سنوات صدام ـ الحلقة الثامنة...
ملياردير يعاني من البخل الشديد، عدي مصاب بهوس إطلاق النار ويعتز بأربع رصاصات استقرت في جسمه
في 1993 تلقيت مكالمة هاتفية من أمانة عُدي، تطلب مترجماً عن الإنجليزية تريده في اليوم نفسه، وفي الساعة الثامنة والنصف مساءً بالضبط. لم يكن يهمني كثيراً أن أكون مترجماً لابن صدّام البكر، المعروف بنزواته العنيفة، فأرسلت واحداً من زملائي، الذي أخبرني في اليوم التالي أن الأمور جرت على ما يرام.
بعد مرور أسبوع واحد، طلب عدي مترجماً مرة أخرى، لكن سكرتيره أديب شعبان «الأستاذ»، كما كان يدعوه مرؤوسوه، اشترط أن يكون مترجم والده - وهو أنا - هو الذي يجب أن يستجيب لهذا الطلب.
واستجبت في أدب جمّ ككل موظف في الرئاسة:
- إنه لشرف عظيم لي.. وسأكون في الموعد.
كان عُدي يستعد لاستقبال وفد من الأميركيين من أصل عراقي الذين كانوا لا يتحدثون العربية. وكان اللقاء بالضيوف في مقر اللجنة الأولمبية التي كان يتولى رئاستها في حي زيونة، وهي البناية التي قصفها الأميركيون بكثافة. في العادة كان عُدي يعطي مواعيده بالقصر الجمهوري في جناح كبير كان والده قد أهداه إياه، وكان مقره الرئاسي.
كان هذا البيت يطل على بهو واسع ينفتح على قاعتين للاجتماعات ثم على مسبح، وفي الطابق الأرضي على قاعة للرياضة البدنية. فقد كان عدي مثل كل أعضاء الأسرة الصدامية يعشق المكان الواسع الشاسع.
حين التقيتُ به، اكتشفت عُديّاً مختلفاً عن ذلك العدي الذي كنت أتخيله، بل لقد وجدته لطيفاً وغاية في الودّ، وهو يصافحني بحرارة، شاكراً تلبية الدعوة. وقد عرف كيف يجنّبني شرّه ونزواته على مدى فترة التعاون التي استمرت حتى عام 2003، فلم يكن يجهل أنني كنت المترجم الخاص لوالده.
كنت أجد مهمة الترجمة معه أقسى وأمرّ من خدمتي لصدّام نفسه بكثير. فمع الرئيس كان كل شيء يجري في يسر ونظام، لكن عُدي، الحاصل على دبلوم في الهندسة المدنية من جامعة بغداد، كان يدّعي أنه يفهم الإنجليزية، وكثيراً ما كان يقاطعني وهو يقول إنه فهم كل شيء، لكنه يعود بعد لحظات ليقول:
- ساعدني يا سمان.. فأنت مترجمي!
كان يفرط في تقدير معلوماته اللغوية، وكان يرطن بالانجليزية فيتكلّم بما لا يفهم.
الملياردير البخيل
كان عُدي رجلاً كثير الأشغال، فمن بين مسؤولياته الرسمية كان رئيساً للتحرير في العديد من الجرائد وعضواً في البرلمان ورئيساً لنادي الجادرية. وقلما كان يحترم المواعيد. كنت أحياناً أضطر لانتظاره ساعات طويلة مع ضيوفه من دون أن أجد ما أقوله لهم، فقد حدث أن استغرق مسؤولون رياضيون كُوريّون في النوم من فرط الانتظار!
وكان يعتذر بالقول إن شؤونه كثيرة، والحال أنه، باستثناء قيادته لفدائيي صدّام، فقد كانت مسؤولياته الأخرى قليلة الأهمية.
كان معروفاً ببخله، فلم يكن يدفع لموظفيه سوى أجور زهيدة. وبعد حصتي الثانية معه في الترجمة قال لي أحد كتّابه:
- إنّ عُدي راضٍ عنك كثيراً وسوف يمنحك مكافأة شهرية.
لكنّ المبلغ الذي وعدني به هذا السكرتير لم يأت قط، فقد اكتفى عُدي بإعطائي عشرة دولارات عن كل ترجمة، أي نحو عُشر ما كنت آخذه من والده. ومع ذلك، فقد كان يملك ثروة فاحشة، وكانت نفقاته مسجلة في ملفات، وبعد الاعتداء الذي تعّرض له في 1996 أبعده والده عن السباق نحو كرسي الرئاسة، ومنحه في المقابل حصة كبرى من عائد التهريب (بترول - سجائر ... إلخ) واليوم كل الناس في العراق يتساءلون أين ذهبت ثروته الطائلة؟!
كان عُدي على اقتناع بأنه نجا بأعجوبة. فهل لذلك السبب كان يبدّد الأموال تبديداً؟ في الثاني عشر من ديسمبر 1996 أطلق عليه قناصون متخفّون ثلاثين رصاصة اخترقت جميعها جسمه بينما كان يقود سيارته «البورش» في حي راق من أحياء المنصور. وقد كان في حالة موت إكلينيكي، حين وصل إلى مستشفى ابن سينا الكائن داخل القصر الجمهوري. وكان العراق قد استفسر من الفرنسيين إن كانوا يقبلون معالجته، لكنّ باريس رفضت الطلب.
كانت فرنسا قبل ذلك بثلاثة أسابيع قد استقبلت روكان الرزوقي قائد حرس صدّام الذي تعرّض لحادث دماغي. وما ان خرج هذا الأخير من مستشفى «بيتييه سالبتريير» حتى راح يستمتع بحياة باريس الليلية برفقة إحدى فتيات الليل في حي بيغال. والفرنسيون لم يحبذُوا استقبال أي مسؤول كبير عراقي، ولاسيما إذا كان هذا المسؤول شخصاً أرعن مثل عُدي.
ومع ذلك، فإن صلاته بالطب الفرنسي هي التي أنقذته، فمنذ العام 1984 كان عُدي يتردّد بانتظام على مجبّر (أي مقوّم أعضاء) باريسي،وهو طبيب عسكري سابق صار صديقاً له مع الأيام، ولو على مضضٍ بعض الشيء. وقد أرسل له هذا الطبيب على عجل فريقاً طبيّاً من فرنسا يتكون من أربعة جراحين، فزرعوا له طقماً معدنياً في الرجل اليسرى ـ وهو ما حرص الأميركيون على استعراضه لتوثيق بدنه بعد الهجوم القاتل على منزل الموصل الذي لجأ إليه مع أخيه.
ومن حادثة المنصور احتفظ عُدي بأربع رصاصات في بدنه. وقد كان فخوراً بذلك أيما افتخار، فقد كان على يقين أنّ الله قد أودعه مهمةً، فقد كان مهووساً بصحته، ولم يكن يثق بالطب العراقي. ففضلاً عن صديقه الفرنسي الذي أجرى له عملية جراحية في باريس العام 1986 بعد تعرضه لالتواء في مفصل الرجل اليسرى أثناء مباراة في كرة القدم، كان عُدي يستشير بانتظام اختصاصيين ألماناً في التدليك الطبي، واختصاصية فرنسية في علم الجنس، وممسّدة كانت تجيئه خصيصاً من منطقة الكاريبي.
بعض هؤلاء الاختصاصين كانوا يتقاضون مبالغ كبيرة: كان عدي يقدّم نحو مئة وخمسين ألف يورو مقابل ثلاثة أشهر من العلاج، لكنّ هذه المهمّة لم تخل من ضغوط. لقد قبعت ساحراتُ عُدي في فندق الرشيد حتى لا تتسّرب أخبارهنّ، ولما كنَّ يعلمن بولع مريضهنَّ بسحر الصبايا وبحساسيته لهنّ، فقد آثرت بعضهنَّ اصطحاب بعض الصّبايا الممرضات معهنّ إلى العراق. وعلى هذا النحو أيضاً تعرضّت العديد من طالبات جمعية فرنسا ـ العراق لنزوات عُدي الجنسية.
استطاع عُدي أن يعود لمشيته الطبيعية شيئاً فشيئاً، فقد كان بعض الخلل في الحركة العضلية آخر آثار إطلاق النار الذي تعرض له، وقد كانت رجله اليسرى إذا مشى لا تستجيب استجابة كاملة فتنحرف جانباً بعض الانحراف، لكنّ عُدي كان عنيداً ومصرّاً على أن يجلب من الخارج آخر ما أنتجته التقنية من أجهزة إعادة التقويم العضلي. كان مدخل مقر إقامته في القصر كثير الازدحام، إذ كان يستشير من الاختصاصيين من يشاء.
وقد استقدم خبيراً أوروبياً في الدماغ كان يدّعي ابتكاره لطريقة ثورية في الجراحة الدماغية لفحص عضلات الرجل، وقد ترجمتُ حديثهما: إذ حذّر هذا الأخصائي الأطباء العراقيين الموجودين حول عُدي من أن العملية تنطوي على كثير من المخاطر، وكان هؤلاء قد حذّروا عُدي في السابق من هذه العملية، لكنه أبى إلاّ أن يخالف تحفظاتهم، قائلاً بلا تفكير:
ـ أريد أن أخوض هذه التجربة.
لكن الحرب ما لبثت أن قامت ولم تمهله حتى يجري تلك العملية. غير أن عُدي ما فتئ يردّد لطبيبه الفرنسي:
ـ سأصبح عادياً عندما أستطيع أن ألعب لعبة الاسكواش كما كنت ألعبها من قبل!
ـ ولكنك تعافيت.
ـ لقد شُفيت، ولكني حين أطلق النار ببندقيتي الكلاشينكوف أشعر بأن رجلي اليسرى لم تعد مستقرة كما في السابق.
هوس اطلاق النار
لقد اقترح عليه طبيبه أكثر من مئتي نموذج من الأطقم المختلفة، لكنّ عُدي كان مصاباً بهوس إطلاق النار بالكلاشنكوف بحضور أصدقائه في ناديه الخاص بالجادرية، وهو ناد راق مخصّص للنخبة، به حدائق غناء تمتد على طول نهر دجلة، الذي كان يرسو به قاربه الخاص المعروف باسم «القادسية». كان الحفل عادة ما يبدأ بأغنية وطنية يشدو بها مطرب من مدّاحي صدّام.
وكلما سمع عُدي اسم والده راح يطلق رشقات من الطلقات على جدران النادي الليلي، ومن حوله الصبايا وقد وضعن أيديهنّ على آذانهنَّ. لم يكن عُدي سوى طفل مدلّل، يسعى للتباهي بنفسه وبوالده، بل ولقد جاء ذات يوم إلى النادي بسيارته «البورش» الخردلية اللون!
ذات يوم ذهبت إلى ناديه، وهو مكان منفّر لا ذوق فيه، زُيّن بكنبات مترفة ومرايا كبيرة. ويذكرك هذا المكان بنوادي الستينات الليلية في أوروبا. وعلى الرغم من ان النادي رديء فإنه غالٍ ـ الاشتراك السنوي فيه يتراوح ما بين مئة ألف وأربعمئة ألف دينار (ما بين 50 و200 دولار) وفقاً للمزايا المتوفرة والمسبح والمواقف المجانية.. الخ. وفي الجادرية، حيث كان يقيم أصحاب النفوذ في النظام، كان لعُدي العديد من البيوت الفخمة أيضاً.. صالونات واسعة من المرمر ومسابح وأفران لشي الخرفان وما إلى ذلك.
كان عُدي سييء الذوق، وهو ما كان يثير الإحراج أحياناً، فلم يكن يزعجه أن يستقبل وفداً وهو يلبس جبّة تجاوز بدنه طولاً، أو بدلة بكمين مبرقشين، فقد كان يحب خليط الألوان البّراقة، وكل ذلك بدافع حب التظاهر.
وكان الولع الاستحواذي بالجنس الآخر خطيئته الكبرى، فقد كان أحياناً يهاتف بصوته الناعم الجهير صبية مجهولة بدعوى أنّ والد هذه الصبية رجل أعمال في العراق، فيقول لها هامساً:
- عيوني، عيوني! عيونك حلوة!
لقد بلغ من الجرأة حداً جعل النساء يخشين الخروج، خوفاً من أن يقعن ضحية لنزواته التي تجاوزت كل الحدود وذات صباح اتصل بي حتى يسألني كيف نترجم إلى الانجليزية عبارة «أنت أمورة!».
وكان يحب الدردشة على الإنترنت ولكم أن تتخيلوا مع مَن، وقد طلب مني أيضاً أن أترجم له كتاباً عنوانه «كيف تقوي ذاكرتك لكي تصبح قادراً على قراءة كتاب كامل في دقيقتين». لقد أمضيت شهرين كاملين في ترجمة الكتيبين والأشرطة الثمانية لهذه الخدعة الفظّة. لقد قلت له إن الأمر مجرد دعاية كاذبة حتى لا يتهمني فيما بعد بأنني غششته!
كان عدي يحب الشرب ولعب القمار، وكان يهوى السهر طوعاً وعن إكراه أيضاً. فقد كان يعلم أن لا أحد يحبه، ولذلك كان يختفي عن أعين الناس، ويعزل نفسه عن عالم الواقع، محاطاً دوماً بنحو عشرة من الحراس. وفضلاً عن ذلك، كانت مقار لهوه خالية كئيبة، ولم يكن يجرؤ على الاستمتاع بحدائقه الخضراء لما في ذلك من خطر على حياته، فلم تكن الأسوار العالية المحيطة بممتلكاته كافية لإقناعه بأن يتمتع بحياته في هدوء وطمأنينة.
وقد أخذ عُدي نظام جهازه الأمني عن جهاز والده، حيث كان يقف أمام المبنى الذي يفترض أنه موجود فيه، خمسةٌ أو ستة حراس يحرسونه بشكل متواصل، بينما كان يقف ثلاثة أو أربعة آخرون من خلفه. فمثل صدام اذن كان عُدي حريصاً على أمنه وعصيّاً على من يحاول الاعتداء عليه.
غير أنّ عُدي على عكس والده، كان حرّاسه يرتدون الزي المدني ولا يعرضون أسلحتهم، فهم شباب من البدو، تتراوح أعمارهم ما بين العشرين والخامسة والعشرين، ومن أصول تكريتية، قصيري الشعر غير مرتاحين في بدلاتهم وربطات العنق، ولكنهم على استعداد لارتكاب كلّ الحماقات من أجل حماية «الأستاذ».
وكان أقاربه يستفيدون من وضعهم المميّز في ميدان الأعمال والصفقات والكسب: فقد استغل هؤلاء عشرة رجال أعمال فرنسيين كانوا في حاجة إلى تأشيرة في مطار بغداد، فاشترطوا عشرة آلاف دولار من كل واحد منهم حتى يحصلوا على التأشيرة.
وقد كان الناس يدّعون أن عُدي كان له صنو (شخص مشابه) وهو لطيف لايا من عائلة ميسورة، وقد رأينا نحن الذين نعرفه أن الإشاعة غريبة، لكن لطيف كان يستغل بالفعل شبهه بعُدي للدخول إلى الأماكن الحساسة حتى يعاكس ويتودّد للصبايا اللواتي يعجبنه، فقد كان لطيف صنواً مهتمّاً بالأمر، وهو الذي كان يدّعي أنه «نسخة» من عُدي، ولا أظن أنّ عُدياً قد لجأ يوماً لخدماته.
كان عُدي يستقبل زائرين أجانب كل شهرين تقريباً. كان هؤلاء في معظم الأحيان من الوسط الرياضي ومن البلدان الآسيوية خصوصاً، مدرب كاراتيه ياباني كان يأتي ليعرض خدماته، ورؤساء بعثات الفرق الرياضية المدعوة لبغداد، وكان هؤلاء الزوار أيضاً رجال أعمال، بمن فيهم الفرنسيون القادمون لالتماس دعم مقابل عمولات مغرية، وكانت المحادثات في الغالب قصيرة، ولم يكن عُدي في حاجة لمساعدتي، لأن مبادئه في الإنجليزية كانت كافية للحديث في قضايا الأعمال.
فقد كان يتفق مع شركائه حول مبلغ مكافأته ويتكفل سكرتيره أديب شعبان بالبقية. وكان عُدي يلتقي أيضاً برجال السياسة من أمثال النمساوي جورج هايدر الذي يتعامل معه في قضايا المال. وقد جرى العرف أن يجيء معظم رجال السياسة إلى بغداد وبرفقتهم «مستشاروهم» في الشؤون المالية.
ويذكرني هذا بإيطالية ممثلة لإحدى الشركات النفطية، جاءت يوماً لتعرض رغبتها في تسويق النفط العراقي. وقد شرحت لي قبل لقائها بابن الرئيس المزايا التي كانت تنوي جنيها من وراء هذه الصفقة، ففضلاً عن المكافأة، كانت تفكر في جعل مدير الفدرالية الرّياضية العراقية يستفيد من علاقاتها الطيبة مع الفرق الرياضية. وبعد ساعة من الانتظار قال لها أديب شعبان:
- إن السيد عُدي يأسف لتعذر التحدث معك، وسنقوم أنا وأنت بالنظر في تفاصيل العقد.
وقد اقترحت خدماتي على السكرتير، لكنه رفضها ولجأ إلى مترجمين ممَن يثق بهم في الأمن الخاص.
وكان عُدي يتدخل في مجال التسليح البالغ الحساسية. ويروي في هذا الشأن أنه كان دائم الشكوى من أخيه لدى والده، وقد استشاط ذات يوم غضباً:
- ما هذا؟ أأترك أخي يتعدى على اختصاصي؟
وكان يتفادى اللجوء إليّ في سهراته «الخاصة» التي كان يدعو إليها فتيات الليل، ويستقبل فيها نساءً من الخارج. ذات يوم جاءني أديب شعبان ليسألني دُون ذكر السّبب إنّ كنت أستطيع أن أنصحه بمترجم للإنجليزية، فاقترحت عليه القيام شخصياً بهذه المهمة، لكن السكرتير أجابني:
- لا، يا دكتور سمان إن عُدي مصرّ على أن لا يزعجك!
ونصحتُ بأشخاص عديدين من دون ذكر أي واحد من الشرطة السرية. فعُدي لا يرضى بهؤلاء خشية أن ينقلوا أخباره إلى والده.
غير أن عُدي، عندما كان يلتقي بأطبائه الأجانب، كان في الغالب يلجأ إليّ، فقد كان لا يثق بالأطباء العراقيين الانجلوفونيين، لأنه كان يخشى أن لا ينقلوا إليه بأمانة عتاب وملامة زملائهم الأجانب.
وقد تأثر في ذلك بما حدث مع أمه ساجدة، فقد كان عُدي طفلها المفضل، وكانت تنظر بعين الملامة إلى زواج والده الثاني بسميرة شهبندر، زوجة مدير الخطوط الجوية العراقية. كنت موجوداً في مستشفى ابن سينا عندما كان أطباء أجانب عديدون يفحصون ساجدة، فقد كانت تعاني من التواءٍ في المفاصل، وكان أحد الأطباء العراقيين قد نصحها باستعمال الماء الساخن لتهدئة الألم.
وحين روت ذلك للأطباء الأوروبيين قالوا لها إن كمادة من الماء البارد أفضل ألف مرة، ومنذ ذلك الوقت، صار عُدي يلح على أن أكون إلى جانبه أثناء أحاديثه مع الأطباء الذين يعالجونه، فقد كان يقول لي بإصرار:
- أريدك إلى جانبي وإلا كذب عليّ العراقيون!
ولأنه لم يكن يثق بهم، ألحّ على أن تجرى له إحدى العمليات في باريس العام 1986. وكانت مجرد عملية التواء مفاصل الركبة.
شطط وتعسف
الحال ان شطط عدي وتعسفه ونزواته تعود لسنوات طفولته الأولى، فقد كان دوماً متمرّداً على القوانين. وقد كان صدّام واعياً لانحرافات بكره، ولم يكن يجهل إساءته لصورة العائلة بل وحتى لصورة العراق.
وكان يعاقبه على افعاله أحياناً. ففي نهاية التسعينات دخل صدّام، وهو في أوج الغضب والغيظ، إلى المرآب الذي كانت تصْطف فيه سيارات عُدي «البورش»، وأعطى الأمر للأمن بأن يضرموا النار في نحو عشرين من سياراته الفخمة.
لقد كان عُدي طفلاً مُدلّلاً دائماً. صحيح أن والده كان يعاقبه من حين لآخر، لكن ما إن يطلق له العنان من جديد حتى يعود لجنونه مرة أخرى. كان صدّام يظنّ أن عُدي سيتعقّل ويتهذب يوماً، وقد كان حبه له أقوى من أن يُلزمه جادة الحق، فهو ابنه البكر بلا منافس - البكر الذي يمنحه لقب أبوعُدي.
الواقع أن عُدي لو لم يكن بهذا الشطط لكان طمع في كرسي صدّام، وقد أدرك الرئيس بعد محاولة الاغتيال التي تعرض لها عُدي العام 1996 أن هذه الخطوة غير واردة، وقد استبعده شيئاً فشيئاً، مانحاً إياه سلسلة من المناصب الشرفية. وكان عُدي يجد عزاءه في التهريب الذي كان يُمارسه على مرأى ومسمع من منظمة الأمم المتحدة ورغم أنفها.
والحقيقة أن صدّام كان يستخدم عُدي لأغراضه. فقد كان عُدي يستقبل الشخصيات التي لم يكن والده يرغب في مقابلتها أثناء زيارتها لبغداد. فقد تناوب صدام وعُدي مثلاً على استقبال الأميركي لويس فارخان، النشط الأميركي المسؤول عن «أمة الإسلام»، والبريطاني جورج غالواي.
وكان الرئيس يلجأ أيضاً لصحف عُدي ليمرر رسائله إلى العراقيين. فقد تم تشجيع إصدار ما سمّي بالصحف الخاصة، حيث رأت نحو عشر دوريات النور وأسبوعيات واسعة الانتشار مع زوايا اجتماعية بارزة وأحداث عامة، وصور لفتيات شبه عاريات. وقد كانت هذه الصحف والأسبوعيات تموَّل من خزينة حزب عُدي، ويقودها أفراد من أقاربه والمقربين إليه.
أما صحيفة »بابل«، رائدة مجموعته الصحافية، فقد كانت واحدة من الفضاءات النادرة المفتوحة لحريات النقد وتصفية الحسابات.
وكان وزير الإعلام عبدالغني عبد الغفور قد قرّر العام 1996 إغلاق «بابل» لمدة ثلاثة أيام، لكن النواب وفي حركة جماعية، ما لبثوا أن أعادوا فتح الصحيفة اليومية، وهو ما أتاح لعدي أن يضيف على الصفحة الأولى عنواناً جديداً «تصدر بتفويض من الشعب»، وما هي إلا أيام قليلة بعد الصدور حتى راحت سلسلة من المقالات تهاجم بعنف «وزيراً شبه أميّ يحتل مناصب مهمة بفضل الحزب وبفضل السيد الرئيس».
وقد أدت حملة القدح والتشهير هذه إلى إقالة عبدالغفور. فقد خُيّل للوزير المسكين أنه قد أحسن عملاً حين استشار الرئيس قبل إغلاق «بابل»، فأجابه صدّام قائلاً:
- قول مسؤولياتك! فنحن نعيش في ديمقراطية!
كان عُدي يعرف أنه قد انتهى سياسياً، فقد صار منبوذاً إلى هذا الحدّ من العراقيين، لدرجة أنه لو لم يمت برصاص الجنود الأميركيين لكانت نهايته مأساوية مثل نهاية رئيس الوزراء العراقي الاسبق نوري سعيد، الذي اغتيل العام 1958 عند سقوط الملكية.
فقد نبش قبره وأخرجت جثته، ورُبطت في دراجة نارية وجُرّت في شوارع بغداد جرّاً وكأنها غنيمة صيد!
المنزل الذي قتل فيه عدي وقصي
وعندما شاهدت جثتي عُدي وقصي في استعراض الأميركيين لهما، قلتُ لنفسي: لقد كانت نهايتهما مشرفة والسلاح في أيديهما. فلم يكن عُدي وقُصي يمثلان أي رمز من الرموز في أعين العراقيين، لكن لو كان ألقي عليهما القبض ووضعت الأصفاد في أيديهما لكان أمرهما أسوأ بكثير مما لقياه من مصير، فلا شك أن الكثير كانوا سيرون في تلك النهاية إذلالاً زائداً بحقهما، أياً كانت مشاعرنا نحوهما.
للراغبين الأطلاع على الحلقة السابعة:
http://www.algardenia.com/2014-04-04-19-52-20/fereboaliraq/10050-2014-04-25-10-27-40.html
876 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع