أيام زمان الجزء ٤٩-القبقاب
المثل العراقي يقول (عرجه ولابسه قبقاب...).
في قاموس جامع المعاني، القَبْقَابُ: النَّعْلُ تُتَّخَذُ من خشب، وشِرَاكُها من جلد أَو نحوه والجمع: قباقيب.
كان القبقاب رمزًا للدلع بين البسطاء نظرًا لمزاياه العديدة، ولعل أبرزها علوه عن مستوى الأرض، وتميزت الجميلات عند مشيهن، وغالباً ما يُسمع صوت نقر متكرر على الأرض، ناجم عن ارتطام أحذية خشبية تقليدية تسمى قباقيب، والجيل الخمسيني يتذكر أغنية شادية التي تقول «رنة قبقابي يمه رنة قبقابي وانا ماشية يمه بتميل راسي». ومع ذلك فلم يبق من هذه الأغنية سوى الذكرى، والقبقاب من الأحذية التي تصنع من الخشب ويضع في مقدمتها قطعة جلدية تكفي لإدخال أصابع القدم فيها، ويكون مرتفع عن الأرض لأنه يكثر ارتداءه في الحمامات، حيث انه يشبه حذاء الكعب العالي.
والقبقاب ناعم، محب لمن يلبسه، صحي، قوي، طنان، وكعبه العالي زينة العروس ، ومصاحبها في حمام العرس؛ لزيادة طولها ورقتها وأنوثتها، رنته شفرة سرية لقلب الحبيب، انتشر في عصر الجواري الذهبي، ولبسه الملوك دليل العظمة والشموخ، وقُدِم القبقاب هدايا للملوك والسلاطين، وعلو كعبه فهو منقذ من أوحال الشتاء، ومع ذلك فهو مراوغا ومخاتلا، لكنه وضيع في بعض المواقف، وفي نفس الوقت كاذب وهدَّار، وسبب الهلاك والموت، مدمى الرؤوس، ومُشعِل المعارك، ووسيلة للانتقام، فدبّرت شجرة الدر مكيدة لعز الدين أيبك بعد زواجه من ابنة والي الموصل واشتعلت نار الحقد ا في صدرها فدعته إليها، فلمّا وصل سلطت عليه جواريها ضربًا بالقباقيب الخشبية حتى الموت، والقبقاب يرافق وداع الخطيب (المتعوس)، ودليل الإدانة، والعقاب، وتغيُّر الحال وتبدلّها.
للقباقيب مميزات أخرى، إنها مريحة، تقوم بحماية القدمين، ويبقى القدم جاف ودافئ، وعلاوة على ذلك فالقباقيب ضرورية للمشي على الطين عبر العصور، تم تصميم وتصنيع القباقيب لاستخدامها لعدة أغراض، على سبيل المثال: قباقيب الفلاحين التقليدية، قباقيب البستانيين، قباقيب الصيادين، قباقيب التزلج، قباقيب تلبس أيام الأحد فقط. والقباقيب مصنوعة خصيصاً للنساء، فهو رخيص الثمن، وصِحِّيّ، يشد الظهر، ومريح للقدمين، ولا يتلف بمرور الزمن، ولا تتعلق به القاذورات. ولا يحمل نجاسة في حَمَّامات المساجد في أثناء الوضوء، إضافة إلى أنه متين يتحمل الأعمال، وكان آخر ما ختم به تاريخ القبقاب أنه دخل في أدوات التقريع والعقوبات، ويستخدمونه بوصفه نوعاً من العقاب بالجاني؛ إذ دخل ضمن أدوات العقاب، عندما كان يعلق في عنق الشخص المعاقب ويطاف به فوق ظهر حمار.
وشكل القَبْقاب في الماضي مختلف عما نراه اليوم، فنجد بعض القباقيب قريب من الأرض، وبعضها له ارتفاع، وكان يلبسه من كان يرغب في تطويل قامته لابتلائه بالقصر المفرط، أو كان محباً العظمة والظهور، وكان استعماله والسير به له قواعد خاصة به تحتاج إلى تدريب؛ كي تتمكن الفتاة من إصدار الصوت في القَبْقاب فيبلغ أثره إلى نفوس شباب الحارة.
وكان القَبْقاب في الماضي من ضمن أساسيات جهاز العروس مع كرسي الحمام، ويغلف بالمخمل، وله أسلوب مميز من غيره في تزيينه وتجميله بالفضة والذهب، واليوم اختفت القباقيب من الأقدام كما انمحى ذكره من الأسواق التاريخية الجميلة، ومن أذهان الناس، ولا يزال القسم منه يباع فيه كتحف وكجزء من الموروثات الشعبية الجميلة. القبقاب سيّد الموقف قديماً، سيّد موقف أيّام زمان، عندما كان القبقاب قبقاباً حقيقيّاً من خشب الجاوي وليس خشب فايبر، فالقبقاب كان قديماً أضمن وسيلة نقل العراقيين عبر العصور القديمة داخل الدار أو خارجه، خاصّةً عند الفيضانات والأمطار الغزيرة الّتي تغرق أزقّة وحارات المدن الواقعة على ضفاف دجلة والفرات، فيحتاج العراقي للقبقاب كضرورة.
وكانت العائلات تميز القباقيب بعضها من بعض بوساطة وضع مسمار أو أكثر في مقدمة القبقاب، إضافةً إلى ألوان سير القَبْقاب؛ إذ كان عادةً يُزيَّن القَبْقاب الخاصّ بالأطفال بالورد والألوان، على حين تُميَّز قباقيب الرجال من غيرها بألوانها التي تراوح بين اللونين البني والأسود.
أما الآن فيرى كثيرون القبقاب لا يناسب العصر؛ لاختلاف أنماط الحياة والسكن والتطور، فلم يعد القَبْقاب حذاءً شعبياً، بل أصبح حذاء سياحياً، وفي بعض الأحيان حذاءً طبياً، يصفه الأطباء لبعض المرضى؛ ممن يعانون مشكلات في أقدامهم؛ مثل: الحساسية، أو مرض السكري، لكن لا يزال الصوت الذي يصدره يثير لدى السامع إحساساً مختلفاً يعيده بالذاكرة إلى الزمن القديم. لبس القبقاب كان منتشراً في البلاد العربية، وتعتبر بغداد ودمشق من أشهر المدن العربية التي عُرفت بصناعة القبقاب، وتخصص في صناعته حرفيون مهرة، كما إن له
محلات خاصة في عرض وبيع القبقاب، ويتم تصدير نوعيات مختلفة الى كافة البلدان العربية.
مهنة (القبقاب جي) وراثية، فيها تنتقل من الآباء إلى الأجداد، ومثل كل المهن، يُنسب إليها من يعمل بها، إذ إن أول قبقاب مكتشف في مصر يعود إلى 850 عامًا. وترجع القباقيب إلى أيام الفاطميين والعثمانيين؛ فقد كانت تُستخدم في الحمامات العامة لمنع الانزلاق، فالقبقاب ثقافة جماعية في وعي الناس في تلك الفترة، ويذكر أن الفاطميين اخترعوا القبقاب لأن أرضية الحمامات ساخنه نتيجة الأواني الفخارية الضخمة التي كانت تحت الأرض الممتلئة بالماء، وتحتها منقد كبير يقوم بتسخين الماء ومن هنا فكروا في عمل مداس بنعل خشب حتى لا يشعرون بالسخونة، وطور العثمانيين صنع القبقاب الرجالي بحجوم كبيرة. لا نستطيع أن نخلع القَبْقاب من قِدم التاريخ العربي، بعد أن نقرأ نصيحة أهل الشام القديمة التي تقول: "البسوا في أرجلكم القبقاب، فهو من الخشب ومريحٌ للقدمين، ولا يتأثر بالحرارة أو البرودة، ولا يسبب التشققات الجلدية؛ لأنه ليس هناك أحنّ من الخشب على بني آدم".
يُلبس كيفما اتفق ولأي قدم كانت، كذلك ما يميزه أيضاً ارتفاعه عن الأرض لوجود مساند عالية في أسفله كذلك لا يتعرض من يرتدي القبقاب الى الانزلاق والسقوط، لكونه مصنوع من الخشب الغير قابل للتزحلق. وعلى الرغم من فائدة القبقاب وجماله، فإنه يحمل القسوة ويمثل حرجاً للعريس الذي يتقدم إلى خِطبة فتاة، فبعد أن يزور بيت الفتاة ويراها وتراه، ولم تُعجب العروس به، كانوا يضعون قبقاباً على عتبة باب الدار، وعندما يخرج الخاطِب من منزل العروس ويرى القَبْقاب على الباب، يعلم عدم قَبول خِطبته فلا يعود، أو يصبغونه بلون ذهبي ويضعونه في علبه فاخرة ويرسلونها إلى أهله.
لم يعد ارتداء القباقيب مثل سابق عهده، فقد بدأت في التلاشي، وأقتصر وجودها داخل المساجد، بالأماكن المخصصة للوضوء فقط، بعدما كانت تملأ المساجد والحمامات الشعبية لدورها في حماية مرتديها من الانزلاق. تعتبر المواسم الدينية المتمثلة في شهور رجب وشعبان ورمضان، أكثر أوقات بيع القبقاب، إذ يشتري بعض الناس كمية كبيرة ليتبرعوا بها للمساجد، فوجوده أصبح مقتصرا داخل المساجد للوضوء.
والقَبْقاب الذي نراه الآن، يتكون من قالب خشبي ذي المقاس الموحد، ويتميز القبقاب أنه لا توجد فيه فردة يمين أو فردة يسار، وطريقة صنعه تكون بعد قطع الأخشاب من الشجر، وتحويلها الى ألواح خشبية، وأصعب مرحلة هي تصميم القوالب الخشبية التي تتم بوساطة ورش نجارة متخصصة، وفي الماضي كان الحِرَفِيُّون ينحتون القبقاب بأيديهم إلى أن ظهرت آلات تؤدي هذه المهمة. وبداية التصنيع تبدأ بعد تجهيز الواح الخشب حيث يقطع شرائح على أشكال قدمين، بعدها تتحول الى قطع على شكل قوالب، تشبه قاعدة الحذاء لها كعب من الخلف أو مسندين أثنين من الأسفل، تكون بارزة ترفعه عن الأرض، ويرسم على قدم الإنسان حسب المقاس، ثم تأتى عملية التفكيك، وفيها تتم إزالة الزوائد الخارجية من الجانبين، ثم النشر بعملية اللف وهي إزالة الزوائد الأمامية والخلفية، وبعدها تأتى عملية التقدير وهي تشكيل كعب القبقاب، ثمَّ يأتي دور التنعيم أي حفُّ القبقاب تمهيداً لطلائه، وأخر مرحلة يُركب عليه السير، وهي قطعة من الجلد تثبت على مقدمة القبقاب من الأعلى بمسامير خاصة، وقطعة صغيرة من الصاج؛ لإحكام ربط (السير) بالقالب الخشبي، ويكون السير بألوان مختلفة، لقد تفنن (القبقاب جيه) فطعّموا الخشب بالمعادن والحجارة الكريمة والصدف، وطرزوا سيورها بخيوط من الذهب والفضة، وكانت القباقيب أنواعًا متعددة، كالشبراوي والساذج والمطعم بألوان مختلفة، ولقد اختلف شكل القبقاب ونوعه ما بين الأغنياء والفقراء، واختلف ما لُبس منه داخل البيت وخارجه.
فهو ويُصنع من خشب الصفصاف أو الجاوي أو الجوز لكثرة هذه الأشجار، ويعد خشب التوت من أفضل أنواع الخشب المستخدمة في صناعة القبقاب. في الوقت الحالي تعيش صناعة القباقيب رمقها الأخير، وتوشك على الفناء والتلاشي، بعدما كانت ملهمة لكثير من دور الأزياء العالمية التي اقتبست بعض تصميماتها واستخدمتها لترويج منتجاتها.
وأغرب قصص القَبْقاب ما حُكي عن أحد لاعبي السيرك الذي سافر من حلب إلى دمشق، وأظهر ألعاباً وفنوناً غريبة منها أنه مشى على الحبال منتعلاً قبقاباً وتحته ألواح الصابون، وهناك حادثة شهيرة أخرى كان القَبْقاب فيها سبباً في الهلاك والموت، وهو ما حدث لقاضي الحنفية بمصر برهان الدين إبراهيم الكركي (922هـ/ 1516م)، وكان يقف على بركة الفيل ليتوضأ وفي رجله قبقاب، فحدث هبوط في السلم فزلقت قدماه فوقع في البركة، وكانت ممتلئةً بمياه فيضان النيل، ولم ينتبه إليه أحد لينقذه، وعندما غاب وبحثوا عنه وجدوا عمامته طافية فوق الماء، وأحد قَبْقابيه على السُّلَّم، وتختلف رؤية القَبْقاب في المنام، فهي تدل على الزهد والتوبة، والطهارة والزواج للعَزَاب، أو تدل على الخصام، أو إظهار سِرّ لمن يريد كتمانه، ومَن رأى أنَّه يمشي في قَبْقاب زجاجيّ فإنه نَمَّام مُنافِق، ومَن رأى أنه يلبس قبقاباً جديداً فإنه يشتري غلاماً. وفي اليابان القبقاب يسمى غيتا باليابانية هو نوع من أنواع ألبسة القدم اليابانية التي تشبه إلى حد كبير القبقاب ،أو الصندل يصنع من الخشب يثبت في القدم بواسطة حبل قماشي يدخل بين إبهام القدم والأصبع المجاورة له. عادة ما يرتدى الغيتا مع الملابس التقليدية اليابانية مثل الكيمونو أو اليوكاتا وعلى الأغلب في فترات الصيف، أو أحيانا عند هطول المطر أو الثلوج حيث للغيتا ارتفاع أكبر من أنواع الأحذية الأخرى مثل الزوري ولهذا تأثير أكبر على حماية القدم من ماء المطر أو الثلج.
المصدر / مواقع التواصل الاجتماعي
للراغبين الأطلاع على الجزء السابق:
https://www.algardenia.com/mochtaratt/62033-2024-01-29-18-30-35.html
570 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع