تاريخ يهود العراق المعاصر الحلقة ٥ - الوطنية العراقية عند أعلام اليهود

      

تاريخ يهود العراق المعاصر الحلقة ٥ - الوطنية العراقية عند أعلام اليهود من كتاب: تاريخ يهود العراق المعاصرد. نسيم قزاز

      

نستمر بنشر فصول من كتاب تاريخ يهود العراق المعاصر للباحث الإسرائيلي المعروف د. نسيم قزاز والذي أصدرته رابطة الجامعيين المنحدرين من العراق في إسرائيل في 2020

في الفصل الخامس يتطرق المؤلف الى توجه أعلام اليهود من وجهاء الى مثقفين الى الوطنية العراقية حين تبنوها كأيدولوجية وأرسوها على معايير اقتصادية وعوامل تاريخية وحضارية وأحكام دينية. ثم يغور بالتفصيل في معنى وتأثير هذه المعايير والعوامل.
يذكر د. قزاز وجهاء الطائفة اليهودية أمثال ساسون حسقيل، أول وزير للمالية في العراق، إبراهيم الكبير معاون المحاسب العام في وزارة المالية، والعين مناحيم صالح دانيال، رائد "الوطنية العراقية" الذي عارض كلياً النشاط الصهيوني في العراق. وفي صميم المبرر أو المسَوِّغ التاريخي لتمسك وجهاء اليهود بأرض الرافدين، تقف شاخصةً أمور وأحداث مرت بها الجالية اليهودية في أرض الرافدين خلال ما ينيف على 2500 عام.
ويشير المؤلف الى اندماج المثقفين اليهود بعد الحرب العالمية الأولى في الثقافة العربية وحبهم للغة الضاد ويذكر أوائل الكتاب والشعراء اليهود الذين أنتجوا أعمالهم باللغة العربية وبين هؤلاء سلمان شينا، مير بصري، أنور شاؤول، د. مراد ميخائيل، يعقوب بلبول، شالوم درويش وإبراهيم يعقوب عوبديا.
وينهي د. قزاز الفصل بالإشارة كيف ان على ارض الواقع لم تصمد "الوطنية العراقية" وباءت على المنادين بها بالفشل والإحباط، لأن سكان البلاد العرب ورؤساء السلطة في العراق شككوا ببيانات زعماء الطائفة وإخلاصهم للوطن ولم يقتنعوا من تبرئهم من الصهيونية وموالاتهم لطموحات "القومية العربية"
ربما بعد ما مر به العراق وسكانه خلال العقود الماضية من الصراعات السياسية والاثنية والطائفية الى قتل وتشريد العديد من المكونات التي يعود تاريخها الى القدم ومع نظرة الى الواقع الحالي الذي يعيشه العراق علينا ان نتساءل هل هناك "وطنية عراقية" !

الفصل الخامس - الوطنية العراقية عند أعلام اليهود
نظر زعماء الطائفة اليهودية في العراق إلى مستقبلهم ومستقبل أبناء جلدتهم عند إقامة الدولة العراقية في وادي الرافدين نظرة المتفائلين لمستقبل زاهر، تسود فيه المساواة والرخاء والتآخي بين جميع شرائحه وأطيافه. فأعلنوا إخلاصهم للوطن. وعملوا على توطيد دعائمه وإنجاحه.
وترتب عليهم أن يبرهنوا على إخلاص اليهود لعراقهم، بعد أن ساور عرب العراق الشك في ذلك بعد إعلان "تصريح بلفور" عام 1917، الذي أعقبه النشاط الصهيوني الذي أُجيز رسمياً حين قامت الدولة العراقية، فأعلنوا رفضهم وتحفظهم من النشاط الصهيوني في أرض الرافدين، وتبنوا أيدولوجية "الوطنية العراقية" وأرسوها على معايير اقتصادية وعوامل تاريخية وحضارية وأحكام دينية.
المعيار الاقتصادي
كانت أحوال زعماء يهود العراق الاقتصادية الحسنة وهيمنتهم على تجارة البلاد واقتصادها طوال أجيال كثيرة عاملاً رئيسياً، وربما حاسماً، بتمسكهم بالعراق وتبنيهم "الوطنية العراقية". إذ تخيلوا، غداة إقامة الدولة العراقية، بلاداً منتعشة ومزدهرة توفر لسكانها الخير والسعادة، فانجذبوا بسحر تلك الأحلام. وعبر ساسون حسقيل، أول وزير للمالية في العراق، عن أحاسيس وأفكار الفئة اليهودية المؤيدة للتوجه نحو "الوطنية العراقية"، تعبيراً جيداً بمقابلة أجراها في مستهل عام 1921 مع إبراهيم الكبير بهدف إقناعه أن يأخذ على عاتقه تولي وظيفة معاون المحاسب العام في وزارة المالية:
"... لقد تغيرت الأوضاع حالياً تغييراً كاملاً. لم نعد الآن نخدم أجانب وإدارة فاسدة كُتب عليها الاضمحلال إننا نخدم بلادنا ذات المجد التليد والمستقبل الواعد، بلاداً بوركت بأرض خصبة ومياه وافرة وشعب يتطلع لإنعاشها والسير بها قُدُما، بعد أن كانت قد تخلَّفت، خرِبة ومهجورة طيلة أجيال كثيرة".
"لا توجد هناك ديون عامة"، واصل حسقيل حديثه"، وليس هناك مشاكل عالمية من شأنها أن تعرقل تنميتها وتطورها، واجبنا هو واجب ريادي". لذلك، ألحَّ بالكبير، "أن يكرس جهوده وأفكاره لبناء دولة عصرية متقدمة تذكّرِ بمجد العراق التليد ".

أقتنع إبراهيم الكبير من كلام الوزير وقبل الوظيفة التي كاد قد تمنع عن قبولها من قبل، كما أورد -:
"كانت هذه نقطة تحوُّل في حياتي...لقد كنت دائماً مثالياً (أيدياليست)، والمساهمة في إنشاء دولة متقدمة استهوتني. إن أبناء جلدتي عاشوا في هذه الأرض 2500 سنة وساهم الكثير منهم بإعلاء شأنها في مجالات عدة منها العلوم والاقتصاد والأدب وحتى السياسة. وأنا لا أرى سبباً يمنعنا، نحن اليهود أبناء هذا الجيل، من السير على خطاهم".
"أخذت على عاتقي تحمل مسؤولية الوظيفة. وصدر أمر تعييني في 6 من شهر كانون الثاني/يناير 1921 ".

           

                          السر ساسون حسقيل

وردت أفكار مماثلة، حول نظرة اليهود إلى قدرات العراق الاقتصادية، في مذكرات السر أرنولد ويلسون، الذي شغل منصب سكرتير ومعاون الحاكم المدني في العراق في فترة 1917-1920. أراد ويلسون أن يفحص ردَّ فعل يهود العراق حول "تصريح بلفور" الذي صرَّح بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين. وهذا ما توصل إليه:
"لم يثر ‘تصريح بلفور اهتماماً في ميوزوݒوتاميا، ولم يأبه به السياسيون المحليون في بغداد، التي تقطنها، ومنذ عصور خلت، طائفة يهودية كبيرة. تكلمتُ في حينه حول الموضوع مع العديد من وجهاء الطائفة الذين كانت تربطنا بهم علاقات حسنة. فأجابوا، إن فلسطين بلاد فقيرة وإن القدس مدينة لا تصلح للسكن. وقال أحدهم، إن ميوزوݒوتاميا جنة عدن بالنسبة لفلسطين، هنا جنة عدن، فمن هذه البلاد طُرد آدم (الأنسان الأول). هات لنا حكومة جيدة ونحن نجعل من العراق دولة منتعشة، فبالنسبة لنا هو وطن قومي الذي يُسرُّ يهود بومبي ويهود فارس وتركيا المجيء إليه، هنا تجد الحرية والآمال. وفي فلسطين قد تجد الحرية ولكن ليس هناك آمال..."، ويقول ويلسون -: "ربما يحتوي هذا الكلام على شيء من التهوِّر ولكنه يحتوي أيضاً على حقيقة اقتصادية ".
كذلك مناحيم صالح دانيال، رائد "الوطنية العراقية" ومن زعماء يهود العراق في تلك الفترة، رأى بأُم عينيه اليهود منضمين إلى مسيرة إنعاش البلاد ومتحملين قسطاً وافراً في بناء مستقبله. وفي كتاب أرسله إلى الحركة الصهيونية في لندن عام 1922 عارض كلياً النشاط الصهيوني في العراق ونفاه بكلام لا يقبل التأويل، مدعياً -:
"إن العراق يبذل حالياً الجهود في سبيل بناء مستقبله، ومن المفترض أن يكون لليهودي قسطاً محترماً في ذلك...إن المهمة صعبة للغاية وتتطلب جهوداً جبارة من جميع المواطنين ".
ازداد شعور الانتماء إلى العراق وتأييد نزعة التوجه نحو "الوطنية العراقية"، لدى وجهاء يهود العراق، ازدياداً طردياً مع التحسن الذي طرأ على أحوالهم الاقتصادية والاجتماعية. وبلغ هذا الشعور أوجه في أواخر العقد الثالث ومستهل العقد الرابع من القرن العشرين. ففي ذلك الحين شعر وجهاء اليهود كأنهم يعيشون على تربة راسخة لا يوجد أصلب منها في جميع أصقاع العالم. عبّر عن هذا الشعور حسقيل الكبير الذي غادر العراق عام 1932 -:
"...حتى عام 1932 لم يتمتع اليهود في العالم بحياة رغيدة كتلك التي حظي بها يهود العراق. لقد كانت التجارة والصناعة والمال في أيدينا ".
ويشارك فاضل الجمالي (1903-1997)، الذي شغل مناصب عالية في العراق الحديث، الرأي مع حسقيل الكبير بكل ما يتعلق برؤية اليهود للعراق، إذ أنه يقول في مذكرة قدمها عام 1946 إلى "لجنة التحقيق الإنكليزية – الأمريكية"، إن يهود العراق مسيطرون على تجارة البلاد ويتمتعون بمستوى معيشي عالٍ وإنه واثق بأنهم يدركون هذا الواقع الذي يعيشون فيه بسعادة بقدر ما يمكن أن تتمتع بها طائفة يهودية في أي مكان آخر في العالم. ويتهم الصهيونية بتعكير الجو الطيب السائد بين طوائف العراق وإلحاق الضرر بالانسجام الداخلي فيه الذي استفاد منه اليهود طوال آلاف السنين. إن الدعاية الصهيونية، حسب رأي الجمالي، أربكت يهود العراق من دون ذنب ارتكبوه، ونتيجتها ستكون القضاء على إخلاص الشباب اليهود السياسي للبلاد.
لم يفقد المعيار الاقتصادي من ثقله في تخطي العقوبات أيام المحن والحقب التي ساد فيها التوتر بين اليهود والمسلمين، وكان عاملاً في تخفيف الفواجع التي انتابتهم والمحافظة على تمسك وجهائهم بالتوجه نحو "الوطنية العراقية". وهذا ما حصل بعد فاجعة "الفرهود" التي ذهب ضحيتها 180 يهوديا قضوا فيها ففي حينه أصاب بعض المنادين "بالتوجه نحو الوطنية العراقية" جزع، وأراد قسم منهم مغادرة العراق، لكن الجو الهادئ الذي ساد في العراق بعد هذه الفاجعة وخاصة الانتعاش الاقتصادي الذي دام طوال أيام الحرب العالمية الثانية، هدأ من روعهم، ففي تلك الحقبة توفرت لليهود أسباب العيش والرزق وتوظف المثقفون منهم لدى الجيش البريطاني ووفَّرَ تجَّارهم احتياجات ومؤناً للجيوش الكثيرة التي تواجدت في العراق في حينه، وتسلم أصحاب المهن طلبات لأعمال شتى. فعدل زعماء ومفكرون أمثال يوسف الكبير وأنور شاؤول، بعد مدة وجيزة، عن نيتهم مغادرة العراق إثر فاجعة "الفرهود"، وعادوا للإشادة بالتوجه نحو "الوطنية العراقية ".
تكرر مثل هذا التوجه الفكري عندما مارست السلطات العراقية سياسة التنكيل والإجحاف بحق اليهود بين عامي 1948-1950 في أعقاب الحرب التي نشبت عام 1948 بين إسرائيل والدول العربية. ففي هذه المرة أيضاً كان وجهاء اليهود وأثرياؤهم واثقين من انها سحابة صيف لابد أن تنجلي وأن تعود الحياة لمجاريها. ومن بين هؤلاء عائلات مرموقة، كعائلات دانيال والكبير ودنكور وسودائي وخلاصچي، وسمرة وغيرها. وكانت بحوزة هذه العائلات أموال منقولة وغير منقولة بالإضافة لمكانتها الاجتماعية. ففي 5 من شهر آذار/مارس من عام 1951 أعلن مدير قسم ضريبة الدخل ومفتش البنوك في العراق أن الهجرة اليهودية ليس لها تأثيرُ كبيرُ على واردات ضريبة الدخل لآن أغلبية التجار اليهود أثروا عدم مغادرة العراق ولم يتنازلوا عن جنسيتهم العراقية.

              

  العين مناحيم صالح دانيال ونجله العين عزرا مناحيم دانيال

الإسناد التاريخي والتربوي

في صميم المبرر أو المسَوِّغ التاريخي لتمسك وجهاء اليهود بأرض الرافدين، تقف شاخصةً أمور وأحداث مرت بها الجالية اليهودية في أرض الرافدين خلال ما ينيف على 2500 عام، منذ سبيهم بيد الآشوريين في القرن الثامن ق.م.، وخراب هيكلهم وسبيهم بيد البابليين عام 586 ق.م. ويتذرع بتلك الأحداث وتلك الأمور الكثير من الذين حبذوا البقاء في العراق ولم ينضموا للأغلبية التي فضلت الهجرة منتصف القرن المنصرم. ويظهر ذلك جلياً في كُرّاس دعائي نشرته الحكومة العراقية عام 1969 باللغة الإنكليزية تحت عنوان -: يهود العراق يتحدثون عن أحوالهم Iraqi Jews Speak for Themselves يتضمن هذا الكُرّاس مقابلات أجراها مراسل صحيفة "بغداد اوبزرفر" ( The Baghdad Observer) الحكومية مع ثلاثة وثلاثين وجيهاً من وجهاء يهود بغداد، من بينهم الحاخام ساسون خضوري (1886-1971) رئيس الطائفة الموسوية بالوكالة، الأديب والشاعر أنور شاؤول (1904-1984)، الأديب والشاعر مير بصري (1911-2005) الذي شغل منصب رئيس الطائفة بالوكالة بين عامي (1971-1974) والطبيب سلمان درويش وغيرهم. أجمع الكل تقريباً على نفي الصهيونية وأعلنوا أن بلاد الرافدين هي وطنهم التاريخي والدليل على ذلك تمسكهم به لمدة تنيف على 2500 سنة، وأنها مسقط رأس جدهم الأكبر إبراهيم الخليل عليه السلام الذي وُلد في مدينة أور بجنوب العراق، وعليه فإن يهود العراق ليسوا عراقيين فحسب بل انهم ينتمون إلى العرق العربي الخالص. ولتعزيز حجتهم أشاروا إلى مراقد أنبيائهم وأوليائهم المنتشرة في ربوع العراق.
من الواضح أن هذا الكُرّاس الذي نشر، كما أسلفنا باللغة الإنكليزية، خدمة للدعاية الرسمية العراقية ومحاولة لتهدئة موجات الغضب التي عمَّت دولاً ومجتمعات مختلفة في أنحاء العالم من جراء سياسة الإجحاف والتنكيل بيهود العراق التي اتبعتها في حينه حكومة البعث ضد مواطنيها اليهود، بما في ذلك من إعدامات وخطف واغتيال وتعذيب في السجون. لذلك فمن الممكن القول إن هذه اللقاءات تمت تحت ضغوط وتهديدات وإن هذه التصريحات، التي أدلى بها اليهود، طوعت لتناسب رغبات النظام آنذاك. ومع ذلك ليس بإمكاننا التغاضي عما قاله بعض وجهاء الطائفة، بعد أن يأسوا من تحقيق حلم الاندماج والعيش في العراق، وبعد أن اضطُروا إلى مغادرة العراق. كالصحافي والشاعر أنور شاؤول الذي قال في كتابه "قصة حياتي في وادي الرافدين" الذي صدر في إسرائيل عام 1980، بعد تسع سنوات على مغادرته العراق -:
"وحقيقة كياني، بل حقيقة جذوري في وادي الرافدين كانت مثار تساؤلي عبر وجودي في العراق. هل أنا من سلالة أولئك الإسرائيليين الذي أجلاهم الملك البابلي (نبوخدنصر) إلى بابل قبل 2564 عاماً؟ أم أنا من سلالة الذين لحقوا بإخوان لهم هناك بعد خراب الهيكل الثاني على أيدي طيطوس الإمبراطور الروماني قبل 1908 سنوات؟ أم أنا أقدم جذوراً من هؤلاء وأولئك، من بقايا (إبراهيم الخليل)، الذي رحل بأمر من ربه من أرض الرافدين إلى أرض كنعان؟ ".
أما مير بصري فقد صمد وبقي في العراق حتى عام 1974، حينها اضطر لمغادرته إلى المملكة المتحدة، ولكنه لم يتنكر في بلاد المهجر لعراقه وأسند إخلاصه لبلاد الرافدين بالتلويح بنصيحة النبي إرميا التي أسداها للأسرى اليهود في بابل، كشعار في مستهل كتابه "أعلام اليهود في العراق الحديث" الذي صدر في إسرائيل عام 1983-:
"واطلبوا سلام البلد الذي أوعزت بنقلكم إليه أسرى، وصلّوا إلى الله من أجله ففي سلامه سلام لكم" - إرميا، (7:29) ".
لوّح بصري بهذا الشعار بعد مضي تسعة أعوام على نزوحه من العراق واستقراره في بريطانيا حيث الأمان والطمأنينة وانعدام التهديد والتخويف. ولم يناقض كلامه في المهجر التصريحات عن إخلاصه للعراق التي أدلى بها تحت سلطات غاشمة. لا شك أن تلويحه بهذا الشعار إنما جاء ليبرر تأييده للتوجه نحو "الوطنية العراقية" وذلك بالرغم من الخذلان الذي انتاب المؤيدين لهذا التوجه.
وكذلك الطبيب سلمان درويش، بمقابلته لمراسل "بغداد اوبزرفر" أدلى هو الآخر بآراءٍ مماثلة لتلك التي أدلى بها كل من أنور شاؤول ومير بصري. ففي كتابه "كل شيء هادئ في العيادة" الذي صدر عام 1981 في إسرائيل، تطرق الدكتور درويش إلى حوار جرى بينه وبين رئيس الطائفة بالوكالة الحاخام ساسون خضوري عام 1962 بعد عودته من رحلة قام بها خارج العراق، في فترة تمتع بها اليهود، تحت حكم الزعيم الركن عبد الكريم قاسم، بمساواة وبحرية مطلقة. ويبدو جلياً من مطالعة الحوار مدى تمسك الزعامة اليهودية بالعراق "وبالوطنية العراقية". الحوار -:
"في اليوم التالي من وصولنا إلى بغداد قصدت الحاخام في ديوانه وبعد السلام وارتشاف القهوة دار بيننا الحديث التالي:
● سألني الحاخام: ما الذي يقوله عنا يهود لندن؟
● إنهم يوجهون إلينا أشد الانتقاد ويلوموننا لأننا لا ننتهز الفرصة لمغادرة العراق نهائياً ما دام بالإمكان الحصول على جوازات سفر.
● قال: ولماذا أليست الحالة هادئة والسفر إلى الخارج متيسر لمن يريد؟
● قلت: إنهم يعترفون بميزات الظروف الحالية ولكن هل في الإمكان ضمان ذلك دوماً؟
● قال: لا.
● قلت: ولهذا إنهم يلوموننا.
● قال: يظهر أن هناك انحرافاً أو تغييراً في تفكيرك واتجاهاتك. وهنا كان الأستاذ أنور شاؤول بين من كانوا في الديوان وسرعان ما أشار عليّ من طرف خفي بأن أُخفف من الجدل وأُلطف الجو، فقلت:
● إنني يا سيادة الحاخام أُعبر عن رأي من هم في لندن وليس عن رأيي الخاص، وإنني أُطمئن سيادتكم بأننا الموجودين هنا لا نزال من مؤيدي رأيكم من أن لا محل آخر لنا في العالم خير من العراق وسرعان ما تركنا الموضوع وتطرقنا إلى حديث آخر... ".
يُستنتج من التأمل في أقوال وأفعال أعلام يهود الطائفة اليهودية في العراق، أن الذين قابلوا مراسل صحيفة "بغداد اوبزرفر" يُمثلون بإخلاص تياراً كان سائدا لدى زعمائهم وفي أوساط يهود بغداد.
يقول حسقيل الكبير، والذي ينتمي لاحد العائلات المرموقة في بغداد، بعد أن نزح إلى لندن عام 1932-:
"أنا واثق من أن أصل اليهود من العراق، هي أور الكلدانية، من المحل الذي خرج منه أبونا إبراهيم، ومنه سعى لخطب زوجة لنجله اسحق، فأرسل عبده إلى مسقط رأسه للقيام بالمهمة، ويتضح من هنا أن له شعوراً حميماً خاصاً نحو الشعب الذي يقطن هذه البلاد، فلولا ذلك لما تحمل الصعاب والنفقات المتطلبة للحصول على امرأة لولده من أقاصي الأرض".
"وبعد آلاف السنين احتل البابليون مملكة يهودا وسبوا الكثير من سكانها. وبعد مضي عدة سنوات تأقلموا في بيتهم الجديد، وبالأحرى في أرض أجدادهم، وسرعان ما انتعشوا، وازدهروا واغتنوا وأصبح لهم تأثير، وبعد خمسين عاماً أتاح لهم كورش العودة إلى يهودا لبناء هيكلهم من جديد فلم يستجب له سوى قلة منهم، وآثرت الأغلبية البقاء في أرض سبيهم".
"وليس بإمكاني إلا أن أُلخِصَ وأقول إن البابليين استقبلوهم بالترحاب والسِعة. فإذا كان اليهود قد رفضوا الاستقلال فهذا دليل أن سعره بالنسبة إليهم كان باهضاً".
تبنى مؤيدي التوجه نحو "الوطنية العراقية" في الأربعينات من القرن المنصرم الحجج والبراهين التاريخية التي تبناها أسلافهم قبل عقدين من الزمن، وتوصلوا إلى استنتاج أنهم في الواقع عرب أكثر عروبةً من العرب المحليين. وفي هذا الصدد يتكلم، الصحافي والأديب نعيم قطان، الذي ولد في العراق عام 1928 ويشهد على نفسه أنه يهودي عراقي مُحِبا للتقاليد والتراث العربيين ويعتبر العراق وطنه، معبراً عن الشعور والإحساس الذي غمره أثناء زيارة لآثار بابل في نطاق جولة مدرسية -:
"...اليهود لوحدهم يستطيعون الشعور بنبضات الماضي الذي تحت هذه الأنقاض، قال لنا المعلم اليهودي. ليس هناك شيء يربط العرب ببابل القديمة. فعندما احتلوا البلاد كنا هنا. نحن أبناء الوطن الحقيقيون... جئنا كأسرى بأيادي نبوخدنصر ولكن تمكنا من التغلب على الهزيمة. وفي هذه الأرض دوّنا التلمود... أحفاد الأسرى أصبحوا علماء وفلاسفة كبار. هل نحن خليقون بآبائنا، سأل المعلم وأضاف: "علينا أن نخجل من كسلنا وتهاوننا"... وعند عودتنا في ذلك اليوم أغمضت عينيي وشعرت كأنني أسير بجانب أحد الأسرى حافي القدمين في القيظ وعلى ظهري عبءٌ ثقيلٌ، ولكن لم نطأطئ رؤوسنا خجلاً، بل رفعناها وتهيأنا لنعطي العالم "التلمود" - كنز الحكمة ".
وكذلك المحامي شالوم درويش (1913-1997) الذي شغل منصب سكرتير الطائفة اليهودية في بغداد لسنين طوال، والذي كان مرشحاً في الانتخابات للبرلمان العراقي في قائمة "الحزب الوطني الديمقراطي"، اضطُر إلى مغادرة العراق عام 1950 هرباً من الملاحقات، قال، معرباً عن عمق جذوره في العراق وتمسكه بالهوية العراقية، إنه آثر الهروب من العراق لأن معنى إسقاط جنسيته والتخلي عن الهوية العراقية في نظره بمثابة لعنة ".
لم يستقر انتماء اليهود تاريخياً لبلاد الرافدين في أذهان اليهود فحسب بل تعداه إلى أذهان غير اليهود من أهالي البلاد. فمثلاً، يقول العلامة والمؤرخ المسيحي، يوسف رزق الله غنيمة، في كتابه " نزهة المشتاق في تاريخ يهود العراق" الذي صدر في بغداد عام 1924، ما يلي -:
" إذا كانت بلاد كنعان لليهود أرض ميعادهم وقبلة آمالهم وتعلة سعادتهم ومحط رحالهم بعد تيههم، فالعراق وطن أجدادهم ومنشأ آبائهم ومهد لغتهم وأرض سبيهم ومآبهم بعد خراب هيكلهم ودمار مقدسهم. وإذا كان الأردن نهرهم المبارك ومياهه مطهرة عاهاتهم فالرافدان نهران ذكرهما كتاب دينهم بين أنهر الفردوس كما ذكر شنعار وبين النهرين وبابل وآثور ".
وعن علاقات العبريين من ذرية إبراهيم بالعراق يقول غنيمة -:
"فلنرجع إلى إبراهيم والمهاجرين. كان المهاجرون العبريون من بين النهرين يذكرون وطنهم ويصبون إلى ديار مولدهم ويخطبون أزواجاً لأولادهم من بنات بين النهرين وكانوا يعدونهم أشرف نسباً وأعرق حسباً من بنات يهود كنعان"، ثم يمضي غنيمة ويشيد بإنجازاتهم في شتى المجالات ويقول -: "لم يرجع منهم [في عهد كورش] إلا القليل ومن الذين لم يكن لهم زرع ولا ضرع ولا ملك ولا تجارة في بابل. أما رجال التجارة والأعمال فأنهم اختاروا البقاء في بابل يرتعون في بحبوحة الهنا ويدأبون في زيادة ثروتهم... ولم تقتصر همة اليهود في بابل على الزراعة والتجارة كما بيننا، بل تفرغت طائفة منهم للمهن والصناعات المختلفة، وقصارى القول إن اليهود أقاموا لهم وطناً ثانياً ووجدوا في بابل مضماراً لنشاطهم...وكان اليهود مبثوثين في العراق حتى أطلق اسمهم على أمكنة عديدة منها: قنطرة اليهود الوارد ذكرها في مادة "كراخيا" من "معجم البلدان"، ومنها "اليهودية" و"درب اليهود ".
كذلك فاضل الجمالي، الذي لم يُعرف عنه كمن أحب اليهود، أعلن عن أسفه لرحيل يهود العراق قائلاُ إن يهود العراق هم أبناء البلاد القدماء ويجب الاحتفاظ بهم والدفاع عنهم. وأدلى بكلام مماثل في المذكرة التي قدمها إلى "لجنة التحقيق الأنكلو - أمريكية" في قضية فلسطين، التي عقدت اجتماعاتها في القاهرة في شهر آذار/مارس من عام 1946، إذ كتب -:
"إن الطائفة اليهودية في بغداد هي من أقدم الطوائف وإن تعداد سكانها 100.000 نسمة، مما يجعلها المدينة الثانية في الشرق الأوسط بعد تل ابيب وأضاف إن اليهودية هي دين وليست قومية وأن السلطات العراقية تنظر إلى اليهود كطائفة دينية إلى جانب الطوائف الأُخرى - المسلمة والمسيحية ".

بتصريح مماثل أدلى رئيس الحكومة العراقية حمدي الݒاچچي بمقابلة أجراها مع الوفد التأسيسي لعصبة مكافحة الصهيونية عام 1946، أعرب فيه عن إخلاص يهود العراق لبلاد الرافدين الذي استوطنوها منذ آلاف السنين ".

التمسك بحبل اللغة العربية والتراث الإسلامي

ظهر بعد الحرب العالمية الأولى أوائل الكتاب والشعراء اليهود الذين أنتجوا أعمالهم باللغة العربية. وليس من الممكن الاستدلال على انتمائهم الطائفي من خلال قراءة إنتاجهم الأدبي بل على كونهم عراقيين. ومن بين هؤلاء تجدر الإشارة إلى: مير بصري وأنور شاؤول والدكتور مراد ميخائيل ويعقوب بلبول (ليب) والمحامي شالوم درويش وإبراهيم يعقوب عوبديا والدكتور سلمان درويش، والطبيب البيرت إلياس.
إن الإنتاج العلماني ليهود العراق باللغة العربية الفصحى هو نتيجة واضحة من تعزيز التعليم والتثقيف العلماني على حساب التعليم والتثقيف الديني الذي بدأ عام 1864 بافتتاح مدرسة "الأليانس" في بغداد. وكانت مجلة "المصباح"، التي صدرت في بغداد في سني 1924-1929، منبراً للكثير من الكتاب اليهود. ولم يرَ سلمان شينا صاحب الصحيفة تناقضاً بينها وبين نشاط الحركة الصهيونية التي أجيز عملها آنذاك في العراق ولم يجد أيَّ مانع من التحاقه بالحركة آنذاك. أما أنور شاؤول محرر الصحيفة فكان من أشد المتحمِّسين "للوطنية العراقية".
فسحت مجلة "المصباح" المجال لترويج "الوطنية العراقية" والإشادة بها وذلك عن نشر مواضيع وأحداث ذات صلة بالوحدة العراقية والتلويح بالعلامات الشاخصة في تطورات العراق الحديث. فمثلاً، في حزيران/يونيو 1924 قدمت الصحيفة تهانيها للشعب العراقي بمناسبة تحديد طول وعرض وألوان العلم العراقي راجية من المولى تعالى "أن يديمه خافقاٌ بعزٍ فوق ربوع العراق أبد الدهر ". وفي 21 من شهر آب/أغسطس من عام 1924، عبر "المصباح" عن سروره وابتهاجه بمناسبة حلول ذكرى عيد تتويج الملك فيصل الأول ملكاً على العراق الآتي بعد يومين، تحت عنوان "تهاني العيد" -:
"...من الأعياد السعيدة...العيد الذي كان فاتحة عصر للعراق...عيد ذكرى تتويج ملكنا المعظم فيصل الأول أيد الله عرشه بالنصر المبين... ليحي العراق وليحي ملك العراق وليحي أبناء العراق ".
ونشرت "المصباح" تهاني مماثلة في آذار/مارس 1925 بمناسبة تصديق الدستور العراقي بتوقيع من الملك فيصل الأول. وكذلك عند انتخاب أعضاء البرلمان في 16 تموز/يوليو من عام 1925.
إلى جانب هذه التبريكات والتهاني نشرت الصحيفة أشعاراً لأنور شاؤول أشاد فيها للوطن العراقي وللأمة العربية. فمثلاً نشرت له الصحيفة أبيات شعر مهدات لفتيات العراق بعنوان "فتاة العراق"، مطلعه: "ظبية العرب يا فتاة العراق ". وفي أبيات أخرى بعنوان "بلادي" يشيد ببلاده وبدجلة والفرات، منها -:
أحب بلادي وعز بلادي وكل امرئ في بلادي سكن
فدجلة حنت لنهر الفرات كذلك الفرات لدجلة حن
وفي قصيدة له تحت عنوان "كوامن الصدر" يبدي أنور شاؤول أسفه على مجد العرب الذي قتلته مصائب الدهر، منها -:
ذكر العرب أن للعرب عزاً قتلته أيدي النوائب قتلا
فلنعده إلى الحياة بهياً لنعد عزنا القديم وإلا
وفي قصيدة أخرى تحت عنوان "تحية جلالة الملك" يأمل من جلالة الملك أن يعيد للعراق مجده، منها:
فأعد إلى قطر العراق فخاره ومقامه لنرى الزمان الأوَّلا
وليبق عرشك شامخاً بسموه ولتحي أنت معظماً ومبجلا
أضف إلى ذلك المقالات المؤيدة لبلاد العراق تحت عناوين مختلفة ك " فجر النهضة وتهذيب الأخلاق"، "الوطنية"، "الكشاف الإسرائيلي في العراق - المدرسة الوطنية"، "نهضة الشبيبة في ربوع الرافدين وغيرها ".
أما المحامي شالوم درويش فأبدى أسفه لافتقار الأعياد الوطنية في العراق، ففي مقال له تحت عنوان "افتقارنا إلى أعياد وطنية" يشكو درويش من انعدام الأعياد الوطنية التي يمكن لجميع طوائف البلاد الاحتفاء بها.
فتحت "المصباح" الباب على مصراعيه أمام المرشحين في الانتخابات للبرلمان العراقي من أبناء الطائفة اليهودية المنادين "بالوطنية العراقية". وأيدتهم تأييداً غير قابل للتأويل مشيدة بوطنيتهم العراقية المميزة وخصصت لهم سلسلة مقالات عن سِيَرهم الذاتية وإبراز حبهم وموالاتهم للوطن العراقي.
ظهرت براعم الموالاة للتراث الإسلامي والعربي عند يهود العراق في مستهل الثلاثينات من القرن المنصرم، وكان رائدها الدكتور نسيم سوسة الذي نشر عام 1930 مقالاً في جريدة "الأحرار" البيروتية، بعنوان "فلسطين بين العرب والصهاينة" تهجّم فيه على الصهيونية وعلى الاستعمار الغربي ونادى من أجل الكفاح في سبيل فلسطين، ثم أعقبه بمقال آخر تحت عنوان "الأعياد العراقية"، نشره في جريدة "الأخبار" في 22 تشرين الثاني/نوفمبر 1932، طالب فيه إلغاء العطل المعطاة للموظفين اليهود بدوائر الحكومة في الأعياد اليهودية بداعٍ أن كثرة العطل في هذه الأعياد تؤدي إلى عرقلة أعمال الجهاز الحكومي..
سارت مواقف سوسة به إلى اعتناق الإسلام عام 1936 وأضيف لاسمه "أحمد"، فأصبح أحمد نسيم سوسة. هاجم سوسة بشدة إخوانه في الدين منذ أمد ليس ببعيد، وطالبهم بالرجوع عن طريقهم السيء، لإثبات ولائهم لبلادهم والاعتراف بفضل الإسلام. وناشد يهود الشرق العربي، الذين اعتبرهم اليهود الأصليين المنتمين للعرق السامي، قائلاً: إن بينهم توجد قلة صغيرة جداً ذات شعور وطني رافضة للصهيونية. وعندما أصدر مثقف يهودي بياناً عام 1936 استنكر فيه الصهيونية والسياسيين الصهاينة، الذين يسيرون ويهود العالم في درب الضلال رد عليه سوسة بخطاب بلاغي:
"ما هي الأعمال التي قام بها اليهود العرب ليبرهنوا على عدم إقرارهم أحلام الصهيونيين وخيالاتهم؟ وما هي التبرعات التي قام بها أغنياء اليهود العرب للاشتراك فعلاً في قمع الحركة الصهيونية؟ وأين الاحتجاجات التي رفعوها وهل اشتركوا بحركة ضد الصهيونية؟ أليس سكوتهم دليلاً على الرضى؟"، وقال أيضاً، "إن الصهيونية هي وليدة الدين اليهودية وإن العادات والتقاليد اليهودية وبالأخص العصبية العنصرية التي تعتبر جزءاً من اليهودية هي التي ولدت الصهيونية".

وتجدر الإشارة هنا إلى أن عدد معتنقي الإسلام من يهود العراق الحديث كان ضئيلاً جداً، ولم يكن من بينهم آنذاك من أعتنق الإسلام لأسباب أيديولوجية أو دينية ما عدا نسيم سوسة.
ومع ذلك، لم تكن أفكار سوسة بعيدة عن أفكار بعض المثقفين اليهود الذين راودت أفكارهم اعتناق الديانة الإسلامية تخلصاً من الملاحقة والاضطهاد، وفي هذا الصدد يقول سلمان درويش في مقطع من رسالة لأخيه -:
"...ولا بد لي من أن أُورد هنا وقائع اجتماع سري وخاص، لم تحضره أنت على ما أتذكر، كان قد دعا إليه أحد الأطباء اليهود المعروفين...ألقى علينا ذلك الطبيب اليهودي خطاباً مطولاً اقترح فيه علينا اعتناق الديانة الإسلامية - ديانة الأكثرية - بالجملة تخلصاً من الملاحقة والاضطهاد على أن نتحاشى قدر الإمكان المس بالآباء والشيوخ، وطال الأخذ والرد بين الحاضرين وظهر أن أكثرية الحاضرين يحبذون الفكرة مبدئياً، وأُجل الاجتماع على أن يدرسه المستمعون ويصوتون عليه في فرصة أُخرى".
تسرب خبر هذا الاجتماع إلى بعض الشخصيات اليهودية التي سرعان ما استنكرته بشدة، كما وصل إلى بعض المسلمين، ولم يعقد اجتماع ثانٍ بعده.
لكن النموذج المميز لمدى تأثير وعمق الثقافة العربية والتراث الإسلامي على الطبقة المثقفة من يهود العراق يجده القارئ في رباعية لأنور شاؤول بعنوان "الدين والوطنية" أعرب فيها عن حبه لأُمة محمد وأشاد بسماحة الإسلام مؤكداً أنه سيبقى وفيا كالسموأل ومتمسكاُ ببغداد مهما كانت تقلبات الدهر -:
إن كنت من موسى قبستُ عقيدتي فأنا المقيم بظل دين محمد
وسماحة الإسلام كانت موئلي وبلاغة القرآن كانت موردي
ما نال من حبي لأُمة أحمد كوني على دين الكليم تعبدي
سأظل ذياك السموأل في الوفا أسُعدت في بغداد أم لم أُسعد
كتب أنور شاؤول هذه الرباعية في شهر شباط/فبراير من عام 1969 حين بلغ التعسف والإجحاف بحق اليهود أوجه. ففي ذلك الحين علّق "حزب البعث" على أعواد المشانق تسعة بهود وزجّ العشرات منهم في غياهب السجون.

عاد أنور شاؤول بعد شهرين بقصيدة ٍممجداً فيها العروبة ولسان الضاد في مهرجان الشعر الذي انعقد ببغداد في 24 من شهر نيسان/أبريل من ذلك العام. من أبيات تلك القصيدة -:
قلبي بحب بني العروبة يخفق وفمي بضادهم يشيد وينطق
أولست منهم منبتا وأرومة قد ضمنا الماضي البعيد الأوثق
لم يستطع أنور شاؤول، رغم حبه وإشادته بالعروبة والإسلام ولسان الضاد، الصمود طويلاً تحت حكم البعث الغاشم وهجر العراق إلى إسرائيل في أيلول/سبتمبر من عام 1971. ذهب بعض المثقفين اليهود بعيداً في ولائهم للأهداف القومية العربية ونظموا أشعاراً مؤيدة لهذه الأهداف إلى جانب حبهم للعراق. فمثلاً، إبراهيم يعقوب عوبديا الذي ينقسم ديوان شعره "وابل وطل"، الذي صدر عام 1946، إلى بابين، أطلق على بابه الأول "ألحان الوطن" وأدخل فيه قصيدة تحتوي على 48 قافية بعنوان "فلسطين والاستعمار"، تهجم فيها على الصهيونية وتباكى على مصير فلسطين، قال فيها -:

هم خلقوه صهيوناً للأمرٍ وما صهيون غير أداة هوس
فللمستعمرين متى استبدوا مرامٍ لا تمر بكل رأس

ساهمت أقوال المثقفين اليهود وتمسكهم بأهداب التراث الإسلامي واللغة العربية مساهمة كبيرة لترسيخ فكرة التوجه نحو "الوطنية العراقية" وجاءت ملائمة لمعيارهم الاقتصادي ومنسجمة مع ما تحتم عليه شريعتهم من الانصياع لأوامر السلطة الحاكمة "דינא דמלכותא דינא" (أمر السلطة مطاع). ففي الماضي، وحتى ظهور طبقة المثقفين اليهود المنتجين باللغة العربية، كان أبناء الطائفة في زمن الإمبراطورية العثمانية يُشيدون أحياناً بسماحة الإسلام ويعترفون بحسنة العثمانيين عندما وفروا ملجأً لليهود الفارين من إسبانيا في أواخر القرن الخامس عشر، ولكنهم لم يشيدوا حينذاك بلغة الضاد وبالعروبة وبالقرآن. لقد نجم هذا التحول من دراستهم وولعهم باللغة العربية ذات العلاقة الوطيدة بالقرآن الكريم الزاخر بمكامنها ومعانيها.
المعايير البرغماتية في صلب "الوطنية العراقية"
حكم السلطة مطاع
إلى جانب المبررات التاريخية والحضارية التي أُسندت عليها أيديولوجية الموالين "للوطنية العراقية، انسجمت الوصية الدينية التي تفرض على اليهود الانصياع لأحكام السلطة "דינא דמלכותא דינא" (أمر السلطة مطاع). اتخذ رؤساء الطائفة اليهودية هذه الوصية لتبرير المسالك والخطوات التي اتبعوها منذ الاحتلال البريطاني للعراق. وكانت سياسة الحاكم وتلك التي ظنوها سياسته، هي التي توجه الخطوات التي اتخذوها. ففي حقبة الاحتلال البريطاني، حاول زعماء الطائفة اليهودية الحصول على الهوية البريطانية وعلى حماية بريطانيا العظمى ليهود العراق، ظناً منهم أن هذا ما يريده المحتل وأنه باقٍ في العراق لأمد بعيد.
وفي مستهل العشرينات من القرن المنصرم، عندما أعلنت بريطانيا عن عزمها إنهاء حكمها في العراق وتتويج فيصل ملكاً عليه، سارع رؤساء الطائفة اليهودية في تغيير موقفهم وأعلنوا عن إخلاصهم للملك الجديد. ولم يناقض النشاط الصهيوني والتأييد له في عشرينات القرن العشرين من قبل شرائح من يهود العراق، موقف سلطة الانتداب البريطاني وموقف الحكومة العراقية المترددين وغير الواضحين نحو الحركة الصهيونية التي مارست نشاطها بترخيص من السلطات الحاكمة.
وعندما انقلبت المعايير في الثلاثينات حين اتخذت السلطات العراقية سياسة مغايرة نحو النشاط الصهيوني في البلاد ونفت بحزم هذا النشاط نفياً قاطعاً، عندها انصاع اليهود للأمر وتوقفوا عن القيام بأي نشاط أو تأييد للصهيونية. فمنذ أن طُردت السلطات العراقية المدرسين اليهود الذين أتوا من الديار المقدسة للتدريس في المدارس اليهودية، وتم تهجير رئيس الحركة الصهيونية عام 1935 إلى فلسطين، لم يعد هناك من يمارس نشاطاً صهيونياً، بل على العكس، حينذاك خرجت علية القوم بتصريحات منددة بالصهيونية وذلك انصياعاً لأوامر الحكام. ولم يتجدد النشاط الصهيوني في العراق حتى عام 1942 بعد مذبحة "الفرهود" حين انقلب الشباب اليهود على زعماء طائفتهم بانضمامهم إلى الحركة الصهيونية السرية، مناقضين كلياً الوصية الدينية التي تحتم على اليهود الطاعة والانصياع للسلطة الحاكمة.
ويقول المحامي شالوم درويش في هذا الصدد، إن سبب معارضة كل من المحامي يوسف الكبير (1898-1990) والعين عزرا مناحيم معارضة قطعية للصهيونية في الثلاثينات من القرن المنصرم كان تمسكهم بالوصية الدينية: "حكم السلطة مطاع". وعلى هذا الأساس استجاب رؤساء الطائفة اليهودية لطلب رئيس الحكومة العراقية صالح جبر ووزير العدل أحمد جمال بابان وأعلنوا ببيان لهم استنكارهم لقرار مجلس الأمم المتحدة الذي صدر في 29 من شهر تشرين الثاني/ نوفمبر عام 1947 بتقسيم فلسطين، وأكدوا على إخلاصهم للعراق ورفضوا رفضاً باتاً وجود أية علاقة لهم بيهود فلسطين
كان انصياع اليهود لقوانين البلاد وإطاعة حكامها بنظر حكام العراق بمثابة حجر أساسيٍ لبناء علاقاتهم مع مواطنيها اليهود، ورفضوا بشدة أي انحراف عن جادة الطاعة والانصياع التي ساروا عليها طوال آلاف السنين. وعندما انحرفوا عنها ردَّت السلطة بالقمع والتعسف، كان ذلك بعد أحداث "الوثبة" والمظاهرات ضد "معاهدة ݒورتسموث" وضد الحكومة العراقية، التي اشترك فيها الكثير من شباب اليهود المنتمين "للحزب الشيوعي" وأيدتها رئاسة الطائفة التي انجرت وراء الأحداث، فعند ذلك رفع نوري السعيد حماية الدولة عن أبناء الطائفة اليهودية نظراً لانحرافهم عن السير بالطريق المتبعة على ممر الأجيال، ولانتهاكهم "العهد" الذي يحتم عليهم الانصياع وعدم التآمر والدس ضد الحكومة. حينذاك، لجأ نوري السعيد إلى العناصر القومية المتطرفة والمعادية لليهود واتخذ وإياهم إجراءات تعسفية وممارسة سياسة عنصرية سافرة بحق أبناء الطائفة اليهودية.
معايير أمنية وسياسية
أدرك رواد التوجه نحو "الوطنية العراقية"، في مستهل عشرينات القرن المنصرم، أن القضية الفلسطينية والقومية العربية تحملان في طياتهما أضراراً لأمن الطائفة اليهودية ومكانتها. وكان مناحيم صالح دانيال أول من أعرب عن ذلك وحذر من القيام بأي نشاط من شأنه أن يرمي الشك في ولاء وإخلاص يهود العراق لبلادهم. ففي رسالة بعث بها إلى المنظمة الصهيونية في لندن رفض الاستجابة لطلبها بتأييد الحركة الصهيونية في العراق قائلاً إن نشاطاً صهيونياً في العراق، مهما كان نوعه، من شأنه أن يولد شعوراً معادياً لليهود عند المسلمين ويؤدي في نهاية المطاف إلى إصاباتٍ بالغة بالطائفة اليهودية وبزعمائها.
أثبتت الأيام صدق تكهنات مناحيم صالح دانيال. ففي الثلاثينات والنصف الثاني من أربعينات القرن المنصرم تدهورت أحوال يهود العراق تدهوراً كبيراً وأصبحت معاملة عناصر واسعة من السكان والكثير من الشخصيات ذات النفوذ في الأوساط الحاكمة معادية لهم، وكثرت الاعتداءات الجسدية والاقتصادية ضدهم.
لقد آمن الموالون "للوطنية العراقية" أن ولاءهم للعراق ورفضهم للصهيونية سيُسهمان في تحسين علاقاتهم مع الجماهير العربية ويحولان دون المس باليهود. لذا أصدروا بين الحين والآخر بيانات في ذم الصهيونية وإخلاصهم لبلادهم. وأصدروا هذه البيانات في أوقات المحن والشدة والملاحقات وذلك لتهدئة الرأي العام المعادي. فمثلاً، صدرت بيانات كهذه في النصف الثاني من ثلاثينات القرن المنصرم عندما كانت القومية العربية والدعاية النازية في رواج، وباتت أحوال اليهود حرجة جداً من جراء التنكيل بهم في الشوارع وإلقاء قنابل يدوية على معابدهم. وفي هذا الصدد يقول أنور شاؤول في كتابه "قصة حياتي في وادي الرافدين" -:
"وكانت ظاهرة أقلقت أبناء الطائفة اليهودية وأقضت مضاجعهم... وقال قائلهم: إنها سحابة صيف عن قريب تقشع...ولكن السحابة ما لبثت أن أمطرت ما لم يكن في الحسبان...ففي صباح أحد الأيام اغتيل يهودي في إحدى حارات بغداد وتردد صدى الحادث بسرعة البرق، فمن قائل إنها حادثة فردية لا توجب القلق ومن متنبئ بأنها بداية لأحداث جسام...واغتيل يهودي ثان وثالث..و..و..ثم طعن سكرتير (نادي الزوراء) بخنجر في صدره...وأُلقيت قنبلة على نادي (لورا خضوري) فأصابت أحد منتسبيه بجرح بليغ..."

"وانكمش أبناء الطائفة اليهودية على أنفسهم. وفي ظهيرة أحد الأيام دق الجرس في مكتبي وأخبرني المتحدث أن العين عزرا مناحيم دانيال يرجو حضوري لملاقاته في جنينته...ووجدت حاضراً عنده سماحة الحاخام ساسون خضوري رئيس الطائفة...دخلنا في صلب الموضوع...إن مسؤولين كباراً في وزارة الهاشمي [1936] اقترحوا على رجالات الطائفة أن ينشروا بعض البيانات الفردية والجماعية يعلنون فيها للملأ أنهم مواطنون مخلصون لوطنهم ولسياسة حكومتهم وأنهم لا علاقة لهم بأي شكل كان بالنشاطات الصهيونية..."

وفي اليوم التالي وفي فترات متتالية صدرت في الجرائد اليومية بيانات من أشخاص يهود تؤكد على وطنية اليهود وعراقيتهم الصميمة وابتعادهم عن كل ’ما يشم منه رائحة الصهيونية’..."
"وممن ساهموا في إصدار مثل هذه البيانات رئيس الطائفة نفسه والصحافيان ابن السموأل (أنور شاؤول) والسميذع العربي منشي زعرور (1897-1972) والكاتب والمعلق عزرا حداد (1900-1972) وعدد من الأطباء والمحامين وغيرهم."
"وهدأت الحالة بعض الوقت...ولكن النار لم تخمد إنما غطتها طبقة من الرماد لتشب بعد حين، من جديد، أشد إضراماً وأكثر التهاباً ".

لا شك أن هدف السلطات من إصدار هذه البيانات كان الاستعانة بها في الأوساط الدولية. ومع ذلك ليس من الممكن التغاضي عن أنها متجانسة مع نظرية التوجه نحو "الوطنية العراقية" التي نادى بها زعماء الطائفة اليهودية، وعبَّر عن ذلك المحامي شالوم درويش، الذي يشهد على نفسه أنه كان من الذين أسهموا في تحرير هذه البيانات، مستعيناً بأقوال كل من يوسف الكبير وعزرا مناحيم دانيال، وكلاهما من أصحاب الرأي والكلمة في الطائفة اليهودية في حقبة الثلاثينات والأربعينات من القرن المنصرم:

"على زعماء اليهود أن يعملوا جهدهم من أجل العيش بسلام مع الشعب العراقي والإخلاص للوطن، وذلك من أجل الحفاظ على أمن الطائفة وسلامتها ".
لم تصمد "الوطنية العراقية" أمام الواقع، وباءت على المنادين بها بالفشل والإحباط، لأن سكان البلاد العرب ورؤساء السلطة في العراق شككوا ببيانات زعماء الطائفة وإخلاصهم للوطن ولم يقتنعوا من تبرئهم من الصهيونية وموالاتهم لطموحات "القومية العربية"، إضافة إلى ذلك لم تستسغ عامة اليهود الأيديولوجية التي من ورائها، فبقيت راسخة عند صانعيها - زعماء الطائفة اليهودية في العراق وأثريائها وعند المثقفين أبناء طبقتهم - إذ فضل جلُّ هؤلاء البقاء في العراق ولم ينضموا لأبناء جلدتهم الذين هجروه في مستهل النصف الثاني من القرن المنصرم. ودام الكثيرون منهم على إخلاصه للعراق حتى الستينات والسبعينات إلى أن طغت سياسة التنكيل والإرهاب ضدهم تحت حكم البعث، فلم يستطيعوا الصمود فهجروا العراق تاركين أيديولوجيتهم.

للراغبين الأطلاع على الحلقة السابقة:

https://algardenia.com/2014-04-04-19-52-20/thaqafawaadab/48780-2021-04-24-06-21-45.html

   

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

944 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع