جميلة - قصة من مدينة الاسرار مدينة بغداد، بدأت احداثها في نهاية الدولة العثمانية/ ح٣

جميلة - قصة من مدينة الاسرار مدينة بغداد، بدأت احداثها في نهاية الدولة العثمانية/ ح٣

وصلت عائلة الشهيد قاسم العزاوي قائد الحامية العثمانية في الحسا والقطيف الى بغداد في بداية سنة 1916 قادمة من البصرة وسكنت أحد البيوت الكبيرة التي تملكها في محلة رأس الكنيسة المحاذية لمحلة السور في مركز بغداد القديمة واخذ اعمامهم الأربعة العناية بالعائلة وكانوا جميعا ضباطا في الجيش العثماني وقد سمع بعض زملاء الاعمام من ضباط الجيش العثماني العراقيين ببنات اخيهم المتوفي والقادمين حديثا الى بغداد فتقدم شقيق جميلة الشيخ الذي كان برتبة نقيب في ذلك الوقت الشيخ احمد كمال للزواج من البنت الكبرى أسماء وبذلك فقد كان محظوظا لأنه قد تزوج ابنة ضابط كبير وقد كانت على مستوى عالي من الجمال والاخلاق والمهارات العديدة في ترتيب البيت وطبخ الطعام وتفصيل وخياطة الملابس والستائر وغزل الصوف وحتى حلب الابقار حيث كانت العوائل الكبيرة في بغداد تقتني ابقار داخل بيوتها الواسعة من اجل الحصول على الحليب وبعد تطور الزمن وظهور شركات صناعة الالبان انقرضت تلك العادة وصار الناس يشترون الحليب ومشتقاته من الأسواق.

انجبت أسماء من الشيخ احمد كمال ستة أبناء وبنتين استشهد اكبر الابناء وهو الضابط الطيار سنة 1941 فخيم الحزن على العائلة سنوات عديدة وكان ذهاب جميلة لمقبرة الشهداء في الباب المعظم لأول مرة لزيارة الشهيد الشاب إبراهيم ادهم ( اسم مركب ) وبدأت منذ ذلك الوقت تقوم بزيارات متكررة الى قبر الشهيد وزيارة من توفى من العائلة من بعده وكانت تذهب الى المقبرة مرة او مرتين في الشهر وتأخذ معها علاكه الخوص التي تحملها تحت العباءة وفيها مكناسة الخوص وشموع وبخور وكمية من الزهور ونبات الياس الأخضر الذي له مكانة روحية كبيرة لدى البغادة في ذلك الزمن وكانت تجلب الماء من المقبرة بسطل من هناك وتغسل القبور وتكنس حولها ثم تقوم بإشعال البخور والشموع وتضع الازهار والياس الأخضر ذو الرائحة النفاذة وتجلس على راس كل قبر وتبدأ بقراءة السور القرآنية حيث تبدا بسورة ياسين وتنتهي بسورة ياسين وتبكي الى ان تحمر وجنتاها وتنتفخ عيونها فتقوم عائدة للبيت وقد طارت فرحا ونشوة لأنها زارت افراد العائلة المتوفين وقامت بواجبها وكان عمر الصغير ابن بنت اخيها الشيخ احمد كمال يرافقها في الكثير من الأحيان لزيارة المقبرة وخصوصا في العيد حيث كانت جميلة تزور المقبرة ليلة العيد عند وقت المغرب حيث يقوم عمر بجلب الماء والمساهمة كنس الارض وترتيب الزهور والياس واشعال الشموع والبخور وما ان تبدا جميلة بقراءة القران الكريم على المتوفي حتى يقف عمر الى جوارها وقد جلست القرفصاء ينظر الى وجهها بصمت ويسمعها تقرا القران الكريم وهي منفعلة تبكي وتقرا وتتكلم مع المتوفي في بعض الأحيان وعندما تغادر المكان تسلم على المتوفي وترفع يدها فوق القبر ثلاث مرات بحركات لم يفهمها عمر ولم يسالها عن تلك الحركات وتمشي مغادرة المقبرة دون ان تلتفت وراءها ولا تسمح لعمر الصغير بالالتفات كذلك وبقي عمر سنوات طويلة يفكر بصمت في طقوس زيارة المقبرة وغيرها من الطقوس باحثا عن تفسير لبعضها.
بيت العائلة الكبير في محلة العيواضية ( الفيصلية ) بالنسبة الى جميلة البيت النموذجي الذي تتمنى كل فتاة ان تعيش فيه فقد كانت مساحته 2500 متر تقريبا في ثلاث طوابق واسطح متعددة حيث كان اهل بغداد ينامون فوق السطح أيام الصيف عندما لم تكن هناك أجهزة تكييف, ولكل فرد في العائلة إضافة الى سريره في غرفة النوم العادية سرير اخر صيفي من الحديد يبقى في السطح طول السنة والفراش الذي يوضع في سرير السطح الصيفي عبارة عن مرتبة ولحاف ومخدة جميعها من القطن وشرشف خفيف يغطي المرتبة وكانت جميلة يوميا في وقت المغرب تفرش السطح ومصطلح تفرش السطح يعني عدة فعاليات وهي ان تفتح الفراش المغطى بحصيرة رقيقة من القصب الرفيع لحماية الفراش من حرارة شمس الصيف الحارقة وتضع المخدة واللحاف في مكانهما لكي يبرد الفراش لغاية حلول المساء ويكون جاهزا للنوم بعد ان ضربته شمس بغداد الصيفية طوال اليوم وتقوم بملء مشربيات الماء المصنوعة من الفخار التي يسميها العراقيين التُنك ومفردها تنُكة بضم التاء وتضع التُنك على زوايا حيطان السطح المرتفعة وتكون كل واحدة منها مغطاة بقبعة من الخوص حتى لا تدخل فيها الحشرات ,

وماء التنكة يصبح باردا لذيذا خلال فترة وضعه وقت المغرب لغاية حلول الليل وصعود العائلة الى السطح للنوم , وكانت جميلة بعد ذلك ترش أرضية السطح بالماء وكانت الأرضية من الطابوق المربع الأصفر المصنوع من الطين المشوي والمسمى طابوق فرشي حتى يبرد واذا ما يتم رش الطابوق بالماء حتى يفقد حرارة الشمس ويصبح باردا مثل طين الأرض البارد ومع تقدم جميلة بالسن اصبح الصغير عمر في الكثير من الأحيان يقوم بفرش السطح بدلا عن جميلة .

مع تقدم الزمن فقد ترك الخدم البيت بقيت جميلة لوحدها تنظف البيت الكبير ذو السقوف العالية والابواب الكبيرة المرتفعة وتتسوق احتياجات البيت وتشتري اللحم الطازج يوميا من القصاب حسين في منطقة الصرافية التي تبعد عن البيت بحوالي نصف ساعة مشي على الاقدام حيث كان محل حسين القصاب في يمين زاوية الشارع بعد مستشفى مير الياس باتجاه جامع عادلة خاتون

وكان حسين القصاب يعرف بيت الشيخ احمد كمال منذ سنوات طويلة و يبيعهم افضل اللحم , وعندما كانت جميلة تدخل الدكان تصبح سيدة المكان فتختار الذي تحتاجه من نوع اللحم حسب الطبخة التي ستطبخها وكانت نساء ذلك الزمن يخترن لكل طبخة جزء معين من جسم الخروف , وكان الناس لا يأكلون ما في داخل الخروف من اعضاء ويعطي القصاب تىعضتء الداخلية للخروف الى الكلاب والقطط السائبة في الشوارع ويعلق الكبد الذي يسميه العراقيين (المعلاق ) خارج الدكان حتى يتجمع عليه النحل والدبابير لكي لا تدخل الى الدكان لتزعجه وفي نهاية اليوم يرمي المعلاق للكلاب السائبة وفي بداية توسع بغداد وبناء الدور في منطقة الصرافية كانت مازالت فارغة تقريبا باستثناء مستشفى مير الياس ومحطة اسالة الماء التي تقع قرب الجسر الحديدي وخلال سنة 1952 عندما قام رئيس وزراء ايران محمد مصدق بتأميم البترول في ايران وقيام الملكة العربية السعودية بمناصفة الأرباح مع شركة أرامكو البترولية قامت الحكومة العراقية بمفاوضات عسيرة مع شركات البترول العاملة في العراق وتم الاتفاق بين حكومة نوري السعيد الملكية والشركات البترولية على كذلك على مناصفة الأرباح واصبحت للدولة العراقية إمكانيات مالية كبيرة أحدثت قفزة اقتصادية هائلة , فقد ازدادت القدرة الشرائية للناس في المدن الكبيرة وبدا تنفيذ مشاريع مجلس الاعمال في كل انحاء العراق عندها توجهت انظار كافة العراقيين الى المدن الكبيرة وخصوصا مدينة بغداد حيث تدفق الأموال على الناس نتيجة للحركة العمرانية الجديدة وحصلت موجة هجرة الفلاحين من ريف جنوب العراق وتحديدا من مدينة العمارة الى بغداد للحصول على الخير والأموال التي سمعوا عنها فتركوا أراضيهم بورا وقاموا ببناء اكواخ من الطين في مناطق خلف السدة و الصرافية وخان حجي محسن كعشوائيات  ورافق تلك الهجرة تعبئة فكرية ودعاية كاذبة جعل البسطاء من الفلاحين يهجرون أراضيهم وكانت تلك التعبئة الفكرية احدى أدوات صراع الحلفاء المنتصرين في الحرب العالمية الثانية وبداية صراع الأفكار بين الرأسماليين و الاشتراكية الشيوعية في العالم واصبح العراق مسرحا ومختبرا لتجارب المعسكرين وشجعت تلك الافكار وغسلت ادمغة الفلاحين البسطاء لترك أراضيهم او الهروب من أصحاب الاراضي التي كانوا يعملون فيها كعمال وانتشرت مفاهيم ومصطلحات جديدة على المجتمع العراقي كانت وقودا لفوضى اجتماعية عارمة استمرت عقودا طويلة منها مصطلح الاقطاع والاستعمار والامبريالية والديمقراطية والاشتراكية والطبقة الكادحة والصراع الطبقي واصبح المجتمع العراقي ضحية لذلك الصراع وانقسم بين مؤيد او معادي لاحد المعسكرين المتصارعين , ومع زيادة عدد الفلاحين المهاجرين ضاقت بهم منطقتي الصرافية وخان حجي محسن وبدلا من تهدئة هؤلاء الفلاحين البسطاء واعادتهم الى أراضيهم ووضع قوانين تنظيم الهجرة الداخلية في العراق فقد قام رئيس الوزراء عبد الكريم قاسم الذي قاد الانقلاب الدموي والذي غير نظام الحكم من ملكي الى جمهوري بتوطين الفلاحين المهاجرين في مدينة بغداد ونقل كافة سكان الاكواخ في مناطق خلف السدة و الصرافية وخان حجي محسن الى مدينة العمال التي تم بنائها في العهد الملكي في بداية الخمسينات كجزء من مشاريع مجلس الاعمار الملكي لإسكان عمال المشاريع الصناعية التي اقرها مجلس الاعمار في ذلك الوقت وقام عبد الكريم قاسم بتغيير اسم مدينة العمال الى مدينة الثورة , وقد شجع عبد الكريم قاسم خلال سنوات حكمه التي تقارب الخمس سنوات من بقي في محافظة ميسان والاهوار الجنوبية في بعض مناطق الناصرية بترك اراضيهم والهجرة الى بغداد لأنه كان بحاجة الى حشد شعبي وتظاهرات شبه يومية في بغداد لكي يظهر بمظهر قائد ومنقذ الجماهير في خضم فوضى حلت بالشرق الأوسط نتيجة لصراع المنتصرين في الحرب العالمية الثانية وتسببت هجرة الفلاحين تلك الى تدمير الزراعة في العراق وتحويل العراق من مصدر للحبوب الى مستورد بغداد المدينة الحضرية بالتدريج الى مدينة ريفية تسودها تقاليد غريبة عنها قد ارجعتها الى الفترة المظلمة من تاريخ العراق في العصور الوسطى وحصل في مدينة بغداد تغيير ديموغرافي ممنهج وشامل تغيرت فيه الثقافة والموسيقى والغناء وعادات الناس واللهجة البغدادية وفقدت بغداد اجوائها الروحية وفككت الروابط الاجتماعية ونشرت مفاهيم الانتقام والثأر والطائفية والقبلية بسبب ما كان يحمله المهاجرين الفلاحين معهم من جهل وعدم تقبل الاخر ونقلهم لعاداتهم وأسلوب حياتهم الريفية والقبلية الى بغداد , وكان عدد الفلاحين الذين تم نقلهم في البداية من الاكواخ الى مدينة العمال التي تغير اسمها فيما بعد الى مدينة ( الثورة ) بحدود ثلاثة الاف وخمسمائة شخص فقط ثم استمرت الهجرة حتى أصبح سكان مدينة الثورة اكبر بخمسة اضعاف من سكان مدينة بغداد ,

وبعد نقل الفلاحين المهاجرين من منطقة الصرافية الى مدينة الثورة رجعت منطقة الصرافية كما كانت فارغة وازيلت الاكواخ الطينية فقام أصحاب الأراضي ببناء بيوت عصرية جميلة عليها.
في يوم من أيام الشتاء في بداية الستينات وخلال زيارة جميلة الصباحية لبيت بنت اخيها فرح سالت عن عمر فاخبروها انه محبوس في احدى الغرف وقد تعرض الى ضرب مبرح على يد ابوه وقرر حبسه في غرفة بدون اكل يوما كاملا وعندما سمعت جميلة بذلك فتحت باب الغرفة واخرجت عمر وقد أصابه الخوف والجوع بعد ان قضى أربع ساعات في تلك الغرفة وهو الذي لم يتجاوز عمره السبع سنوات فماذا حصل؟ لقد تبين ان الصغير عمر ينزل بعد منتصف الليل من غرفة نومه في الطابق الأول الى الصالون ويبقى واقفا الى الصباح او يصعد الى غرفة نوم امه وابوه في الطابق الأعلى ويقف بجانب سرير امه الى ان تستيقظ وتراه واقفا الى جانب سريرها فتعيده الى غرفته او يقف على راس الدرج من الأعلى ويبقى واقفا بصمت الى الصباح وعندما يستيقظ اول فرد من العائلة يأخذه من يده ويعيده الى فراشه , وعندما يسالونه لماذا يقوم بذلك فيخبرهم انه لا يعرف السبب ولا يتذكر ذلك وكانت تلك الحوادث تحصل اما في ليلة الاثنين او في ليلة الخميس والذي اثار والده الى ضربه بشده وحبسه في الغرفة انه في الليلة السابقة وفي الساعة الثالثة فجرا دق جرس الباب البصوان ونزل الجميع الى الأسفل وقد اصابهم الخوف , فليس من الطبيعي ان يُقرع جرس الباب في تلك الساعة من الليل

( والبصوان هي كلمة تركية تعني الحارس الليلي كانت مستعمله في بغداد قبل الغاء تلك المهنة وحلول دوريات الشرطة محلها ) وعندما فتحوا الباب كان البصوان يمسك بيد عمر ويسالهم لقد وجدت هذا الطفل واقفا في الباب هل هو ابنكم ؟ عندها ثارت ثائرة الجميع على عمر وادخلوه الى البيت ومنذ تلك اللحظة اخذ الجميع يراقبه وبعد حادثة الحبس في الغرفة أصبحت جميلة تزورهم عدة مرات في اليوم لتطمأن على عمر وقد تم عرض عمر على اثنين من الأطباء الذي اكدوا ان حالته العقلية والجسمية الصحية طبيعية وليس هناك أي اضطراب نفسي وبعد فقدان الامل في علاج الأطباء قررت امه فرح ان تأخذه الى والدها الشيخ احمد كمال لكي يقرأ على راسه القران الكريم لعله يترك عادة التجول الليلي , لقد كان للشيخ احمد كمال قوة روحية يعرفها الجميع فأبوه شيخ طريقة صوفيه من الموصل وامه بنت شيخ طريقة صوفية من عشيرة البرزنجي في السليمانية وقد اجتمعت الطريقتين في شخصه , وفعلا جاءت فرح بعمر الى ابوها الشيخ احمد كمال فوضع يده اليمنى على جبين عمر وقرأ على راسه بعض من سور القران الكريم وعادت به الى البيت , وما ان عاد الى بيتهم مباشرة شعر عمر بالتعب فنام في الصالون والكل جالسين يتفرجون على التلفزيون وكان ذلك غريبا على عمر الطفل الشقي الذي لا يتمكن من الجلوس دقيقتين في مكان واحد وتم الاتصال مع خاله الطبيب فجاء فورا للبيت وفحصه فتبين ان درجة حرارته مرتفعة جدا فوضعوا له الكمادات الباردة الى ان خفت حرارته وفي اليوم التالي اصابت عمر حالة غريبة فاخذ يتكلم بأشياء غير مفهومة وبعض الأحيان بلغة غريبة وقد اعتقدوا انه أصيب بالجنون نتيجة لارتفاع درجة حرارته في اليوم السابق واستمر بالهلوسة يوما كاملا لكن حرارته كانت ترتفع وترجع طبيعية كلما اكل الطعام وبعد يومين اخذ يعطي اهله اخبار عن اخوته الذي كانوا خارج البيت وهو جالس في مكانه في البيت بدون ان يراهم وعند عودة اخوته للبيت يقومون بضربه لأنه فتن عليهم واخبر الاهل , فمثلا كان اخوته يلعبون الكره في الشارع في حين انهم اخبروا الاهل بانهم ذاهبون لمذاكرة الدروس مع اصدقائهم او يرسلون اخوه الأكبر منه لشراء الخبز من المخبز القريب فيتأخر في العودة للبيت وعند سؤاله عند عودته عن سبب التأخير يقول لهم ان المخبز كان مزدحم فيخبرهم عمر بانه كان يلعب مع أصدقائه فلان وفلان وكان يخبر اهله ببعض الأشياء قبل حصولها و قد استمرت تلك الحالة أسبوعين اكل عمر من والده واخوته ضربا مبرحا يعادل ما اكله من ضرب طول حياته وقد اطلق عليه اخوته لقب عمر الكذاب حتى لا يصدقه الاهل وبعد أسبوعين وفي ليلة الاثنين اخذته والدته فرح الى ابوها الشيخ احمد كمال واخبرته بالذي حصل له فطلب الشيخ احمد كمال طاسة ماء معدنية ومل الطاسة بالماء وقرأ عليها القران وبعض الاوراد الصوفية وشربها عمر واخبرهم الشيخ احمد كمال بانه سوف لن يمشي في الليل ولن يخبرهم بأشياء غريبة في المستقبل وعليهم الاعتناء به وفعلا توقفت تلك الحالة وهدأ عمر وارتاح الجميع لكن جميلة احست بان عمر يمتلك قوة روحية وصفاء وشفافية غير معهودة واخذت جميلة تتبارك به لكن بسرية تامة دون ان تخبر احد بذلك وتتعامل معه بصمت , ففي احد الأيام وعند مغيب الشمس نادت جميلة عمر لتناول الطعام معها في المطبخ واخذ عمر مكانه جالسا بجانب جميلة ملتهما الطعام بشهية احست جميلة فجأة بحرارة غريبة تدخل الى جسمها وبطاقة لطيفة وقد كانت تعاني من الام كثيرة في ركبتها اليمنى وبعد سريان تلك الطاقة شعرت بتنمل في فخذها امتد ليصل الى القدم وتوقف الم الركبة وفي البداية اعتقدت جميلة ان مشاركتها عمر في الاكل هي البركة التي حلت بها وتوقف الألم لأكثر من أسبوع وجربت مرة ثانية ان تجلس الى جانب عمر وتأكل معه فتكررت نفس الحالة وبعد فترة وعند وقت الظهيرة نادت عمر لكي يساعدها في تفصيل ثوب منزلي فجلس بجانبها على طاولة ماكنة الخياطة وعند ذلك تكررت حالة النشوة والطاقة المريحة وتوقف الم الاسنان الذي كانت تعاني منه ولم يكن عمر يأكل في تلك اللحظة لذلك تبين لها ان جسمه يشع بتلك الطاقة وشفائها سابقا لم يكن ببركة الطعام الذي كان يأكله وانما بطاقة جسمه ولم تتمكن جميلة من السكوت طبعا بل اخبرت عمر عن ذلك وطلبت منه عدم الإفصاح لاي بشر بحالته تلك خوفا عليه ومنذ تلك اللحظة دخل عمر في عالم جديد غير محدد المعالم فقد كان يشعر بانه ليس لوحده في بعض الأحيان وقد يرى أشياء لا يراها الاخرين وقد يسمع أصوات بعيدة واستمرت اخبار المستقبل تصل اليه ولا يعرف اليه حصول تلك الأشياء , لكنه اصبح خائفا من الحديث مع الاخرين عنها نتيجة لتجربة الضرب الذي تعرض له من اخوته في بداية حالته تلك خلال فترة الأسبوعين وبذلك عاش في عالم خاص به لا يفهمه الاخرين , وكان يخبر اخوته بحوادث المستقبل في أشياء بسيطة مثلا عند خروجهم من المدرسة وعودتهم للبيت كان يخبر اخوته نوع الطعام الذي طبخته امهم او ما سيحمله ابوه من فواكه للبيت عند عودته من العمل عصرا وقد لازمت تلك الحالة عمر طول حياته وتطورت بشكل تدريجي لكن بقيت تحت رعاية والديه الذين كانوا يعملون ي مجال التدريس وقد تعاملوا معه بشكل علمي عقلاني بعيدا عن الخرافات والخزعبلات وقد جعلته تلك الحالة يعيش بشخصية خارجية يتعامل بها مع الاخرين وشخصية داخلية يتعامل بها مع عالمه الروحي وقدراته الخارقة.
عندما كَبُرَ أبناء الشيخ احمد كمال تزوجوا واحدا بعد الاخر وسكنوا في البداية في بيت العائلة , واخذت زوجاتهم تساعد جميلة في تنظيف البيت الكبير وخصوصا حملات التنظيف وغسل الستائر وتبديلها في مواسم الأعياد والمناسبات الأخرى ولم تكن جميلة طبعا ترضى عن نوعية التنظيف لكنها لم تفصح عن ذلك ابدا وذلك من باب الاحترام وتشجيعهم على العمل وكانوا يتعلمون منها كل فنون الطبخ وترتيب وإدارة البيت وأساليب استقبال الضيوف وعمل الولائم الكبيرة , وكان أبناء اخيها الشيخ احمد كمال يساعدونها في بعض الأحيان فيقومون بتوصيلها الى أماكن التسوق بسياراتهم خصوصا في الأعياد والمناسبات وذلك لان كمية المواد التي تشتريها لا تتمكن من حملها .
كانت شقيقة جميلة الكبرى فريدة المسؤولة عن الطبخ للوجبات الثلاثة وذلك منذ وصولها الى بغداد في اخر العهد العثماني الى ان توفيت في عام 1978 وكانت من عادة العائلات البغدادية ان يكون لديهم جدول اسبوعي شبه متفق عليه في مواعيد ومواسم وانواع الاكل

فالباقلاء مثلا عادة كانت تؤكل كفطور في صباح يوم الجمعة شتاء حيث تسلق الباقلاء اليابسة ويقطع الخبز وينقع في ماء الباقلاء لعمل فتة ثم توضع الفتة التي يسميها البغادة تشريب في صينية كبيرة توضع فوقها الباقلاء وفوقها البيض المقلي وترش بالسمن البلدي مع عصير النارنج الغني بفيتامين سي وتقطع البصل ارباع وتزين بها الصينية من كل الجوانب ويرش على المحتويات البطنج الناشف , والبطنج هو نوع من النعناع الأخضر البري داكن اللون ينبت كثيرا في العراق ويستعمل عادة في السلطة ويستعمل في المنازل لطرد الافاعي لرائحته النفاذة التي تكرهها الافاعي ويستعمل البطنج كذلك مع الباقلاء لتجنب الغازات وعسر الهضم ,

والدولمة موسمها في الربيع والشتاء حيث يتم حشو البصل والخيار والباذنجان والقرع والطماطم وورق العنب والسلق بمزيج من اللحم المفروم والكرفس والرز , واما مواعيد الاكل التي وضعها الشيخ احمد كمال كانت ثابتة ولم تتغير فالإفطار بين الساعة السادسة والنصف والسابعة صباحا والغداء الساعة الثانية عشر ظهرا الى الثانية عشر ونصف والعشاء من السادسة الى السادسة والنصف مساء , وكان الإفطار مختلف الأنواع يوميا لكن هناك فقرات ثابتة تقدم مع كل أنواع الإفطار وهي خبز وزبده ومربى مختلفة الأنواع وكان الاستيقاظ في الصباح عند السادسة والنوم عند المساء في التاسعة وهناك طبعا قيلولة مدتها ساعة في وقت الظهيرة.

عالم المربيات كان في بيت الشيخ احمد كمال عالم كبير فقد تعلمت جميلة من زوجة اخيها أسماء أنواع المربيات التي تستعمل عادة أنواع الفواكه الموجودة في حديقة البيت الكبيرة حيث كانت تصنع مربى البرتقال والليمون والبرتقال المر بنوعيه المصنوع من السندي والمصنوع من الطرنج الذي يبلغ حجمه اصغر من كرة القدم تقريبا ومربى التفاح وحلويات التفاح ومربى الورد وهي من اشهى أنواع المربيات البغدادية حيث كانت جميلة تقوم بفرش قطع نايلون تحت أشجار الحمضيات وقت الربيع فتتساقط الازهار البيضاء التي يسميها العراقيين القداح وتجمع تلك الازهار ويتم عمل المربى منها دون إضافة أي نكهات اليها كذلك يتم عمل مربى الخوخ والعرموط ( الكمثرى) ويتم وضع المربى في علب زجاجية صغيرة تخزن في غرفة الطعام الرئيسية ولم ترى جميلة في حياتها غير التي كانت تعمل في البيت لغاية منتصف السبعينات عندما توقف عمل المربيات في البيت واخذت تشتري المربى من الأسواق ,

وكانت أسماء تعمل ماء الورد من ازهار الورد البلدي الذي يملئ حديقة البيت بطريقة التقطير حيث تغلى الزهور بالماء ثم تتبخر وتمر في انابيب لكي تبرد فتتقطر وتصبح سائلة ويتم تعبئة ماء الورد في زجاجات بيضاء اللون , جميلة كانت تقوم بغسل وتنشيف كل أدوات صناعة ماء الورد وعلب المربى الزجاجية الصغيرة وقناني الخل وعلب دبس التمر الزجاجية وتعرضها لأشعة الشمس كنوع من التعقيم الطبيعي وكذلك عندما تغسل ملابس العائلة بالغسالة الكهربائية تحرص على نشرها في الشمس وفي وقت الشتاء حيث لا تشرق الشمس في بعض الأحيان كانت جميلة تقوم بكوي الملابس بالمكوى لتعقيمها لعدم وجود اشعة الشمس.
العمة فريدة المسؤولة عن الطبخ اليومي وفي بعض الأحيان كانت جميلة تطبخ عندما تمرض اختها فريدة وفريدة كانت امرأة صامته قنوعة لكنها تمتلك إرادة فولاذية ففي احد الأيام في نهاية العشرينات مرض الابن الثالث للشيخ احمد كمال مرضا شديدا ولم يتمكن الأطباء من شفائه وقد كان الطب متأخرا جدا وكان الناس يخلطون بين الطب العادي والعلاج بالأعشاب والاكل وبين الصلاة والدعاء وقد تعلقت فريدة كثيرا بذلك الطفل ونذرت لله اذا شفي من المرض فإنها ستقوم بالتنكر والذهاب الى بيوت اليهود في بغداد يوم السبت وتشحذ منهم الطعام لكي تذل نفسها ثم تتصدق بذلك الطعام لفقراء المسلمين والمسيحيين وكان تقليد اذلال النفس نوع من الطقوس الصوفية السائدة في ذلك الوقت , والمعروف ان اليهود في أيام السبت لا يطبخون الطعام ولا يشعلون نارا في بيوتهم وطلب الطعام منهم في يوم السبت كان في غاية الصعوبة ويتطلب صبرا وجهدا وتوسل كبير الى ان يقتنعون بفتح باب البيت وتقديم الطعام , وقد دعت العمة فريدة من الله سبحانه وتعالى للطفل المريض ان شفي يجعله الله طبيبا في المستقبل يعالج الناس , بدأت فريدة في الصلاة والدعاء وقامت بصوم السيدة مريم لمدة أسبوع كامل ويسمى هذا النوع من الصوم في بغداد كذلك الصوم الخرساوي وهو الامتناع عن الكلام ومحاولة عدم سماع الأصوات قدر الإمكان والاعتكاف في مكان بعيد عن الناس من شروق الشمس الى غروبها ولا يشمل صوم السيدة مريم الصوم عن الاكل والشرب , واستمرت فريدة بالصلاة والدعاء والصوم الخرساوي أسبوعا كاملا وشفي ابن اخيها الصغير ونفذت نذرها فتنكرت بزي شحاذة وذهبت الى بيوت اليهود يوم السبت في منطقة تحت التكية وقنبر علي في بغداد وشحذت الطعام وفي نهاية اليوم قامت بالتصدق بالطعام الى فقراء المسلمين والمسيحيين, ومن غرائب الأمور ان امنيتها قد تحققت فقد اصبح ذلك الطفل طبيبا مشهورا عالج مئات الاف الأشخاص وخصوصا الأطفال والمعوقين وكان هو كذلك يعالجها ويعالج امه وابوه وجميلة وكافة العائلة والجيران وكانت العمة فهيمة بين الحين والأخر تصوم عن الكلام للنذر او بدون نذر وتبقى تقرا القران وتسبح وتذكر الله لكي تبقى على صلة بالله كما كانت تقول , اما جميلة كانت لا تتمكن من الصيام عن الكلام لأنها لا تتمكن من التوقف عن الكلام لحظة واحدة وكانت تشبه الراديو المتحرك أينما ذهبت, فتقدم نشرة اخبار على مدار الساعة وبرامجها كانت فكاهية وتراثية وصحية و طبخ متنوعة.
البقية في الحلقة القادمة...

بسام شكري
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

للراغبين الأطلاع على الحلقة الثانية:

https://www.algardenia.com/qosesmenaldakera/58229-2023-04-02-16-16-35.html

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

711 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع