيتروف. وتظِهر زوجته ماريا دمترييفنا احترامها لحجي مراد، الذي يختلف سلوكه بشكل ملحوظ عن الوقاحة والسكر الشائعين بين ضباط الفوج. وتبدأ الصداقة بينه وبين الضابط بوتلر. ويبدي بوتلر إعجابه ب"عفوية الحياة الجبلية الخاصة المفعمة بالحيوية وسرعان ما يشهد بوتلر رد فعل حجي مراد على محاولة الأمير الكوميكي أرسلان خان الانتقام منه.
تتوطد أواصر الصداقة بين بوتلر وحجي مراد بقوة خلال الأسبوع المذكور. ويشير تولستوي بهذ الصدد قائلاً: " كان النائب يزوره في غرفته تارة، وتارة يذهب بوتلر إليه...كما تعرف بوتلر إلى حنيفي الأشعث .....وكان حنيفي يعرف الكثير من الأغاني الحبلية ويحسن أداءها. وكان حجي مراد، كي يفرح بوتلر يستدعي حنيفي ويطلب منه أن يغني مسمياً الأغاني، التي يراها جميلة. كان صوت حنيفي "تينور" عالي النغمة. وكان إنشاده معبراً وشديد الوضوح. وكانت أغنية يحبها حجي مراد بصورة خاصة قد أدهشت بوتلر بلحنها الشجي والحزين. فسأل بوتلر المترجم أن يخبره بمضمونها. فأشار إلى أنها تتعلق بموضوع الثأر...". وهكذا فإن شاعرية الحياة الجبلية المميزة والمثيرة استولت على قلب بوتلر بمجيء حجي مراد ومريديه وعيشه على مقربة منهم.
ويستمر قلق حجي مراد البالغ على عائلته، ويتصور بالفعل أنه من غير المرجح أن يرغب الروس في مساعدته. وفي هذه اللحظة، يتلقى رسالة من ابنه يوسف، يخبر الشاب فيها أن شامل ينوي إهانة أسرته، وقطع رأس يوسف إذا لم يعد النائب إليه. ويقرر حجي مراد من تلقاء نفسه إما استعادة أسرته أو الموت. وبعد أن جمع بعض أتباعه، يهرب البطل من الروس، ولكن في النهاية تجد الشرطة والقوزاق مخبأه. وفي معركة شرسة يشارك فيها هاجي آغا المختوليني، الذي انضم مع رجاله إلى الروس ومعه أحمد خان ابن عدو حجي مراد اللدود، يتسنى لهاجي قتل النائب المغضوب عليه كما يلقى حتفهم معظم رجاله. ثم يُقطع رأسه. وينقل الرأس المقطوع من جسده المشوه من حصن لآخر. وفي غروزني يُعرض على بوتلر وماريا دميترييفنا، وقد رأى كل منهما أن الشفاه الزرقاء لرأس الموت تحتفظ بتعبير طفولي لطيف. وصُدمت ماريا دميترييفنا بشكل خاص من قسوة "قاطعي الحياة" الذين قتلوا ضيفها الأخير ولم يدفنوا جسده.
حجي مراد ابن الجبال وهو رجل صادق وشجاع اعتاد على حل مشاكله بنفسه، دون التعويل على الآخرين حيث أنه لا يثق بأحد، ويعتمد فقط على قوة السلاح. ويهرب من الروس في نهاية المطاف ليحاول بمفرده، مع حفنة من الأشخاص الموالين له، إنقاذ عائلته. غير أنهم يلحقون به ويظهر حجي مراد أثناء المطاردة معجزات البطولة لكنه يموت في معركة عصبية.
لم يتعمق تولستوي في الجوهر السياسي للمريدية التي ترأسها الإمام شامل والتي التزم بها حجي مراد، ولجهله، إلى حد ما ، بالوضع التاريخي لم يستطع الخوض فيها، لكنه اهتم بشخصية حجي مراد بالمعنى الأخلاقي البحت - كشخص غير عادي، وكطبيعة أصلية ومتكاملة، يسعى بإصرار وثبات لتحقيق هدفه - الاستقلال الشخصي وخلاص عائلته الحبيبة من انتقام ألد أعدائه.
ومع ذلك، فإن حجي مراد يعاني ليس فقط من شامل. إنه ضحية لكل من الطاغية المتوج نيكولاي الأول ودائرته الداخلية، الذين يعتبرونه مجرد أداة في حساباتهم السياسية والذين لا يفعلون شيئاً لمساعدته في تحرير عائلته. تبين أن الحاج مراد كان مخدوعاً في حساباته، بعد أن وثق في القيصر الروسي. ففي نظر تولستوي، يرتبط نيكولاي الأول وشامل بالاستبداد المتأصل في كليهما. قال تولستوي بصدد هذه القصة: "ما يشغلني هنا ليس فقط حجي مراد بمصيره المأساوي، ولكن أيضاً التشابه الغريب للغاية بين الخصمين الرئيسيين في تلك الحقبة - شامل ونيكولاي" ، اللذين يمثلان معاً، كما كان الحال، قطبين من الاستبداد الآسيوي والأوروبي.
استمد الكاتب موضوع قصته من أحداث واقعية عايشها أو سمع عنها خلال خدمته في جبهة القوقاز مع بعض التعديلات اللازمة. ومما لا شك فيه أن معظم الشخصيات كانت واقعية يشهد عليها تاريخ المنطقة الحافل بالصراعات الدموية. يصور تولستوي ببراعة فائقة أوضاع الجيش الروسي في تلك الحقبة التاريخية حيث أن الجنود الصغار يموتون والضباط بمعظمهم لا يهتمون إلا بالقمار والسكر واختلاس المال العام والتغزل بزوجات بعضهم. أما البلد فيحكمه رجل متغطرس ومستبد وهو القيصر نيكولاي الأول.
ينبذ تولستوي في هذه القصة الشر والعنف والقسوة ويسعى إلى إفهام القارئ أن الحرب لا معنى لها وقاسية . فهي لا تجلب للناس إلا المعاناة والموت. وحتى أقوى الأشخاص في الحرب ليس بمقدورهم إلا أن يموتوا بشرف، دون أن يبدلوا أو يحققوا أي شيء.
إن التوسع المستمر للإمبراطورية الروسية طوال تاريخها، وسعيها الدؤوب إلى ضم الأراضي والشعوب والثقافات الجديدة لم يؤد إلى تعزيز جبروت البلاد فحسب، بل تمخض أيضاً عن ظهور مشاكل جديدة ذات طبيعة قومية وإثنية ثقافية. ففي هذا الصدد ظلت منطقة القوقاز دائماً منطقة صعبة الاندماج في الإمبراطورية الروسية وحضارتها، حيث جذبت انتباه العديد من الكتاب الروس بغرابتها، ومزيجها من الجمال البكر والقسوة البدائية تقريباً. وفي هذا السياق لم يستطع كاتب روسي عظيم مثل تولستوي أن يتجاهل موضوع القوقاز ولا سيما أنه خدم في الجيش الروسي هناك وتعرف بالتفصيل على حياة سكان الجبال وعاداتهم وتقاليدهم وفهم أسلوب حياتهم ونمط تفكيرهم . كما اطلع على الكثير من الكتب والأعمال حول هذه المنطقة.
تتصدر قصته “حجي مراد” أشهرمؤلفاته الأدبية إلى جانب "الحرب والسلام" و"آنا كارينينا" و"البعث". وهي رغم إيجازها تعد من أنضج أعماله فنياً وأكثرها استيفاء لمتطلبات الفن القصصي وأقربها إلى الكمال. ويظهر ذلك في قدرة الكاتب الفائقة على السرد السهل المتدفق والبراعة في تصوير المشاهد والسمات المميزة لشخصيات هذا العمل الأدبي القوقازية. ونصادف في القصة فكرة الحتمية التي تتضمنها رواية" الحرب والسلام".كما أنها لم تتطرق فقط إلى الصراع بين سلطات الإمبراطورية الروسية وشعوب القوقاز، وإنما تناولت أيضاً العلاقات الصعبة داخل مجتمع سكان الجبال نفسه.
تحكي لنا القصة عن شخصية تاريخية حقيقية - الآفاري حجي مراد، أحد قادة المتمردين المسلحين الذين، نشطوا في القوقاز من الثلاثينيات إلى الخمسينيات واشتهر بشجاعته ومهارته العسكرية. لقد غيّر موقفه عدة مرات، وقاتل إما لصالح الإمبراطورية الروسية أو ضدها، وقُتل في النهاية بعد أن ذهب للقتال مرة أخرى إلى جانب الروس، لكنه حاول الهرب. وفي هذا الوقت وصلت أخباره إلى مسامع تولستوي أثناء وجوده في القوقاز. وعلى الرغم من أنه لم يلتق أبداً بهذا الأفاري الأسطوري، إلا أن قصة حياته وموته تركت انطباعاً قوياً في نفسه آنذاك.
ومع ذلك، فقبل كتابته للقصة بعقود طويلة، شهد الضابط تولستوي حصار سيفاستوبول أثناء حرب القرم في الخمسينات من القرن19، ثم أصبح كاتبا مشهوراً على نطاق العالم، وأنشأ تعاليمه الخاصة ومرّ بأزمة روحية في سنواته الأخيرة. غير أنه لم يبدأ في تأليفها إلا في عام 1896، وأنجزها عام 1904 في نهاية حياته. وهي لم تصدر إلا بعد وفاته. فهو يعود إلى أحداث جرت تقريباً منذ حوالي خمسين عاما - حرب القوقاز، التي واجه فيها الروس قوات الزعيم الداغستاني الإمام شامل.
"حجي مراد" قصة تاريخية. يغطي السرد فيها فترة زمنية قصيرة ويتضمن عدداً محدوداً من الشخصيات. وتجري الإشارة بوضوح إلى الإطار الزمني وموقع الأحداث التاريخية، ويتم استخدام أسماء الأماكن والظواهر الحقيقية، مما يؤكد صحة الأحداث الموصوفة. القصة مستوحاة من حياة شخص حقيقي. وعلى العموم فإن معظم أبطال القصة شخصيات تاريخية معروفة.
وهي توضح أن الشخصية الرئيسية تتمتع بصفات توحي بالاحترام من جانب رفاقه وخصومه. إنه شجاع في المعركة، فخور، مستقل، وقائد ناجح يعرف كيفية التعامل مع الناس. فبالنسبة لحجي مراد، كما هو الحال لدى أي من سكان الجبال في القوقاز، تبدو المسؤولية تجاه العائله أمراً مهماً للغاية. ويريد الإمام شامل كسر إرادته وإخضاعه، لكنه يهرب ويحلم بالانتقام. وفضلاً عن ذلك يقلقه مصير عائلته فلا يستطيع ترك أهله في ورطة. هذا هو السبب في أن البطل يذهب إلى الروس، على أمل أن يتبادلوا عائلته مع مقاتلي شامل، الذين تم أسرهم، ثم ينتقمون منه. يحلم حجي مراد بأن يصبح حاكماً ويسيطر على كل من داغستان والشيشان. ولكن آماله لم تتحقق. حيث أن الروس لا يثقون بأهالي الجبال، فهم يحتجزونه كسجين. ويتأخر حل مسألة تبادل الأسرى حتى أن قصته تصل إلى القيصر نفسه.
ويظهر تحليل القصة أنها تجسد آراء تولستوي المناهضة للحرب. ويصور الكاتب ببراعة الموت البطولي. وقبل ذلك يتحدث عن وفاة الجندي الروسي والفلاح البسيط أفدييف، الذي انضم إلى المجندين بدلا من أخيه حيث أنه أصيب خلال تبادل إطلاق النارأثناء قيام الشيشان بمطاردته حينما كانت مفرزة روسية تقوم بتقطع الأشجار. ويؤكد تولستوي أن الأشخاص الشجعان والطيبين والصالحين يموتون، ولكل منهم رغباته وآماله ونظرته الخاصة للعالم. إنه معجب بلطف الأبطال وقوتهم، ويبدو موتهم أكثر حزناً وأكثر عبثاً. يدافع تولستوي عن الاعتقاد بأن الإنسان مسؤول عن كل ما يحدث على الأرض ويجب عليه التوقف عن العداء غير الضروري. هذه هي الفكرة الرئيسية للكاتب الإنساني .
يصور تولستوي البطل الرئيسي حجي مراد المتمرد والمتعطش للحرية ، الذي يتمتع بمهارة رائعة في القتال. ويعامله بتعاطف غير مقنع لدرجة أنه يبدو كما لو أنه تخلى عن وعظه بعدم مقاومة الشر بالعنف، بل إنه يرحب بمقاومة جميع أنواع القمع والعنف والانتصار لحرية الإنسان وكرامته....الهدية القوية للفنان عاشق الحياة أعادت تولستوي إلى زمن شبابه ككاتب وبدا أنها جعلته يتردد في مواقفه السابقة كواعظ للطف والتسامح. ويبدو أن تولستوي قد استيقظ كمشارك في معارك سيفاستوبول والقوقاز، وانجذب إلى عناصر الحياة الجيش، وإلى رومانسيتها القاسية. ويلاحظ العديد من النقاد أن تولستوي المفكر أو الواعظ الأخلاقي لا يظهر إلا قليلاً بين سطور هذه القصة. والجدير بالذكر أن الكاتب الروسي المهاجر مارك آلدانوف أعلن أنه "عند قصة "حجي مراد" ينتهي الأدب الروسي العظيم".
في قصته، يصور تولستوي شخصية وأفعال نيكولاي بانتقاد أشد من تصويره للإمام شامل. ويظهر نيكولاي الأول في "حجي مراد" بكل صفاته المثيرة للاشمئزاز كشخص ورجل دولة، يخلو من أي مبادئ أخلاقية، ويماثله مرؤوسوه من كبار الضباط - أولاً وقبل كل شيء، وزير الحربية تشيرنيشيف وفورونتسوف الأب والابن، وهما منفذان متحمسان ومطيعان للإرادة القيصرية. لقد أساء القيصر وحكامه إلى الشعور القومي لسكان جبال القوقاز. وهذا تسبب في موقف تولستوي الإداني الحاد، والذي انعكس بوضوح في القصة. وفي الوقت نفسه يحتل الشعب الروسي البسيط مكاناً مهماً في القصة حيث يتعاطف الكاتب مع بيئة الجنود وووسط الضباط جزئياً، الذين هم أنفسهم ضحايا أو يتحملون عبء تصرفات نيكولاي الأول ومرؤوسيه قصيري النظر وغير الأكفاء، الذين يتحكمون في مصائر شعوب القوقاز.
يبحث تولستوي طوال الوقت عن طرق للتقارب. لنتذكر، على سبيل المثال، مشهد التعارف بين حجي مراد وماريا دمتريفنا: «لم يفهم الكلام، بل فهم مشاركتها وأومأ برأسه لها». "لقد أحب بساطتها والجمال الخاص لجنسية غريبة عنه". الشخص الغريب قد يصبح عزيزاً في الغد. أما المجهول فإنه سيبقى غريباً. وهذ يدل على أن الحوار ليس مستحيلاً. وتقول ماريا دميترييفنا عن حجي مراد: "إنه تتري ولكنه إنسان صالح" مما يشير إلى أن المغزى السلبي الكامن لكلمة "تتري" ينتقل إلى مستوى القيم الإنسانية العالمية بمساعدة أداة العطف والاستدراك "لكن". فالشخص الصالح هو عندما لا يهم جنسيته ودينه.
إن موقف تولستوي في هذه القصة بعيد كل البعد عن تقاليد الأدب الروسي لدرجة أنه لا تزال هناك اتهامات بأنه "ابتكر نوعاً من الأسطورة" وأن محاولات "التقريب بين الشرق والغرب" غير مثمرة وغير واعدة. ولكن هناك شيء واحد مؤكد: وجهة نظر تولستوي فريدة من نوعها.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

763 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع