جراح الغابة: الجزء الثالث / د.سعد العبيدي
خَفتْ أشعة شمس العصر بهذه الغابة، وصلت بقاياها الى الجسم الراقد على العشب يسمع بهدوء وانتباه من أفق بعيد لا يراه، وكذلك من يتكأ بجسمه على جذع الشجرة بوضع الاضطراب، يريد أن يستمر في الكلام. إنكسارات ضوئها تلاشت تماماً، بمرور الغيمة الباهتة قريباً من أعلى الأشجار. لفحة هواء شديدة تُحرك فروع الأشجار. جميعها لم تثر إهتمام الراغب بإخراج المكبوت، ولم توقف سبل استرساله في وصف المأساة. استمر في عرض بعض التفاصيل الخاصة بقفزه من على حائط السطح، وجرح الصدر أثناء التدلي المرتبك، وكأنه يريد من عرضه هذا تغطية شعور بالدونية نما داخله بعد الهرب، وَتركه الأسرة تُقتل بدم بارد.
ألم يكن الأمير الغازي يريده هو، وقد نادى بإسمه هو؟.
لو كان قد أمتلك الشجاعة الكافية، وظهر من مخبئه، وتحداه أو أستعطف ما بقيَّ من صداقة كانت بينهما، لأمكن عتق رقاب الأسرة، والاقتناع بالقصاص منه فقط.
(إحتمال وارد في بعض الأحيان).
عدلَ في جلسته التي تغيرت مراراً من شدة التحرك في المكان.
تناول منديلاً مسح به العرق المتصبب فوق حاجبيه، نظر إلى غيمة في الأعلى رسمت دوائر فوق وجهه الذي تغير لونه إلى الأصفر المزرق. ارتجفت عضلات وجنتيه كأنه يعيش الموقف ذاته من جديد. حاول أن يبقى متماسكاً، لكن أحشاءه من الداخل تقلصت بشكل مخيف، جعلته يتلوى مثل أفعی کشفها ضوء الشمس في انسيابه بين الأشجار. ومع هذا أصر على الاستمرار بالكلام مدفوعاً بقوة من داخله لا يستطيع مقاومتها.
قائد المجموعة الواقف منتصباً وسط الصالة، أمر بغلق القناة الفضائية التي يصدح فيها صوت الأذان، معلناً حلول وقت الإفطار، مستمراً في وضعية إعطاء الأوامر والتوجيهات. صوته الواضح، لم يكن غريباً، وكذلك وقفته التي جاءت بنفس المكان الذي وقف عليه عبد الجليل، قبل عشر سنين، ماسکاً قصيدة فخر للمتنبي، ألقى بعض أبياتها على صديقه القريب، متصوراً أن آلاف الشابات تستمع إليه بإمعان.
إنه فعلاً عبد الجليل.
لقد أعاد الصوت القادم من وسط الصالة بعضاً من الوعي الذي شتته صدمة الدخول الى البيت، وحالة الهرب من شباك المخزن.
(يا إلهي إن هذا الصوت، طالما سمعه، وحاججه وناقشه، إنه صوت عبد الجليل).
هو زميل طفولة رافق الحقبة الزمنية من المدرسة الابتدائية حتى الثالث المتوسط.
نعم إنه هو الذي سكن وعائلته في أول الشارع، وغادر معها إلى مكان مجهول أيام الهجرة إلى سوريا. ذاك الذي كان يصلي مع مجموعة من الزملاء في جامع ملوكي بشارع المضيف القريب، بداية مرحلة المراهقة التي نقلت مجموعتهم إلى اجواء التدين.
انه غير المعقول!.
لا توجد عداوة تدفع لارتكاب هذا الاثم، ولا الوالد أحد شاربي الخمور، الذي طلب في أحد تلك الأيام التي تزخر بطاقة التطرف مشاركته ضرب أحدهم: المهندس المعروف بسمعته الطيبة في المنطقة، أسامة الشيخلي، عندما كان عائداً من النادي ليلاً، وهما جالسان معاً على الرصيف. تذكر ذاك الطلب كان مرعباً، مازالت تفاصيله مطبوعة في الذاكرة، وما زال توجيه الاتهام بالجبن، إثر رفض المساعدة بالاعتداء الآثم على الرجل مطبوعاً أيضاً، وكذلك الحجة التي اتخذت للتبرير (لسنا المعنيين بتطبيق الشريعة الاسلامية).
هل يعقل أنه لم ينس هذا؟.
وهل يعقل أنه جاء الآن إلى الإنتقام، لهذا السبب فقط؟.
أم أن هناك أسباباً أخرى، تصعب معرفتها؟.
عاود تقييم الأمر في عقله المضطرب، تخيل ما يحصل قد يكون مزحة من مزحه التي كان يهوى إيقاع الزملاء بها أيام زمان، وعاد فنقضها مؤكداً لنفسه القلقة أن أسلوبه، وتهديده، وتهجمه، وشكله المنفعل لا يوحي بأن ما يحدث مزحة، ولا هو ضرب من الخيال.
لماذا يحصل كل هذا إذن؟.
نعم إنه عبد الجليل، الذي يمتلك شهوة عارمة للإيذاء، يأمر أتباعه المجاهدين، أو مدعي الجهاد كما هو المصطلح الشائع الآن. لا مجال للتدقيق في التسميات بالنسبة لمن يكون مطروحاً على سطح البيت، يتمنى الموت، في الوقت الذي يسعى فيه إلى البقاء، وصاحبه يأمر الأتباع، وهم ينفذون من دون تردد أو نقاش.
كان الجلوس قرب الشباك المطل على الصالة لابد منه، لإن الوقوف على ساقين غير قادرتين على حمل الجسم الثقيل أمر مستحيل، لكن الاستمرار به يحول دون إتمام المتابعة كما هو مرغوب، وبدلاً من الاستمرار، صار الجثو على الركبتين حلاً يفي بالغرض، خصوصاً وان الألم الذي عادة ما يصاحب القائمين بمثل هذه الحركة أصبح غير موجود، والعقل الذي يتحكم به كذلك غير موجود.
عاد صوت عبد الجليل يملأ المكان، رعباً:
(فتشوا غرف البيت، كل زواياه، حتى تجدوه، وتجلبوه أمامي على الفور) قالها بانفعال شديد، بعد أن رد الوالد على سؤال، أكدت إجابته أن سامر قد خرج قبل دقائق إلى محل قريب لشراء عصير، يسد رمق الفطور.
جلست منى الوديعة الهادئة المشاكسة، مذعورة جنب شذى القوية الواثقة من نفسها، تنظران إلى ما يجري بعيون يملؤها شك من ذاك النوع الذي اختزل كل الشكوك الموجودة في عالم اليوم في حزمة تكونت في عقلهما تلك اللحظة، تتبادلان التحديق مع أب تحاول عيناه أن لا تدمع ضعفاً، في موقف شد غير متكافئ، ومع عيني عبد الجليل، اللتين يتركز فيها الحقد الغائر نحو الجميع، بعد أن غمره شعور بالكبرياء، والفخر في أن تكون عائلة سامر تحت رحمته الآن، في وقت توزع فيه الارهابيون الثلاثة على المطبخ، وغرف البيت. جلب النحيف ذو اللكنة الليبية، الوالدة جراً من شعر رأسها، وحشرجة تخرج منها عوضاً عن البكاء. تتنفس بصعوبة، مثل غريق حاول التشبث بقشة، معتقداً أنها ستخرجه من تيار الماء الجارف. دفع بها وسط الصالة، حاول الأب التوجه صوبها، بقصد الحماية غريزياً، جاءته وخزة سيف في جانب من صدره على اليمين، أعادته إلى مكانه شبه مشلول، بعد أن تركت بقعة دم على قميص نومه الأزرق.
موقف الوخز اللئيم هذا أخرج الأم من حشرجتها، وصدمة الذهول، فكانت الجملة التي نجحت بنطقها (أنت عبد الجليل صديق سامر.... أبني ماذا فعلنا بك لتجازينا بهذه الطريقة).
صمت صاحب الأمر عن الاجابة، كمن يفكر بدافع، أو تبرير من مخزون ذاكرته القديمة، وبدلاً من أن يجيب، إلتفت صوب البنات سائلاً عن سامر، فتلقى الإجابة نفسها من الأب الذي خشي أن تخطئ إحداهن تحت ضغط الذهول، فتتسبب بتقديم سامر المختفي عن الأنظار ضحية رخيصة على مذبح الجهاد الزائف، ولربما أراد کسب الوقت، عساه توفير الفرصة سانحة للهرب من شباك المخزن كما كان يفعلها أيام طفولته، ويجلب جنوداً من نقطة السيطرة القريبة، کي ينقذهم من هذا المأزق الرهيب، وعندما تذكر أنه قد سد بنفسه منفذ الشباك من الخارج بكتيبة حديدية، عاوده اليأس من نجاح هذا الاحتمال، واكتفى بالدعاء في أن ينجو الابن من هذا المصير المحتوم، ليحمل الاسم، ويكمل المشوار، ويحكي قصة غدر بطلها صديق.
بادرت شذی تأكيد الإجابة ذاتها (إنه ذهب لشراء العصير). إجابة زيدّتْ الامتعاض في نفس الأمير، لاسيما وإنه لم يكن قد حسب احتمالات الخروج من البيت في الدقائق الأخيرة قبل الافطار. أومئ لهن بأن يتركن مکانهن، ويجلسن مع الوالدة على الأرض سبایا معركة أرادها لا تنتهي، إلا بحضور سامر الذي من أجله تم المجيء، أو انتظار حكم سيصدره هو الأمير المولى على المنطقة بأمر من القيادة العليا للجهاد، وكذلك على الجماعة التي عليها تنفيذ كل أوامره طوعاً، من دون تردد، أو تأخير.
بئس هذا الزمن الرخيص، وبئس العيش فيه، عبارة كررها مع نفسه، وأجزم أنه سيسجل بلا تاريخ، سيبقى معفراً بغبار الفرقة والشك والتوسلات، واستجداء الرضا عن الحال، من غير أهل الحال، وسادة يغفو عليها أهل العراق، ينهلون منها أحلامهم، وتطلعاتهم للانتقام.
زمن لا يستحق الاستمرار فيه على قيد الحياة.
الموت أهون من ترقبه المرير كما يقول السيّاب:
الحاضر يبتلع الماضي، كل شيء يتغير، حتى البكاء، ستجده مذبوحاً من الوجع، وقد تغير، وكذلك الحروف ستعجز عن كتابة صمت يدوي صداه في النفس المتعبة. سوف ترحل، ولن تكف البحث عن ذاتك المفقودة بين الجبال، وداخل المدن المزدحمة، وعلى أطراف الغابات، تتوكأ على عصا أحلامك، لن تجدها، ولن تكف عن البكاء، ولا عن صراخ الشوق إلى الماضي، أملا بمعانقة نسمة صباح من دجلة، تغفو عليها قبل شروق الشمس في نومك على السطح المغطى بالتراب.
دفعتك أوهام السراب والرغبة بالنقاهة، وأحلام البحث عن الذات، أن تستلقي متأملاً، على حافة طريق نيسمي، في هذه الغابة التي تقترب في موقعها من أقصى الشمال الجميل، واسعة، تغطي مساحة الجبل المحاذي بسفحه لبحر الشمال، عامرة، تكسوها الخضرة معظم أيام السنة مع فترات يغطي بياض ثلج الشتاء قمم أشجارها والوديان، موغلة في القدم، تنتشر على طولها بقايا أشجار سقطت بتقادم الزمن وحكم السنين، وكذلك أوراق تكدست من الخريف الفائت، وما قبله وفروع أغصان.
أوهن التعب هذا المتكئ على جذع الشجرة، مسترسلاً في الكلام. توقف قليلاً من شدته، أو من الحرج الذي يحصل في المعتاد عند ذكر بعض التفاصيل الخاصة بجسم المرأة، وشكل الاغتصاب، التي يكون ذكرها مخجلاً في المجتمع العراقي، والاسلامي على حد سواء. لكن هيئته توحي أنه يريد الاستمرار. يريد تفريغ ما في ذاكرته من انفعالات خوف، وغضب ليستريح، فعاود الكلام عن الشخص الثاني، أو المجاهد الثاني، سوداني الأصل، وقد أشهر مسدساً بقبضة عاجية بعد أن أخذ الأمر من الأمير في أن يتجه إلى الأعلى، ليتم مشوار التفتيش. دخل غرفة البنات، وخرج منها، ثم فتح باب المخزن بقوة تسببت في إرتطامها بالحائط، وأرتدادها نحوه، فأعاد فتحها بقدمه لاعناً الموجودين في هذه الدار. ألقى نظرة في داخله، تأمل ما فيه من أدوات، وحاجات، دفع بعضها من على الرفوف، وحرك أخرى ثم خرج. وفي طريقه للخروج عرج على باب السطح، حاول فتحها فوجدها مغلقة بإحكام، فصاح بلهجة أكدت أصوله السودانية، لا يوجد أحد.
كذلك أكد ثالثهم بعد تفتيشه ما تبقى من غرف النوم، عندها نزلا معاً إلى الصالة، وعاودا وضع الوقوف في الزوايا التي سبق وأن وقفوا فيها، قبل صعودهم إلى الأعلى بقصد التفتيش.
دار عبد الجليل في مكانه دورة ناقصة، غطى منها بنظرة عابرة عموم البيت، ضرب الأرض بحذائه قال خلالها: (لعنة الله عليكم).
وقع الضربة دفع الدكتور عامر لأن يصحو قليلاً من نوبة السكون التي أصابته بعد أول وخزة مؤلمة بالسيف، فاحتقن الدم في وجهه الأسمر، والتفت برأسه صوب الأمير (أنا حاضر لتلبية طلباتكم، ماذا تريدون؟).
- سامر، طلبنا الوحيد.
- إنه وكما أجبت في المرتين السابقتين قبل قليل، قد ذهب إلى محل البقالة ليشتري لنا عصيراً للفطور، وسيعود حتماً بعد قليل، لكن ماذا تريدون منه؟.
بهت وجه عبد الجليل من إصرار الوالد على ذات الاجابة، ورد شذى الذي أيد هذه الاجابة، ونتيجة التفتيش لغرف النوم التي تدعمها عملياً، فاهتزت جفونه، ونادى بصوت مليء بالحقد، والمرارة على زميله البغدادي، طالباً الوقوف عند الباب الخارجي من الداخل، وانتظار سامر، جلبه حياً، وأضاف:
- اقتله في الحال إذا حاول الهرب، وبلغ المجاهدين المكلفين بالسيطرة على الشارع أن يترقبوا عودته.
يبدو وكأن عبد الجليل أقتنع من كلام الوالد في هذا الشأن. وبعد أن أتم أوامره، ألقى خطبة عصماء، عن الدولة الاسلامية التي يودون إقامتها في العراق، وكيف يسعون بعون الله، ويجاهدون بإسمه إلى أن تكون خالية من العملاء، والخونة والكفار والمرتدين، ملتفتاً إلى الجمع المأسور: من أمثالكم.
رد الوالد بصوت مكسور: إني لا أخدم ال.....
قالها بصوت الواثق من صحة إجابته، الواعي بعدم فائدة السكوت لتغيير مجرى مصير أصبح واضحاً من دون لبس.
لم يسمح له بإكمالها، بعد أن بادره بضربة من سيفه المشؤوم على يده اليسرى، تدلت معلقة بما تبقى من جلد ولحم قليل. لم يثن بضربها، مكتفياً بسحبها، فجاءت إليه بعد لويها باتجاهين متعاكسين، وكأنها سعفة يابسة خُلعَتْ من جذع نخلة شاخت من سنين. لوح بها منتصراً، ورماها على السبايا الجالسات بقوة، مناديا (الله أكبر)، فصاح الدكتور، ويده المقطوعة تنزف بغزارة، وتتحرك دون سيطرة منه:
إسمع جيداً، آنا لست عميلاً، ولم أخدم الأجنبي، هذا وطني وإنا أستاذ، ونحن مسلمون، وأنتم كفرة وجهلة ومنحطون.
نطق السياف، الحالم بإقامة الدولة الاسلامية وقد جحظت عيناه:
سأريك ما نفعله بالكفرة، سألوعك قبل أن تسلم روحك، وأنت في الطريق إلى جهنم.
كان المنظر مثير للاشمئزاز والنفور، دفع الهارب إلى السطح لا إرادياً بتجريب محاولة النهوض من المكان الذي يجثو فيه، والصراخ بأعلى صوت (ماذا تفعل يا صديقي) لكنها محاولة فشلت، مثلما فشلت محاولة التدخل عند التواجد في المخزن. غريزة البقاء أفشلتها بعد أن غلبت كل مساعي الموت، وإن الصراخ الذي أراده أن يكون مثيراً لتنفيس الانفعال في داخله، ولتنبيه العالم من حوله، قد تجمدت كلماته في الحلق المشلول، خوفاً من أن يسمعها عبد الجليل، ويفتضح الأمر الذي يفضي إلى الموت.
قد يكون الخرس في المواقف الصعبة، وحتى الشلل وفقدان الوعي من بين الحلول السلبية لتجاوز حالة الخوف الشديد، وهذا ما حصل أعلى السطح، حيث لم يعد يقوى الجاثي هناك على الكلام، ولا على الحركة، إلا من نظر تشوشه الدموع، وسمع يقطع تواصله صراخ أب يستعجل الموت، وأم لم ينقطع توسلها، لإنقاذ البنات من جريمة التدنيس.
أومئ السياف إلى الموجودين في زوايا الصالة بإشارة فهموها على الفور. توجهوا صوب المأسورات، طرحوهن أرضا، لا يعيرون إهتماما لصراخ الوالد، وتكرار استغفاره، وطلب النجدة من الله بصوت أخذ يخفت بالتدريج. هجموا كالوحوش. بدأوا بتقطيع الملابس لإبقائهن عرايا أمام الأب الذي لاحول له ولا قوة. قاومت الضحايا بحركات لا إرادية ممزوجة بصراخ، واستجداء الرحمة، فتلقت كل واحدة عدة ضربات موجعة لكل حركة مقاومة للإعتداء.
لقد تحولت الدكتورة التي بدأت مشوار التوسل، إلى المقاومة، ثم عادت إلى التوسل من جديد بعد إحساسها بالتعب، وعدم الجدوى، متأملة أن يلين قلب عبد الجليل، أو أحد رفاقه المجاهدين:
(حرام عليكم نحن مسلمون. صائمون في شهر رمضان. إتركونا بحق الأذان الذي يفطر عليه المسلمون الآن. خذوا كل شيء. اقتلوني أنا والأب واتركوا البنات، لا ذنب لهن. يا الله أغثنا، یا محمد أعنا. خذوا البيت، خذوا ذهبنا، فلوسنا، ما نملك، سنترك لكم العامرية والعراق، اتوسل اليكم أن لا تفعلوا شيئا بالبنات، إنه حرام، أرجوكم لا تفعلوا، أقبل أيديكم، بل أحذيتكم، لا تفعلوا).
ولما تيقنت أن لا فائدة من التوسل والكلام، اشتدت مقاومتها، وزادت شراستها مع كل قطعة قماش تنزع من على جسد البنات، فعاجلها السوداني بضربة على رأسها بأخمص مسدسه، نزفت دماً غطى وجهها فصاحت بأعلى صوتها الله أكبر، وبدأت تئن بشدة، قريباً من قدمي الأمير الواقف في مكانه يتفرج، وكأنه مغرم بأنين الأمهات، أو متمتع به، نشوة سادية لا تدانيها أخرى في الحياة. وهو كذلك ينتظر توقف الأنين، قال کلاماً فيه مسحة حقد لا يوصف (أنتم كفرة، يحل سبيكم، وأنتم جميعاً غنائم حرب، يسمح الشرع أن نفعل بكم ما نشاء، اذهبوا إلى جهنم وبئس المصير).
لقد أصدر حكمه، وبعد أن أتم الحكم المدعوم بشريعته السلفية، أعطى إشارة ثانية، فهمها الوالد إيعازاً للرعاع بسلب شرف البنات، فقام من مكانه متجهاً صوب الذباح، يستعجل موته لكي لا يرى منظر الاعتداء، حشد كل ما تبقى له من قوة وصاح (جبناء) ثم بصق بالوجه العبوس، الذي بادره بطعنة غادرة في سيفه المغموس بالحقد أسفل الصدر من الجهة اليسرى، بقوة أظهرت نصله من الظهر. استله على الفور، ليهوی به على الرأس والرقبة بضربات متكررة، أوقعت الوالد میتاً فوق جسد الوالدة التي لا تقوى على الحراك.
نزف الدم غزيراً من الجسد الطري، غطى سجادة الصالة الشيرازية، تطافرت زخاته من شريان الرقبة المذبوحة على البنات، والوالدة التي فاقت من أنينها، وغمست كلتا يديها بدمه الحار، ثم لطخت بها شعرها، وكأنها تريد أن تحنْيه لحبيب وإن فارق الحياة، ثم لطمت خدودها، وخربشتها بطريقة تركت أظافرها جروحاً لم يتوقف منها النزيف، وأخيراً رفعت كلتا يديها إلى الأعلى صائحة (الله أكبر).
منى التي كانت في حالة ذهول، اقترب من فقدان الوعي، ربما فقدت الوعي، بينما حافظت شذى على تماسكها، وكأنها تنتظر مصيراً اقتنعت لا فرار منه، ولا داعي لإعطاء المعتدين انطباعاً بالضعف من توسلات غير مجدية.
توقف متأزما حائراً لحظات، استجمع خلالها ما تبقى من قواه التي ضاع نصفها في المشي المتواصل ساعات حتى وصوله هذا المكان في الغابة، واستنزف نصفها الآخر في التفكير بالانتقام، وهموم الحياة التي أضحت من وجهة نظره بلا معنى ولا تفسير. عاود بنظره صوب الانسان الذي مازال مطروحاً في مكانه ساکناً، مستغرباً حكاية يصعب تصديق وقعها الذي يقترب من الخيال، في هذا الوقت من النهار، وبهذا المكان النائي الموحش من الغابة الخضراء.
للراغبين الأطلاع على الجزء السابق:
https://algardenia.com/2014-04-04-19-52-20/thaqafawaadab/51445-2021-11-06-20-16-54.html
1006 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع