وأد البطل نهاية جيش وملحمة وطن / الباب الرابع: حرب الأمن الداخلي الفصل الخامس: الحرب على الفساد

          

الباب الرابع: حرب الأمن الداخلي - الفصل الخامس: الحرب على الفساد

   

الفساد

يتزايد الاهتمام في عراق ما بعد التغيير، وعلى كافة الأصعدة الرسمية وغير الرسمية بمسائل الانحراف، خاصة ما يتعلق منه بالفساد، وبالتحديد أسباب حدوثه، ومستويات انتشاره، وأثره السلبي على الكفاءة والاستثمار والنمو الاقتصادي، وكذلك طرق علاجه، بعد ان أصبح مشكلة أو آفة قضت على آمالهم في العيش بمجتمع جديد تقل فيه توجهات الاستغلال والتجاوز، وتنتهي في مجاله سبل القرارات الفردية والقفز من على القانون. الا انه وعلى الرغم من هذا الاهتمام الواسع، يقترب الوجود الكمي لحصوله، حدود التفكير العام باستحالة حل معضلته في المدى القريب. خاصة عند النظر الى موضوعه من جوانب الاحساس بانتشاره في المستويات العليا من مؤسسات الدولة، كما هو حاله في المستويات الدنيا، بفارق وحيد يتعلق بالنوعية وضخامة التجاوز.
فقبول رشوة أو عمولة مليون دولار من مسؤول حكومي عال المستوى مثلاً، يختلف فقط بالرقم عن حالة موظف في ذاتية البلدية، يتقاضى خمس وعشرون ألف دينار، ثمناً للتسريع بتمشية معاملة شرعية. واستنجاد كبار مسؤولي الدولة بالقضاء، لحل المعضلة، ومع كل حالة استنجاد تتصاعد مستويات الفساد في الدوائر والمؤسسات، ليقترب من ان يكون واقعاً مفروضاً، وسلوكاً معترف به، يهدد المجتمع العراقي بالفشل في تحقيق الديمقراطية، وإعاقة عملية التطور والبناء. وامتداد نفاذه الى بنية المؤسستين العسكرية والامنية، في ظروف يقاتل منتسبيها في الشارع والمزرعة والمحلة، وسط جمهور متأرجح في اتجاهاته وتوجهاته، دون اعارة هذا الامتداد الاهتمام الكافي، للحد من تأثيراته على عملية اعادة البناء.
التعريف الرسمي للفساد
بسبب استشراء ظاهرة الفساد عالمياً، وانعكاساتها السلبية على المجتمعات الفقيرة بشكل خاص. ونظراً للاهتمام الدولي المتزايد بحالتها وضع البنك الدولي تعريفاً للأنشطه التي تندرج تحت تعريف الفساد قوامها:
إساءة استعمال الوظيفة العامة للكسب الخاص. (6) وعلى اساسه يكون الفعل أو السلوك فساداً عندما يقوم موظف بقبول أو طلب رشوه أو ابتزاز الغير، من أجل تسهيل عقد أو إجراء طرح لمنافسه عامة. وعندما يعرض وكلاء أو وسطاء لشركات أو أعمال خاصة، بتقديم رشى للاستفادة من سياسات أو إجراءات عامة، للتغلب على منافسين، وتحقيق أرباح خارج إطار القوانين المرعية. كما يمكن أن يحصل الفساد عن طريق استغلال الوظيفة العامة، وذلك بتعيين الأقارب في المناصب الوظيفية. وسرقة أموال الدولة مباشرة. ومحاباة المعارف والأصدقاء وتسهيل إعمالهم خلافا للقانون (7).
واقع الفساد العام
لقد انتشر الفساد ليكون معلماً واضحاً في مؤسسات الدولة والمجتمع العراقي بشكل ملموس مع بداية حقبة صدام الزمنية، وزاد وجوده في المؤسستين الامنية والعسكرية على وجه الخصوص خلال الحرب مع إيران، بسبب:
1. النظرة المفرقة. درج القادة الكبار في جميع الحروب التي حصلت، تحت تأثير القرابة والصداقة والمنفعة على التفريق بين المعية لما يتعلق بالمحافظة على الحياة والمجازفة بها. وسار الى جانبهم آمرين بجميع المستويات، استغلوا منتسبيهم في اعمال خاصة تعود بالنفع المادي إليهم، مقابل المحافظة على الحياة.
فتقبلوا رشا ليُبقُونَ من يدفع مالاً أكثر في بيته بعيداً عن خطر الموت في القتال، ويعيدون من يهدي أكثر الى المقرات الخلفية، ويثبتون من يقترب في النسب أكثر في المكاتب والحمايات الخاصة، حتى اتسعت بالتدريج رقعة المنفعة المتبادلة سعياً للابتعاد عن ساحة الحرب كمصدر يهدد الحياة، وتعددت اشكالها لتشمل على سبيل المثال:
- اجازة اعتيادية فوق الاستحقاق بثمن تشترى.
- احالة مرضية الى المستشفى الرئيسي لقاء ثمن تشترى.
- ايفاد بمأمورية خاصة كذلك تشترى.
- خدمة في المزارع وبناء البيوت، يتم التبرع بها.
- سهرات ليال حمراء تجري، يتم الاعداد لها.
وغيرها أعمال عديدة، المهم فيها، طرف أعلى يقبض الثمن، وطرف أدنى يحافظ على حياته لقاء الثمن. فانفتحت ابواب فساد لم تكن موجودة من قبل، ساعدت على فتح اخرى، صعب غلقها والحرب قائمة. وصعب أكثر في ظل العوز والتجويع والحصار.
2. النظرة المادية الى الخدمة الوطنية. يسند المنصب القيادي، بحساب اساسه الولاء الشكلي للحزب والقائد. ويعزل الآمر من منصبه للشك الحاصل بولاءه للحزب والقائد. قياسات بدأت مع بدايات الحرب الاولى مع ايران. تضاعفت شدتها بعد الصفحة الاولى للحرب مع الكويت، والصفحة اللاحقة للحصار. رافقتها توجهات لحشر القادة والآمرين والمدراء في دائرة الولاء المطلق للقائد، بشراء ذممهم مكرمات وهبات ومخصصات. مكونة فلسفة اغناء للبعض وافقار للبعض الآخر، تبعاً لمسافة الولاء الافتراضية من سلطة إصدار القرار ومواقف الدفاع عنها، والاطمئنان لوجودها، والعمل على تغطية وتبرير أخطائها. فتكونت ضمن صفوف الجيش، جيوش مستفيدين ومستغلين، قادة وآمرين، اقرباء وشركاء طفيليين. أغرقت الجيش والقوات المسلحة في مستنقع فساد لا يمكن الخروج منه بسلام.
3. القبول الرسمي لمثيرات الفساد. اغناء وافقار، تقريب وابعاد، اماتة واحياء، محاسبة واعفاء، اثابة وعقاب. أساليب قيدت قدرة الدولة على الردع وتحجيم الخطأ وحصر الفساد، ودفعتها بدلاً عن ذلك، إلى قبول وتقنين بعض أشكال الفساد رسمياً. فالرئيس يقبل الهدايا النوعية علناً. والحزب يقبل التبرعات المادية حصرياً. والوحدة العسكرية تعزز نثريتها من ميسورين، جالسين في بيوتهم، تبرعاً. والكاتب في قلم الوحدة يروج معاملة التسريح والترقية بهدايا يقدمها الزميل المراجع ملزماً. والمتعهد يقدم مبلغاً مالياً قبل وبعد انجاز العمل تبرعاً. والشركات الجاري التعامل معها، تقدم اجهزة ومعدات، ومواد وقرطاسية، تماشياً. ومتعاملون مع دوائر ومقرات، مستفيدون منها، يسهمون في ترميمها عنوةً. فتحت جميعها مجالات للتجاوز، وفتحت افواه الآخرين على قبول التجاوز، يصعب سدها بظروف جميعها غير طبيعية.
اتساع نافذة الفساد
من تلك الابواب المفتوحة، أنتشر الفساد اضطراباً اجتماعياً مُعدياً في جسم الدولة وجيشها في العقدين الأخيرين للزمن السابق. مرض دفع بعض العراقيين وبينهم عسكريين إلى الوقوف في حالة ترقب على حافة الاستغلال، وعندما تهدمت أركان الدولة وقواتها المسلحة قبل 9/4/2003 وما بعدها بقليل، توجه أولئك المتربصون لاستثمار الفرصة المتاحة لإشباع حاجاتهم المنقوصة، فدخلوا إلى مفاصل الجيش والدولة، بأفكار هزيلة، ومسوغات اطماع كثيرة ضاعفت من مظاهر الفساد الموجودة، وجسدت آثاره هدما لما تبقى من البنية، واعاقةً لترصيين البنية الجديدة. توجه معهم واحياناً سبقهم بعض المغمورين بمشاعر العدوان المكبوت، ضد الدولة ومؤسساتها الرسمية وشبه الرسمية، لتدميرها كأحد مسارب التنفيس عن ذلك العدوان، فزاد حجم التجاوز على القانون، وتضاعفت مستويات التكرار، وانفتح الاستعداد النفسي لتقبل الخطأ، بل وشاعت ثقافة قبوله، في ارجاء المجتمع.... اسباب التقت مع مقدار (الحرمنة) في الشخصية العامة، مهدت إلى تعزيز عوامل الفساد وأسهمت في استمراره، والمبالغة في تكراره.
إن وجود الفساد وسعة انتشاره في المجتمع العراقي، وعجز الدولة وبضمنها المؤسسة العسكرية والامنية من تحجيمه أو الحد منه لتسع سنين متصلة، قوّى بالتدريج آلية التبرير التي خففت من لوم الذات، وكذلك من حجم الانتقاد الموجه لمرتكبيه من جهة، وشحن البعض "غير المنضبطين" انفعالياً باتجاه الترقب لاستغلال الفرص على أساس "الأمر لم يتوقف عنده هو" من جهة أخرى.... اسباب نفسية، اجتماعية، ادارية، سياسية، اوسعت فتحة الأبواب والمنافذ الموجودة للفساد، واضافت لها وسعاً عوامل أخرى بينها:
1. الغياب السريع للأجهزة الأمنية الضابطة، والتلكؤ الحاصل في موضوع إعادة تشكيلها فور السقوط، أوقع المجتمع في حالة فراغ أمني، نشطت فيه أعمال التجاوز والاستغلال، وتشكلت في بيئته الهشة عصابات منظمة، مدت نشاطاتها إلى جسم الدولة والمؤسسة العسكرية والامنية، ودعمت وجود الفساد بالضغط والتهديد باستخدام القوة في حالات ليست قليلة، الأمر الذي زاد من مستوياته.
2. سعي غالبية الأحزاب والحركات السياسية، التي نشطت بعد السقوط إلى استغلال ممتلكات الدولة، كمقرات وأماكن للاستثمار، وتوجه بعض قادتها ومنتسبيها الموجودين في مفاصل الدولة المهمة، إلى تسخير موجودات الدولة، والتدخل في المقاولات الخاصة بها، بغية التموين المباشر للحزب والحركة، وهذا وإن حصل بشكل محدود في بعض الأحيان فقد أسهم مباشرة بتسهيل عملية التفشي، والانتشار على نطاق واسع حتى في القوات المسلحة.
3. توجه الحكومة المؤقتة التي اعقبت سلطة الاحتلال مباشرة إلى التصرف مع الواقع العراقي بنفس الطريقة التي تصرف بها صدام من قبل، عندما أحست بحاجتها إلى التأييد، لأغراض إثبات الوجود وكسب الأصوات الانتخابية، سارعت إلى توزيع أراض سكنية على الموظفين القريبين، ومكائن زراعية على شيوخ العشائر، وسيارات على بعض المؤثرين. سلوك كّون اقتران في العقل الجمعي بين صدام، ومن بعده، ودَعمَّ من وجود الفساد وأثره القوي في مرافق الدولة وقواتها المسلحة.
4. انشغال الحكومات المتعاقبة بعد التغيير بمهام الأمن، وفرض النظام مع افتقار بعض أعضائها حديثي الخبرة في الادارة السياسية إلى اتقان آليات اتخاذ القرار على مستوى الدولة، أوقعها في وهم التركيز على الأهم وترك المهم، واوقع الفساد في خانة عدم الاهتمام الكافي، فزادت مستويات حدوثه وانتشاره في كل مرافق الدولة بينها العسكرية والامنية.
5. افتراض جهل سلطة الائتلاف الحاكمة، بداية الاحتلال وما بعده، بالتعامل المنطقي مع الواقع العراقي، بتقوية البعض واضعاف البعض الآخر. وبالتركيز على جوانب وغض الطرف عن جوانب أخرى. والسماح في بعض الأحيان للمنتفعين والمتربصين، بالتجاوز على ممتلكات الدولة والمال العام. وامور أخرى فتحت الطريق للاستمرار بوتائر فساد، أكدت بعض وقائعه تلك المعلومات التي ترشحت عن طريق الإعلام العالمي حول التلاعب والفساد الحاصل في أموال إعادة الاعمار، وغيرها من بعض أفراد تلك الإدارة.
6. تعدد الحكومات في زمن قليل نسبياً مثل "سلطة الائتلاف، ومجلس الحكم، والحكومة المؤقتة، والحكومة المنتخبة مؤقتاً في سنتين" ثم الحكومة المنتخبة الاولى 2006 والثانية 2010، وطبيعة المحاصصة التي أرست قواعد التوظيف، في كل مفاصل الدولة المهمة، بينها العسكرية والامنية على أساس الولاء الحزبي والطائفي والقومي، دون اعتبار للكفاءة والتخصص، دفع بعض العسكريين ورجال الامن وموظفي الدولة والقطاع الخاص "غير المنضبطين" لان يتجهوا إلى الاستثمار الشخصي الأمثل للفرص المتاحة، من أجل الكسب السريع على قاعدة البقاء المؤقت والوقت المحدود. تجاه شتت الجهد المفروض لإعادة البناء، ودفع إلى فتح أبواب الفساد بعدة اتجاهات.
توريث الفساد
لقد ورثت الحكومة العراقية الحالية فساداً من زمن الحكومة السابقة، لم تحسب له حساب، وأخطأت في التعامل معه، وأسهم بعض أفرادها في تعزيز وقائعه، مما كوّن مستوى من الفساد جر البلاد إلى حافات الهاوية، في مجتمع عراقي منقول من نظام الى آخر قاد إلى تبديد الجهد الخاص بإعادة البناء، وتوقفه احياناً. واحداث خرق أمني، تسلل من خلاله المعادون إلى هيكل الدولة، سعوا الى تدمير بعض بناه التحتية. وتعميم الفوضى، وعدم الانضباط، وتقليل فرص التقدم والاعمار. وتسبب في وجود اضطراب في التدرج التقليدي للطبقات الاجتماعية، قدم مستفيدين ومستغلين، تمتعوا بقدرات عالية في التأثير على سير الدولة والمجتمع، وتهديد تماسكها. وبفقدان الدعم الدولي المفروض لإعادة الإعمار، بعد الاحساس، بعدم الأمانة والثقة في الملاك العراقي المعني بصرف أموال ذلك الدعم في بناء العراق.
ان الفساد الموروث والتمادي في بقاء وجوده سارياً في ثنايا الادارة والتعامل والعلاقات العامة في وقتنا الراهن (2012)، لم يعد هو الشاغل الوحيد للمواطنين الملتزمين، والمسؤولين السياسيين النزيهين، وانما حجمه الهائل، واتساع دائرته، وتشابك حلقاته، وترابط آلياته بدرجة لم يسبق لها ان اثارت قلقاً بالقدر المثار حول احتمالات تأثيره على مسيرة بناء وطن طاله التخريب لخمس وثلاثين عاماً متصلة. قلقٌ، تدعمه بعض صيحات أعضاء البرلمان، وكبار المسؤولين حول مستوياته في اجتماعاتهم الدورية، وما ينشر عنه أيضاً في الصحف العراقية والعربية والعالمية، وما يتداوله الجميع في مجالسهم الخاصة.
الفساد المؤسسي

الفساد آفة عامة، غيمةٌ غطت كل انحاء العراق، لم يستثنَّ منها عسكر ولا مدنين، جميعهم دخلوها ولم يخرجوا منها حتى انتهاء تسع سنين على حكم أخطأ وكرر الخطأ وتسبب بفتح ابواب الفساد. يتشابه وقعها كثيراً في المؤسستين العسكرية والامنية، بتشابه مهامهما وتنظيمهما والساحة التي يعملون فيها، واسلوب تشكيلهما من جديد. حتى يمكن الجزم ان وقعه واتساع رقعة حصوله، تقترب من بعضها في المؤسستين، اللتين عانتا سوية من اشكاله المتعددة.
هذا ولأهمية هاتين المؤسستين، وتأثير كل منهما على مستقبل قدرات الآخر سيتم التركيز على وقعه فيهما سوية، بقدر من التفصيل للتأشير على طبيعته، كماً ونوعاً. اذ ان عقود تزوير في كلتا المؤسستين قد وقعت، وعمولات من قبل مسؤولين كبار في دوائرهما قُبضت، واسلحة فاسدة من قبل المعنيين فيهما قد استوردت، ومقاولات بنفس الطريقة الفاسدة أحيلت، ورشاوي اخذت ومناصب بيعت، وقبول للتطوع لقاء ثمن حصلت، وَرتب منحت، ودرجات وظيفية خصصت، ومعاملات عطلت، ومشاريع عمداً تأخرت، ومحاباة للأقارب تمت، واحزاب في الهيكلية التنظيمية قد تغلغلت. من هذا سيكون عرض وقائع واشكال ومنافذ الفساد، المشتركة للمؤسستين معبراً عن مستوياته التقريبية في كل منهما، وبقدر من التعميم المقبول علمياً. كما ان الوزارتين عملياً لا تختلفان عن مؤسسات ووزارات الدولة العراقية الأخرى، في موضوع الميل والرغبة والنوايا الخاصة بالفساد، وربما بسعة الانتشار والتكرار. ومع هذا فانهما كمؤسستين عسكرية وأمنية تختلفان عن باقي مؤسسات الدولة في مسألة النتائج والآثار السلبية لهذه الآفة الاجتماعية، التي يؤشر حدوثها في مفاصلهما، ردود فعل تفوق كثيراً تلك التي يسببها حصوله، أي الفساد في الوزارات والدوائر الحكومية الأخرى.
فساد العسكر اضطراب لمعنويات المجتمع
ان حصول الفساد في المؤسستين الامنية والعسكرية، وان تشابه وقوعه في المؤسسات الاخرى، كما مذكور، فإن الخلل فيهما ينعكس سلباً على معنويات المجتمع، وينتشر خبره ويتم تداوله بين الناس، بدرجات تفوق ما يمكن أن يكون في الدوائر الأخرى، لأن العراقي يدرك جيداً أن انتشاره في مفاصل اي من الوزارتين المهمتين، يعني، تهديداً مباشراً للأمن الشخصي والقومي على حد سواء. وعموما فإن مؤسسات الدولة ومراكز بحوثها لم تتجه إلى البحث في هذا المجال لحسابات تتعلق بتحسس أمني، ورثته من الزمن السابق. والجهود القليلة فيه لا تؤشر وجود إحصاءات تؤكد حدوث الفساد في دوائر هاتين الوزارتين بمستويات تفوق الوزارات الأخرى، لكن المتداول من الحديث بين الناس وبعض المسؤولين الحكوميين، والمنشور في الصحف وبعض وسائل الإعلام (8) يعطي موضوع الفساد فيهما، سعة تفوق باقي الدوائر والوزارات بسبب طبيعة عملهما ذو الصلة بمكافحة الارهاب، وبالجريمة وأمن المواطنين الذي يسمح بكثرة الاحتكاك والتعامل مع همومهم وحاجاتهم، وهو بوجه العموم تعامل يثير نقدهم وعدوانيتهم على الوزارتين والدولة في آن معاً.
ان وزارة الداخلية تتحمل المسؤولية الاعتبارية والفنية لفرض الأمن والسيطرة، وتتحمل الدفاع ذات المستوى من المسؤولية لما يتعلق بالدفاع عن الوطن. مسؤولية أعطتهما موقعاً متميزاً في عقول المواطنين وحملتهما اعباء كبيرة، على أساسها أصبح الخطأ والتجاوز في محيطهما أكثر بريقاً، وبات الفساد أكثر المواضيع تداولاً. كما ان حل الوزارتين، والأمر بإعادة بنائهما، والسماح لهما بتشكيل قوات نظامية للجيش والشرطة والتدخل السريع، وغيرها كون فرصاً واسعة للتعيين، وأوجد مجالات كبيرة للتنافس بين المتقدمين المحتاجين، وبغياب الضوابط الدقيقة، انفتحت مسارب للفساد باتت مغرية يتداول الناس الحديث عن بعض منها لم يحصل في الاصل.
إن المهام التي ألقيت على هاتين الوزارتين، في مجال الأمن، جعلتهما هدفاً للأعداء، وكان الفساد سلاح متاح للتهديم والإعاقة، وجدوا "الاعداء" مجالاً لاستخدامه وسط مفاصل إدارية وقيادية بعضها واهن غير ملتزم، وبعضها الآخر يتصل بالماضي الفاسد. هذا وان إعادة بناء كلا الوزارتين، لدوائرهما وقواتهما النظامية، الذي جاء بوقت فيه الحاجة سريعة إلى الوقوف بوجه التحدي والإرهاب، لم يعطِ مسؤوليهما المجال الكافي للتدقيق في الاختيار وإعادة البناء، بل وعلى العكس من ذلك دفعهما، ملزمين للعودة إلى عناصر سابقة " غير موثوق بها" في الجيش والشرطة والحدود، كأساس للعمل وإعادة البناء، وكمفاصل أساسية للتشكيلات الحديثة، مما أسهم في نقل معالم الفساد الموجودة في الهيكل القديم إلى الهيكل الجديد، وزاد من انتشاره بين المنتسبين الجدد عن طريق العدوى والتقليد.
ان الفساد في الوزارتين، وعلى وجه الخصوص في السنتين الاولى التي اعقبت التغيير كانت صورته قاتمة، وحالته اقتربت من وصفها بالعصية على العلاج. حالةٌ لم يكن وتداعياتها محجوبة عن الجمهور، ولا عن مؤسسات الدولة ومسؤوليها، إذ أكد وزير الداخلية على مستوى العلن عام 2004 استعداده لتطهير الوزارة من كل العناصر السيئة أي الفاسدة بعد أن أرجع أسبابه إلى غياب معايير الأمانة، والدين، والكفاية والـتدريب(9). بالإضافة الى هذا فان وقائعها لم تكن خافية، عن سلطة الائتلاف وقوات التحالف، التي تدير الامور في تلك الفترة الزمنية، إذ أكد الخبير الهولندي المكلف بإجراء إصلاحات في المؤسسة الامنية، السيد مسيس دو جونغ بالقول "أن السلطات لا تملك رؤيا واضحة في الشخصية أو الأداء لأفراد الشرطة، كما أن الفساد وانعدام الولاء ما زالا مستشريين". وبنفس السياق والوقت أكد وزير الداخلية على ان الوزارة قد فصلت بحدود 62 ألف منتسب، لأسباب بينها فساد(10). كذلك نوه عن حصوله وسعة انتشاره، كثير من المنتسبين للمؤسستين، وفي كافة المستويات من المراتب والضباط، وكذلك المراجعين لهما من بين الناس العاديين (11). تنويهات تبين:
1. وجود فساد شبه منظم في عموم دوائر ومؤسسات الوزارتين.
2. إن طبيعة الفساد الموجود، يتكرر في كافة المستويات، والمفاصل القيادية، التي تدرك غالبيتها وجوده، دون أن يتحرك معظمها لمكافحته، او ان تحركه بقوة دفع تقل عن قوة الدفع التي يمتلكها الفساد.
3. محدودية قدرة القيادة التي اعقبت التغيير مباشرة، في الحد من انتشار الظاهرة، وعلى العكس من هذا، أسهم بعضها في تعزيز حصوله.
اشكال الفساد الشائعة
ان الآراء والمشاهدات المذكورة لا تقبل الشك، بعضها حديث العهد، وآخر قديم يمتد عشرات السنين الى الوراء، باتت اشكاله الشائعة في السني الاولى لما بعد التغيير تنحصر غالبيتها في الرشوة، الاختلاس، التزوير، الكسب غير المشروع، استغلال النفوذ، المحاباة، تقديم التسهيلات، خيانة الأمانة، السكوت عن الخطأ، خرق شروط التعاقد. هذا واذا ما نظرنا الى موضوع الفساد من الناحية التاريخية، نجد في الداخلية، العديد من انواع الفساد، كانت موجودة في دوائر الشرطة، والمرور منذ الزمن الملكي، حتى يكنى الشرطي آنذاك "أبو الواشرات"، فالرشوة متفشية، والهدايا شائعة، والاتاوة موجودة، حتى ان سواق التكسي البغداديون يتذكرون الشرطي أبو عدنان في الخمسينات، واناءه الفخاري المشهور "الجرة او التنكة" التي كان يضعها في الساحة التي يقف فيها، بحجة شرب الماء، ليرمي داخلها السواق المخالفين وغير المخالفين، نقوداً معدنية، عند المرور من ساحته، تجنباً لتوجهاته في تسجيل الغرامة في الوقت الذي يريد. كما لا يمكن استثناء المؤسسة العسكرية بشكل مطلق، اذ ذكر السياسي العراقي الليبرالي عبد فيصل السهلاني، في جلسة خاصة عام 2012 أنه سعى للتقديم الى القوة الجوية بعد اكمال دراسته الثانوية عام 1967، ولضمان القبول اتصل أهله بأحد الوسطاء الذي إصطحبه الى بيت ضابط طيار برتبة كبيرة، سبق وان شغل منصب قائد القوة الجوية، جلسوا معاً في حديقة البيت، سلمه مائتي دينار، ثمن رسالة توصية كتبها الى لجنة القبول. اعطاها الى رئيس اللجنة، بعد النجاح بالفحص الطبي، الذي سأله متهكماً "هل سبق لك ان شاهدت طياراً من أهل الناصرية؟، واعاد له التوصية. رجع عندها مع الوسيط الى بيت الضابط المذكور، وقص عليه القصة، فأعاد له المبلغ، مع تعليق غامض" لا تهتم بعد كم شهر تعال وستقبل حتما".... بعد أقل من ستة اشهر، حدث انقلاب على الرئيس عبد الرحمن عارف، اعتلى فيه الضابط منصباً كبيراً. (12).

المنافذ الرئيسة للفساد

هناك العديد من المنافذ المقننة للفساد في الدوائر والمؤسسات الامنية والعسكرية، أكثرها تأثيراً وتكراراً في السني الاولى لإعادة تشكيلهما على وجه الخصوص، تلك التي تتعلق بأعمال.
1. الإدارة العامة. مجالات الفساد التي تكررت في محيطها تتمحور حول:
آ. المحاباة في عمليات التعيين ومنح المكافآت، على ساس حزبية وقرابية.
ب. التجاوز على ضوابط الترقية والتعيين والنقل، وعدم السعي للعمل بموجبها.
ج. تركيز الوجود الفاعل للأقرباء والمعارف في الدوائر والمفاصل القيادية.
د. المحاباة في توزيع السيارات والأجهزة ومعدات الحماية على الضباط والموظفين والمنتسبين.
ه. بناء أواصر العلاقة بين الأدنى والأعلى، وبين الدوائر والمؤسسات الفاعلة، على أساس المنفعة والقرابة والانتماء السياسي والطائفي دون الأخذ بالاعتبار الجوانب الوظيفية والضبطية.
و. فقدان عمدي لبعض المعاملات الإدارية، وتأخر مقصود في إنجازها، بغية الضغط على المعنيين باتجاه الحصول على منفعة.
ز. منح درجات وظيفية عليا، وإيجاد تنظيمات إدارية تبعاً للمعرفة، بعيداً عن معايير الحاجة والكفاية.
ح. التجاوز على الأسبقيات، والتسلسل المفروض في قبول المتطوعين إلى الوحدات، وفي الدرجات الوظيفية.
ط. وضع عناصر غير مناسبة في أماكن، أو مناصب معينة، تتطلب خبرة ومعرفة ونزاهة، لتسهيل عمليات التجاوز على القانون.
ي. غض الطرف عن الأخطاء المرتكبة من الأقارب والأصدقاء، والتركيز عليهـا عند الآخرين.
ك. نقل الضباط والمنتسبين من مكان لآخر لقاء ثمن.
ل. تسهيل عمليات الانتساب إلى الكليات العسكرية والشرطة، تجاوزاً على الضوابـــط وشروط القبول.
م. إخفاء بعض الأوامر والقرارات، التي تتعارض مع الأهداف والرغبات الخاصة.
ن. اقامة علاقات اجتماعية غير صحيحة مع بعض العناصر النسوية العاملة في الدوائر والمقرات.
س. التهاون أو الإخلال بضوابط وتعليمات الرقابة، ونتائجها.
ع. استغلال ضباط لمنتسبيهم "سواق، حماية" وتفريغهم من واجباتهم لأغراض خاصة.
ف. التجاوز على معايير الردع والانضباط في حالات الخطأ، وكذلك على مفردات التقييم عند الاختيار والتنسيب.
ص. تفضيل المعارف والأقرباء ومن يدفع أكثر، في عمليات المشاركة بالوفود والدورات، مع عدم التدقيق بنتائجها، وعدم المطالبة بتقارير تُرفع عنها. والتجاوز على الشروط والمؤهل في عملية الاختيار للفنية والاختصاصية منها.
ق. الحصول على حصة من مخصصات الإيفاد.
ر. غياب المتابعة لما يتعلق ببعض الجوانب المالية. والتجاوز على سياقات وضوابط الصرف.
ش. الإعاقة المتعمدة في إنجاز بعض المعاملات المالية.
ت. إحالة بعض المقاولات خارج الضوابط والسياقات. ومنح عقود وعرقلة اخرى خارج السياقات.
ظ. التجاوز على معايير التقييس والسيطرة النوعية. وعدم الالتزام بضوابط المناقصات.
غ. تفضيل مقاولين محسوبين على أحزاب ومسؤولين على آخرين.
ض. التجاوز على شروط التعاقد، مثل عدم تفعيل فرض غرامات التأخير وغيرها.
2. الدوائر الامنية. الدوائر والمديريات التي لها احتكاك مع الجمهور، وتنتشر في كافة انحاء العراق، وهي مثل غيرها من دوائر ومديريات الدولة، ينتشر في محيطها وداخلها الفساد بالأشكال الآتية:
آ. استغلال الصفة العسكرية والامنية في ارتكاب جرائم مختلفة، بالاستفادة من الهوية والسلاح والمعدة العسكرية.
ب. تغيير الإفادات والتلاعب بالأدلة والقرائن، والتدخل النفعي باتجاه تحوير نتائج التحقيق.
د. استغلال المنصب في التعامل غير الصحيح مع المواطنين، وذلك بتعطيل انسيابية معاملاتهم او الالزام بتقديم اموال وهدايا ليس من المفروض تقديمها.
ه. التنسيق مع بعض المحامين والقضاة لعمليات إطلاق سراح المتهمين خارج الضوابط القانونية.
و. الاستبعاد العمدي لبعض العناصر النزيهة والكفوءة، من بعض الاماكن واللجان والمراكز، وأعمال التحري والتحقيق.
ز. عدم التقيد بضوابط سجل الموقف اليومي في المراكز، واماكن التوقيف والحجز.
ح. قيام بعض الدوريات ونقاط السيطرة بالتجني، لمحاسبة مواطنين، بغية الحصول منهم على مبالغ معينة.
ط. الاستيلاء على أموال نقدية وحلى لمواطنين أثناء عمليات الدهم والتفتيش. كذلك الاحتفاظ بمواد جرمية "سيارات، أجهزة، معدات، نقود، مصوغات" بعد فض الموضوع لمساومة المفرج عنهم بإعاقة الإفراج أو التغاضي عن تلك المواد.
ي. التعامل القسري مع بعض الموقوفين لحملهم على دفع مبالغ معينة. والتوقيف خارج الضوابط القانونية.
ك. الاتفاق بين الأعلى والأدنى على نسب من المحصول العام "حصة" عند التكليف بتنفيذ واجبات.
ل. ترتيب مواجهات لمتهمين خطرين خارج الضوابط وتسريب معلومات.
م. عدم التقيد بالواجب المحدد، ومحاولة الزج بواجب آخر ولو عرضيا بهدف الحصول على المنفعة.
ن. العمل بمكاتب اختصاصية ذات صلة بالعمل المهني للمعني خارج الدوام الرسمي.
س. استخدام الجنس "النساء" في تمشية معاملات، وفي التأثير على البعض من خلال الجلسات الخاصة.
ع. تعبير معلومات أمنية إلى مطلوبين، وجهات ارهابية لقاء ثمن مادي مدفوع، وتسريب اخرى إلى جهات خارجية معادية.
ف. تسهيل عمليات هروب مجرمين خطرين وإرهابيين من التوقيف.
ص. محاولة إقحام ذوي متهمين في التحقيق.
ق. التساهل المتعمد لتسريب مواد ممنوعة وأدوية ونقود وهواتف نقالة إلى داخل اماكن الحجز والتوقيف.
ر. التأخير العمدي في عمليات التحري وإلقاء القبض، لإعطاء فرصة الى المتهمين بالنفاذ.
ش. منح هويات حمل وحيازة سلاح لأفراد وشركات أمنية عن طريق الاتصالات الخاصة خارج الضوابط.
ت. التكليف بمهام وواجبات امنية لغير المعنيين بها، لأغراض خاصة.
3. الجهات الحـــدودية. المؤسسة العسكرية الامنية التي تجمع بخصائصها بين تلك الموجودة في المؤسسة العسكرية، والاخرى ذات الصلة بالمؤسسة الامنية الشرطوية، وفي مجالها ينتشر الفساد بالأشكال الشائعة الآتية:
آ. تزوير وثائق دخـول السيارات المستوردة لتفـادي العمل بقرار منع الموديلات دون عام 2000.
ب. بيع المسافرين الأغنياء لأغراض الابتزاز، وكذلك شاحنات البضائع المهمة، والسيارات بعد اجتيازهم الحدود إلى عصابات الطرق المؤدية إلى بغداد لقاء حصة من إجمالي المبالغ التي يتم تحصيلها.
ج. تعويق إنجاز معاملات إدخال بعض البضائع، والمواد المستوردة.
د. تسهيل دخول زوار أجانب ومواد مهربة إلى العراق خارج الضوابط.
ه. عدم التقيد بتعليمات الفحص الطبي المطلوب على الوافدين في الحدود.
و. عدم التدقيق في وثائق وعائدية السيارات التي تغادر العراق والتي تدخل أراضيه.
نظرة الى واقع الفساد
ان الفساد معضلة لا يمكن النظر لموضوع حدوثها وانواعها ومنافذها واتساع انتشارها المذكورة في اعلاه، بمنظار اليوم 2012 لان ضوابط عديدة قد وضعت، ومنظومة الحاسوب قد اكتملت، والمنافذ الحدودية بالمركز ربطت، وقاعدة معلومات مقبولة قد أنشأت، ودوائر التفتيش قد نشطت، واجراءات المحاسبة والمتابعة قد اتخذت، الامر الذي قلل من مستويات التكرار لبعض اشكال الفساد، وأنهى اخرى بشكل واضح وملموس، وعلى الرغم من هذا التطور الايجابي، فان اشكال ومنافذ فساد ظهرت، وأخرى بقيت محفوظة بالذاكرة القريبة، يمكن ان تظهر على السطح عند حصول ضعف للسلطة الضابطة.

العوامل الرئيسية لانتشار الفساد

إن الجيش من جهة والجهات الامنية شبه العسكرية التي تشكل جميعها القوات المسلحة العراقية من جهة أخرى، وبحكم طبيعة عملهما، وتكرار الخطأ منذ فترة ليست قليلة من الزمن السابق، أصبحت بوضعها وهيئتها، بيئة أو أرضية مناسبة لحصول فساد، وعلى الرغم من عدم اقتصاره على دوائرهما ومؤسساتهما كما ورد آنفا، إلا إن المؤشرات العامة تؤكد أن هناك مجالاً لحصوله، وتعزيزاً لهذا الحصول فيهما، لأسباب عدة، بينها.
1. التجاوز على مبدأ الشخص المناسب في المكان المناسب، لما يتعلق بمناصب القيادة وهيئات الركن، مع بداية التشكيل. كوّنَ تدافعاً هستيرياً باتجاه الاستغلال والفساد.
2. التأخر في اقرار الملاكات واعتمادها، وعدم الخوض في مسائل التوصيف الوظيفي، دفع الى التجاوز في مسائل التعيين والتطويع والاعادة على الحاجة والشاغر، والزيادة، والنقص. وشجع على استغلال الفرص لتبويبها نفعياً.
3. ضعف القيادة والسيطرة، وفقدان هيبة التأثير القيادي الاعلى على الأدنى، وعدم الاكتراث للأوامر الصادرة من الأعلى.
4. عدم التجانس في العمل بين المركزية التي تتطلبها المرحلة الانتقالية الحرجة، وبين اللامركزية، التي يسعى النظام الجديد تعميمها حاضراً ومستقبلاً.
5. عدم وجود قاعدة بيانات، وضوابط للتفتيش والمتابعة.
6. عدم وجود سلطة ضابطة ذات تأثير حاسم، مثل الانضباط والامن، وغياب سلطة القانون في كل المستويات.
7. عدم وجود خطط وسياقات دقيقة ومحايدة لتقييم ومتابعة العائدين الى الخدمة، وغياب التقييم الدوري لسلوكهما والأداء العام.
8. غياب التخطيط في جوانب التوظيف والترقية، وسد الشواغر في الملاكات.
9. قلق القائد/الآمر/ المدير من عدم الثبات في المنصب، ومن الوضع الامني العام، أغرى البعض لإشباع حاجات الذات بطرق غير شرعية، كنوع من التعامل مع القلق.
10. خوف الاعلى من النتائج المترتبة لفرض العقاب على المتهم الادنى.
11. الضعف البين للضمير، وقلة الخجل، ونسيان العيب. قيم اصابتها معاول الهدم، وبات تأثيرها في الردع الذاتي محدوداً.
12. عدم التجانس والتعاون بين السلطة العليا في المؤسسة، وبعض المستويات القيادية العليا في الدولة.
13. التحديد الطائفي المسبق لبعض مناصب القيادية.

الآثار المترتبة على الفساد

لظاهرة الفساد في الجيش وعموم المؤسسة العسكرية والامنية آثار مباشرة، يمكن أن ينعكس وجودها سلباً على الأداء العام، وعلى أمن الدولة والمجتمع من بينها.
1. إعاقة إتمام المؤسستين لمشاريعهما، في البناء وإعادة تأهيل المنتسبين.
2. تكوين حالة خرق أمني ونفسي، يمكن أن تحول دون تنفيذ المؤسسات وتشكيلاتها العسكرية والامنية، لأهدافها في فرض الأمن والسيطرة.
3. التسيب واضطراب حالة الانضباط، التي تقلل من الكفاءة وحسن الأداء.
4. تكوين مفاهيم ومعايير عمل مخالفة للقيم الاجتماعية الصحيحة، تصيب الدافعية بالضعف وتربك الأداء.
5. ممارسات خاطئة، من شأنها تقليل الثقة بالنفس وبالجيش الوطني، فتحول دون تنفيذه المهام الصعبة كما هو مطلوب، وتحد من توجه منتسبيه للمجازفة بحياتهم وراحتهم في عملية التنفيذ.
6. الإخلال بعملية الانتماء المؤسسي، مما يدفع المنتسبين إلى التوجه للعمل كل بما يراه مناسباً، مما ينعكس على روح الجماعة المطلوبة في تنفيذ الواجبات.
7. الإقلال من قيمة العسكري ورجل الأمن، وتشويه صورتهما في الشارع، وانعكاسات ذلك سلباً على ضبطه من الناحية الأمنية.
8. تكوين حالة من الخرق العمدي للقانون، قد يصعب السيطرة عليها مستقبلاً بالجهود التقليدية.
9. تكوين مراكز قوى حزبية أو طائفية أو قومية يمكن أن تؤثر في السياسة الدفاعية والامنية العامة، وعلى القدرة الخاصة بضبط الأمن والسيطرة وادارة المنتسبين والأجهزة الضابطة.
10. تعزيز حالة الولاء العشائري والطائفي والمناطقي، على حساب الولاء المفروض للوطن، ومن ثم إلى جهة العمل، مما يتسبب في خلق تصدع في الضبط والعلاقات العامة وسبل التنفيذ.
الآثار غير المباشرة
ان الآثار المترتبة على تفشي الفساد لا تقتصر على المذكورة اعلاه، فهناك آثاراً غير مباشرة يمكن أن تنعكس سلباً على جوانب الأمن والاستقرار، وكذلك على مستوى الأداء يمكن اجمالها بالآتي:
1. إضعاف علاقة القوات المسلحة بمؤسسات الدولة الأخرى، الأمر الذي يقلل من الدعم المطلوب لمشاريعها.
2. قلة الثقة بأداء وفاعلية القوات المسلحة، وتشويه صورتها في العقل الجمعي مما يزيد من الميل لمخالفة توجهاتها في الأمن والسيطرة.
3. تفشي حالة اليأس والنفور التي تؤثر سلبا على أداء المنتسبين وعلى انضباط الشارع العراقي بوجه العموم.
4. ضعف التكافل والتأييد والمساندة المتبادلة، في المواقف الصعبة التي يتطلبها العمل الأمني في كثير من الأحيان.
5ـ الخسارة المادية لخزينة الدولة والمؤسسات المعنية في آن معاً.
6. التدني في مستوى الأداء الذي يصعب إصلاحه لأجيال مقبلة.
7. الاستفادة من وضع الفساد وآثاره، أسلحة بيد الجهات المعادية لضرب الدولة وإعاقة الإعمار والبناء.
تنويه عام
ان موضوع الفساد الذي عرض في هذا الكتاب، والمعلومات الواردة فيه جاءت من خبرة العمل في وزارتي الداخلية والدفاع لسنوات بعد التغيير، ومن خلال المقابلة والمتابعة والاستفسار، وما ورد في الفقرات الخاصة بالنتائج ومنافذ الفساد في المؤسسات العسكرية والامنية، لا يعني من الناحية العلمية، إحصاءً لتكراراته أو قياساً لمستوياته، بل هو في الواقع تأكيد لوجوده وتأشير لمستويات انتشاره، وتحديد لآثاره السلبية. كما ان مستويات انتشاره طوال السنوات التسعة الماضية بات من الوسع حد يمكن وصفه بالظاهرة، التي اعاقت أو أخرت بالفعل بناء الهيكلية التنظيمية والتنفيذية الملائمة للقوات المسلحة، للتعامل مع التهديدات الحاصلة، واخرت خطوات إعدادها كقوة ردع بالضد من التدخلات الخارجية، وبالضد من الجريمة المنظمة، واعمال والإرهاب.
ان هذا يعني ان تغلغل الفساد في العديد من المفاصل ليس بالأمر البسيط، ولا يمكن التهوين من شأنه في التأثير على الحاضر والمستقبل. لان النتيجة الطبيعية لممارساته، تعد خللاً كبيراً أصاب أخلاقيات العمل ومعاييره القيمية، اتسع تدريجياً داخل المجتمع العسكري، اسهم مع غيره من عوامل بالحيلولة دون المحافظة عليها اخلاقيات تساعد على التنفيذ الجاد للمهام الوطنية.
إن التكرار الحاصل لسلوك الخطأ والفساد في وضع الضعف والارتباك العام، اشاع في الحياة اليومية آليات تبرير نفسي لوجوده، واستمرار اتساع نطاق مفعوله، إلى مستويات سيكون من الصعب إصلاحها في الزمن القريب من ناحية، وستكلف الدولة ثمناً باهظاً من ناحية ثانية. كما ان الغياب شبه الكامل للسلطة الضابطة، وعدم تشريع وتفعيل القوانين العقابية الملائمة، عوامل أدت إلى أتساع الظاهرة، يضاف إليها عامل آخر في المؤسسة الامنية "وزارة الداخلية"، يتعلق بانخفاض مستوى الرواتب عن الأقران في الجهات الأمنية والعسكرية الأخرى، الى عام 2011 موعد تشريع قانون لخدمتها، يساوي رواتب منتسبيها بمنتسبي المؤسسة العسكرية.
إن مستوى الفساد في القوات المسلحة، يتناسب طردياً مع مستوياته في المجتمع العراقي والدولة، ويتأثر وجوده في المؤسسات العسكرية والامنية سلباً أو إيجاباً تبعاً لوجوده هناك. حتى ان الخوف والخشية التي ضعفت مستوياتها في المجتمع العراقي، ضعفت كذلك في عقول العسكريين ورجال الامن، الى مستوى لم يعد أحد يتوجس خيفة من القيام بعمل فاسد كنوع من الردع الذاتي، يحول دون الغوص في مستنقع الفساد. وفي الجانب المقابل وصل الكثير من المنتسبين غير الفاسدين، وبسبب ضعف الإجراءات المطلوبة للحد من الظاهرة، إلى مستوى اليأس من عدم إمكانية الإصلاح. وهذه إذا ما أضيف اليها حالة الإحساس الخاطئ بقصر الزمن. واحتمالات فوات الأوان الموجودة أصلاً في النفس العراقية. ستؤشر:
ان الفساد آفة بالفعل أسهمت في تأخير جاهزية الجيش وباقي أفرع القوات المسلحة عشرات من السنين، وستستمر في التأخير إذا لم تجد لها الحكومة حلاً مناسباً.

التعامل مع الفساد

إن عرض طبيعة الفساد والتوصل إلى جملة الحقائق والاستنتاجات الخاصة به، يمهدان إلى مناقشة مسألة التعامل مع موضوعه، تعاملاً لا يحسم بتوجيه العقاب ولا بالنوايا وتشريع القوانين فقط، لأنه موضوع شائك، أمتد في العراق إلى المنظومة القيمية الاجتماعية، فغير بعض معاييرها. وطال الروح الوطنية، فتسبب في تصدع بعض جوانبها. ولأنه متشعب تسربت آثاره، لتطال الذات الإنسانية، فقلل من وطأة الضمير في خصائصها. حتى أصبحت تلك الامتدادات وجوانب التسرب، خطوط دفاع بالضد من عمليات التعامل التقليدية لا يمكن تخطيها إلا بتوفر الآتي:
- دافعية قوية لسياسيين أكفاء.
- نوايا حسنة لموظفين نزيهين.
- جدية فعلية لتحمل المسؤولية التاريخية.
- كذلك رغبة عند الجميع في تحدي الغرائز الذاتية، لصالح الذات العامة، المتمثلة بوطن اسمه العراق.
ومع هذا، فالمسالة صعبة، تحتاج بعض جوانبها إلى آراء إجرائية، تُستنبط من بين فقرات المتابعة وتسطير الحقائق. خطوةٌ، إذا ما توافقت مع النوايا والرغبات والدافعية ومع جهد الدولة المنظم في هذا المجال، ستمهد إلى خطوات لاحقة، تصب في مجال المعالجة والإصلاح، وتحتاج بعض جوانبها الاخرى الى روح المبادرة، وشدة الحسم، والقدوة في السلوك.
اذ لو أن الوزراء، جميعهم قد أكدوا على مستوى العلن، وفي المناسبات المهمة، نيتهم القوية لمكافحة الفساد، وقادوا بأنفسهم الجهد الخاص بالمكافحة، والتزموا قبل غيرهم بتطبيق ضوابطها، وفتحوا مجال المناقشة لموظفيهم والراي العام، وأكدوا على الدراسة والبحث الخاصة بالموضوع لسهلوا خطوات المكافحة التي تود الحكومة الشروع بها.
ولو أن الوزراء ووكلائهم والمدراء العامين، تنازلوا من جانبهم عن تعيين الاقرباء في محيطهم، والسياسيون منهم، تصرفوا بحيادية في التعامل مع المنتسبين الى أحزابهم، وابقيت المناصب العليا في المؤسسات الامنية والعسكرية بعيدة عن المحاصصة التوافقية، لانحسر الفساد، بوقت قريب.
ولو أعيد النظر بآلية الرقابة والتفتيش داخل المؤسستين، وعممت نتائج التفتيش الخاصة بالفساد واعمال الخطأ والتجاوز على جميع الدوائر والمؤسسات والقيادات، وتثبتت آلية قانونية لمحاسبة المقصرين والفاسدين والمتجاوزين، واعيد النظر بأسلوب الثواب والعقاب في التعامل مع المنتسبين، لقويَّ الردع النفسي وقل الفساد.
ولو التفتت المؤسستين العسكرية والامنية، وشكلتا تنظيم بسيط يهتم بالجوانب النفسية والمعنوية للمنتسبين، يبحث في برامج التوعية والتوجيه، والترويح، وفي قضايا الوطنية، والنزاهة، والإخلاص في العمل، لوضحت الصورة البشعة للفساد، ولتعزز الجهد الرسمي الخاص بمكافحته بجهد ذاتي ينبع من داخل النفوس.
ولو تشكلت محكمة إدارية خاصة بمحاربة الفساد في كلا المؤسستين، واعيد العمل بالتقييم السنوي الذي كان معمولاً به في السابق، لكافة المستويات والتدرجات الوظيفية، وجرى وضع ضوابط جديدة لاختيار وتصنيف المناصب بمستوى المدراء والقادة والآمرين، لتقدم الانسب من غير الفاسدين الى المكان الانسب، وحوصر الفعل الشائن للفساد.
ولو صدق الراصدون، والتزم الاعلام الحيادية، وانتفت الحاجة لتسيس القضية، وقُدم كل المذنبين الى المحاكم المدنية، وعرضت توجهات فسادهم على الاجهزة الاعلامية، وبادر الكبير في المؤسسة الامنية او العسكرية، بتقديم ابنه او شقيقه المفسد، الى الدوائر القانونية، لتسجل وجود بداية صحيحة، وجهد متاح وامل في ان يتم الحد من الفساد آفة اجتماعية.
تطبيق القانون اساس الحل
إن الفساد الذي يتعلق بإساءة استعمال الوظيفة، يحدث عادة عندما يقوم موظف بقبول أو طلب رشوة أو ابتزاز الغير بهدف الحصول على مكاسب خاصة أو تسهيل انجاز معاملات غير مشروعة (13). عمل من شأنه أن يفقد القانون هيبته في المجتمع. لان المفسدين يحاولون عادة تعطيله وإبطال مفعول القرارات التنظيمية والأمنية، حتى ان المواطن إذا ما تأكد، المرة تلو المرة إن القانون في سبات عميق، وأن الغرامات واللوائح لا تطبق ضد المخالفات الصريحة، لأمن المجتمع الإداري والاقتصادي والاجتماعي، وان التجاوز على حقه في العيش والتنقل، وابداء الرأي، فلابد والحالة هذه أن يفقد ثقته في هيبة القانون وسلطانه، وتصبح مخالفته هي الأصل واحترامه هو الاستثناء، وتصبح مسالة الاصلاح اقرب الى المستحيل.
ان الفساد إخطبوط هيمن على جسم الدولة. لم يستثنِ المؤسستين العسكرية والامنية، وان الحد من هيمنته وتفشيه ليست باليسيرة، يحتاج التعاون الجاد بين كل الجهات المعنية والمجتمع، ومن ثم العمل على تغيير طبيعة البيئة الخصبة لنموه وانتشاره، من خلال عمليات تحسين مستوى العيش والأداء، والدفع باتجاه رفعة الوطنية، واحترام الذات العراقية. كما ان التوجه للتعامل مع الفساد يتطلب التحرك على مستوى الدولة العراقية بكافة وزاراتها ومؤسساتها، لأن عدواه يمكن أن تنتقل من دائرة إلى أخرى عن طريق الحث والتقليد، ومع ذلك يبقى التطبيق الجاد للقانون، والجهد المبذول في كل مؤسسة، مسألة لا يمكن الاستغناء عنها من أجل النهوض بالجهد العسكري الامني إلى المستوى المطلوب.

للراغبين الأطلاع على الحلقة السابقة:

https://algardenia.com/2014-04-04-19-52-20/thaqafawaadab/32751-2017-11-14-10-44-38.html

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

647 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع