كاتيا الطويل لأفكار فلسفية وأحاجي وجودية عن المصير والخلق والإرادة بين السطور
كه يلان محمد / الأندبيندت عربية:الاستهلال هو مايشدُ الاهتمام أكثر في الأعمال الروائية ويكون مثار الاشتغالات النقدية باستمرار، لأنَّ مايفتتحُ به النص يحددُ مستوى التلقي والتواصل مع ما ينتظمُ ضمن المادة المسرودة.
أكثر من ذلك فإنَّ الجملة الافتتاحية هي بمنزلة النواة الجينية لمكونات النص الروائي، لكن العقدة التي تنسفُ مشروع الكتابة في رواية "الجنة أجمل من بعيد" وهي الإصدار الأحدث للروائية كاتيا الطويل ليست التخبط في البداية ولا متاهة الاختيار للعبارة الأمثل التي يسلمُ لها المُتلقى دفة الرحلة، بل إنَّ الصراع مع النهايات والسناريو الأخير للروايات المؤجلة يعيدُ بندول السرد إلى المربع الأول، الأمر الذي يضاعف الغموض حول مصير الشخصية المفوضة بكتابة الرواية بقدر ما يضعها أكثر بوجه جملة من الافتراضات المُرشحة من الحوارات المُتقطعة بين الشخصية العالقة على السطح الأبيض ومايسمى بالخالقة ومن نافلة القول بأنَّ الأخيرة كناية عن صوت الكاتبة.
أوراق على الطاولة
لايشقُ على المتلقي إدراك محورية دور الشخصية في بناء حلقات الرواية وهذا المنحي تعبرُ عنه الحركة المشهدية في المطلع الحواري إذ تتجاذب الشخصيةُ الكلامَ مع مقابلها الورقي حول حيثيات تواري الكاتبة وتوقفها عن الإقرار بشأنِ مصير الشخصيات، وتوحي المؤشراتُ بأنَّ هناك رغبةً لسد الفراغ الذي تركه غيابُ الخالقة ويبدو أنَّ هذا الموضوع لايخلو من الريبة المشبوبة بالخوف من عواقب المبادرة ُ بالتربع على كرسي التأليف لأنَّ الكتابة من المهن التي تصبح هي نفسها الحياة.كما أنَّ الشك يطالُ الوضعية التي تتقيدُ بها الشخصية هل هي واقعة خارج الرواية أو فعلا عالقةُ بأجوائها؟!
وما إن ينتهي شريط الحوارُ حتى ينفردُ الصوتُ بالسرد وهو يعلنُ رفضهُ بأنَّ يكون مترقباً لمزاج الخالقة.ويرى بأنَّ من حقه تنضيد حروف رواية هو يهيمنُ على مفاصلها ولايوجد من يكون أجدر منه بوضع المشروع على سكته الصحيحة.
والحال هذه فإنَّ تضخم دور الشخصية يعيدُ إلى ذهن رأي رائدة الرواية الحديثة ناتالي ساروت التى سحبت المركزية من الشخصيات الروائية مشيرة إلى أنَّ هذا العنصر لم يعد الكاتبُ يؤمنُ به كذلك الأمر بالنسبة للقارىء ماعادت الشخصيات مقنعةً، غير أنَّ الخطُ الذي تتخذه رواية كاتيا الطويل يكسبُ الشخصية موقعاً تأسيسياً في إدارة المعطيات السردية ومن هذه المثابة يتخذُ الجدل بين الكاتبة وصنيعها منحى حجاجياً لاسيما في المقاطع التي تستنكرُ فيها الشخصية وضعية اللاشكل وعدم تحديد المعترك والاسم، لكن قبل أن يفتحَ السرد على منطقة الصراع بين الخالقة والشخصية التي تراودها رغبةُ الأخذ بناصية المبادرة لحياكةِ ماهو في مهب الاحتمال فحسب.
يتمُ كشف الغطاء عن مزاجية أصحاب الحرفة والتوقف في الأمتار الأولى مثلما هو واقعُ في حالة الكاتبة التي لاتقرر مصير شخصيتها العالقة في الرف، إذ تسمعُ على لسانِها بأنَّ المجدَ اجتمع من طرفيه في تركيبة الخالقة لأنها إمرأة وكاتبةُ في آن واحد.ولاترتوي الشخصية عن وصف هذا الموقف بمصيبة مُضاعفة حتى ولو احتجت الأصوات النسوية مُحملمةً إياها بتلهيب العنصرية، ما يدفع بالشخصية الورقية نحو واجهة الرواية ليس إلا تركيبتها الشعورية وهي تعاني من الوحدة في براح الصفحات الفارغة ولاوجود لشبكة التواصل بينها وبين شخصيات أخرى.كأنَّ الكاتبة تريدُ الهروب من تحمل المسوؤلية أو تتوجس خيفةً من مصادرة الكائنات الورقية لحياتها الواقعية لذلك تتوقف عن متابعة مشروعها ولاتغامرُ بالمُقايضة مع المجهول،لاشك إنَّ خيال المؤلف يصنعُ شخصية ورقية لكن ما إن تقفُ الأخيرة على رؤوس أصابعها حتى يلوحَ سؤالُ من يتحكم بمن؟
أياً يكن الوضعُ فإنَّ الشخصية الورقية تأخذ بتلابيب القارىء في رواية "الجنة أجمل من بعيد" مُعلنة بأنَّ شخصيات الروايات وحدها لاتكذب ويضمرُ هذا التصريح مايثيرُ الريبة عن الشخصية التاريخية والواقعية.ويتقاطعُ مع ماتقولهُ الروائية الجزائرية أحلام مستنغانمي في سيرتها بأنَّها تُحب أبطال روايتها لأنَّ الوقت لا يمضي هدراً في مُصاحبتهم.
متاهة الافتراضات
تبدأُ رحلة الشخصية الورقية في البحث عن السيناريو الأمثل لبناء الشكل الروائي وتبادرُ بإدارة مصيرها خارج مُحددات مزاج الكاتبة، إذ تسردُ في الوحدة الأولى ظروف الولادة من أبوين لبنانيين.مشيرةً إلى أن بداية التواصل بين الإثنين كانت متزامنةً مع العرص الذهبي لمدينة "بيروت"وحظي المتكلمُ بالمضير الأول بطفولةٍ مُدللةٍ ولم يتغيرُ الوضعُ بعدما استقبلت العائلةُ شقيقاً صغيراً يكتفي السردُ بالتلميحُ إليه عائداً نحو الاستبطان الداخلي على لسانِ الابن البكر وهو يعترفُ بأنَّ الشعور بالوحدة يفتكُ به كارهاً المدرسة ولا يلبثُ الوقت طويلاً حتى تنشب الحرب الأهلية وتمتدُ العطلةُ الأمر الذي يوافقُ نفسية الطالب لكن الحرب لاتمرُ دون أن تخلف ندوباً غائرة في تكوين المُتكلم هنا تتسعُ حلبة السرد للملفوظات التي تلخصُ رؤية من يختبر الحياة واصطدم بالمطبات "أفضل الحالات البشرية هي الحالات الرمادية عندما يعيشُ المرءُ حياته على الحياد، لاهو يتقربُ من الناس فيحترق بنارهم ولا هو يبتعدُ عنهم ليموت صقيعاً" كما تترافدُ الصور البيانية مع الأحزمة السردية.مايزيدُ من شحنة عاطفية في لغة النص. وأنت بصدد ملاحقة المطافُ الذي ينتهي إليه المُتكلم ويتخيلُ إليك بأنَّه يحاكمُ الروائي لأنَّه ينتقمُ من الحياة بشخصياته فيخلقها كما لم يُخلق ويتصرف بها كما كان يستطيع التصرف.
وبالتالي أنَّ الخالقة تحرمه من الحب لأنها أرادت تحاهل هذا الشعور من خلاله، بعد تعثر هذه النسخة من الرواية المفترضة يجربُ المُتكلم وجهاً آخر متقمصاً شخصية شقيقه الصغير الذي كان منبوذاً وبالمُحصلة لاتنجحُ المحاولة ُ الجديدة. إلى هنا تتحركُ آلة السرد نحو فصل جديد ولايكون عنوانه سوى الانتظار حيثُ تدورُ جولة أخرى من النقاش بين الخالقة وشخصياتها الورقية واللافتُ هو استمماتة الشخصية في تذوق الحب مقابل آراء الخالقة المشبوبة بالتوتر حول مفهوم الحب ومن ثمَّ تشير إلى حاديها لاختيار الرجل شخصية في الرواية ولم تسند إلى المرأة وذلك لأنَّ المرأة تسألُ وتحللُ وتعقد بينما الرجل بسيط واضح ولايعقد.ويستعادُ في هذا التفصيل تجربة المرأة التي كان لها دور في ورشة الكاتبة الإبداعية وانتهى أمرها بالانتحار.
سايكولوجية القارىء
تتوالي الافتراضات التي تهدف إلى تلبية لرغبة الشخصية المُعلقة يجنحُ الخيالُ بالكتابة للذهاب إلى روسيا باحثةً عن دور لشخصيتها الإشكالية تختبر أنَّ تمنحها دور اللص في رواية "المعطف" يسرقُ أكاكي أكاكيفيتش.
وفي جزء آخر من هذه الورشة الإبداعية يتبادلُ فيها الطرفان القولَ عن عنوان رواية وهي قيد الانطلاقة والملاحظُ في حيثياتِ مايقدمُ هو صورة الوعي بجزئيات العمل الإبداعي ولاتفوتُ الكاتبةُ الإشارة إلى روايتها السابقة "السماء تهرب كل اليوم" آخذة الاحتياط من مغبة التكرار والتدوير.بموازاة المحاولات المُتعاقبة لكتابة الرواية والقبض على صيغة النهاية يستمرُ النقاشُ بشأن مزاج القارىء وماتعجبه من النهايات وتعاطفه مع الشخصيات المقهورة.كما أنَّ الرواية البدينة لاتطيبُ للمتلقي ويخسر النص طاقته التشويقية إذا قُفلت على قصة حب سعيدة.هذه المُعطيات المذكورة آنفاً والنبرة السجالية التي تتصدرُ مدخلَ كل مفصل من الرواية.تقودنا إلى تأمل مايمكنُ تسميته بسايكولجية قارىء الرواية. يوجدُ في برنامج الخالقة و تابعها الورقي تصنيفُ جديد لأنواع القراء وماينشدهُ النصُ هو القارىء الحقيقي الذي يتجاهل هموم الواقع مندمجاً مع مناخ يفوقُ الواقع تشويقاً وأقل رتابةً.
ويجبُ على القارىء أن يشرع بالتواصل مع النص بعيداً عن الأحكام المسبقة والتوقعات والتعليقات في غير آوانها لأنَّ كل ذلك يفسدُ القراءة ويفرغُها من المُتعة.تنهضُ هكلية هذا النص على حزمة من الافتراضات لحياكة العمل الروائي بأنواعه المتعددة من الرومانسية والبولسية ومايصطلحُ عليه برواية الأجيال كما تحيلك متون السيناريوات المفترضة إلى شخصيات نحتها الكُتاب العالميون في أعمالهم الإبداعية.
وتقيمُ كاتيا الطويل مأدبة لشخصيات فاقت شهرة على صناعها لمناقشة مصير البطل الضد الذي ينتقل من انتكاسة إلى أخرى.
هذا إضافة الى ارتشاف النص من ايحاءات الأساطير العالمية والقصص الدينية.
يذكرُ أنَّ هذه الرواية ليست أحادية الفكرة فغير المصرح به ومايمكن معاينته بين السطور هو عديدُ من الأفكار الفلسفية والأحاجي الوجودية عن المصير والخلق والإرادة كما أنَّ الكاتبة لم تنسلخ من جلد الإنسان الشرقي الذي لاتهمه سوى معرفة شكل النهايات.يقولُ آرتو: لم يكتب أحد قط أو يرسم أو ينحت أو يصمم أو يبنى أو يخترع إلا للخروج من الجحيم.بيد الشخصية المعلقة في رواية "الجنة أجمل من بعيد" تسرق القلمَ للخروج من الجنة.
1119 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع