سوق الهرج و تقاليده...!!
بقلم:خالد القشطيني
النشل من جيوب الناس و محفظاتهم من مظاهر الحياة الأجرامية في سائر المدن المزدحمة بالسكان في سائر انحاءالعالم . وهكذاى ترى هذه الللافتات علقة في كثير من هذه الاماكن كمحطات القطار و المطارات و المخازن الكبرى و المولات." احذر النشالين". تجدها في لندن و امريكا "بوير بكبوكتس".
لم تسلم شوارع بغداد و اسواقها من هذه الظاهرة..
من الاماكن التاريخية المعروفة في بغداد سوق الهرج، وهو ما يسمونه في منطقة الخليج بسوق الحراج. يعرف البغداديون سوق الهرج ، الكائن في منطقة الميدان، اكثر مما يعرفون مجلس الوزراء او امانة العاصمة او المجلس الوطني. فهو ملاذهم، يبيعون فيه ملابسهم واحذيتهم عندما يفلسون ويشترون منه لوازمهم عندما يغتنون.
وبما يترتب على ذلك من ازدحام، انتشرت فيه عمليات النشل و السرقات التي وصلت درجة عالية من الحذق والمهارة. وكان لهم رئيسهم الذي يعتد ويعتز بمهارته و يجله بأحترام كبير سائر اللصوص و من كنا نسميهم بقصاصي الجيوب. اطلقت عليهم هذه التسمية من قيامهم بهذه العملية الدقيقة و التي تحتاج الى خبرة كبيرة و تدريب مستمر، الا وهي قص جيوب المارة بالموس او الشفرة الحادة في الزحمة المكتضة بالجمهور ثم استخراج ما فيها من جزدان او نقود او وثائق. يعود الرجل لبيته فيجد جيب سترته مشقوقا و لا يجد شيئا مما اودعه فيه. تسأله زوجته فيقول ... اولاد الكلب قصوا جيبي، الله يلعنهم. و هكذا اضيفت هذه العبارة البليغة الى اللغة العربية في قائمة المهن و الاعمال الوطنية ، قص الجيوب و قصاص الجيوب.
حدث يوما ان خطر لمختار محلة الميدان ان يتحدى رئيس عصابة النشالين ، او كما قلت قصاصي الجيوب . قال له إن العيب عيب الجمهور المغفلين. فلو انهم راقبوا جيوبهم بحرص و انتباه لما استطاع النشالون من اصحابك الوصول الى جيوبهم و سرقتهم. وليثبت ذلك لرئيس النشالين وضع كمية من النقود في جيبه ودخل السوق يتمشى فيه لساعتين من الزمن ليرى ان كانوا سيستطيعون سرقتها منه.
ولكنه زيادة في الاحتياط ولئلا يفقد فلوسه فعلا، وضع في جيبه عدد من البيزات و البارات العثمانية الساقطة.
دخل السوق،سوق الهرج، وتجول فيه بين الباعة و الدلالين و المتفرجين، ثم خرج وفتش جيوبه فوجد كامل نقوده كما هي بالضبط. عاد الى رئيس النشالين في مقهى الميدان و قال له : أنظر، ها هي نقودي كاملة لم يستطع أي احد من جماعتك سرقتها.
رد عليه كبير النشالين قائلا:يا مغفل. لقد اخذوها من جيبك خمس مرات ووجدوها بارات ساقطة فأعادوها الى جيبك.
بالنظر للنجاح المذهل الذي تمتع به اؤلئك النشالون، كان لا بد للمسؤلين عن الأمن و النظام ان يشاركوهم فيه. هكذا اعتاد افراد الجندرمة في العهد العثماني على مقاسمة النشالين فيما يحصلون عليه.
حدث ان توفق احدهم بنشل محفظة احد زبائن السوق. راح صاحب المحفظة يصرخ ويستغيث، «يا ناس، امسكوه! حرامي! نشل جزداني وفيه عشرليرات. يا اولاد الحلال! يا من شاف جزدان فيه عشرليرات صاغ».
كان النشال خلال ذلك قد اختلى في زاوية من السوق وفتح المحفظة فلم يجد فيها غير ثلاث ليرات. اعادها الى المحفظة ثم تسلل راجعا وبحث عن الرجل صاحبها. حتى اذا وجده سلمه اياها وعيره قائلا: «يا رجل عيب عليك . حرام تكذب! هذا اثم الله راح يحاسبك عليه. تقول عشر ليرات وماكو بالجزدان غير ثلاث ليرات بس».
انصرف النشال لاستئناف عمله في نشل زبائن آخرين صادقين. ولكن شرطي الجندرمة الموكل بسوق الهرج، لاحظ ما جرى، فاقترب منه وقال:«اسمع هنا! انت مجنون! ليش رجعت الجزدان لصاحبه؟!
اجابه النشال قائلا: «يا حضرة العريف. هذا الرجل يقول عشر ليرات . والجزدان ليس فيه غير ثلاثة. في آخر النهار انت راح تحاسبني على عشرة وانا ما قابض غير ثلاثة. اكون خسران بهذي الشغلة. تريد مني حصتك بالنص خمس ليرات والجزدان ما كان فيه غير ثلاثة. ارجعه لصاحبه واخلص نفسي احسن».
والآن ما الذي حدا بي الى الدخول في موضوع النشل وقص الجيوب في سوق الهرج؟ انه ما اصبحت اسمعه باستمرار في هذه الآونة عن تفشي السرقات بين المسؤولين وغير المسؤولين. ما يفعلونه هو جزء من تراث سوق الهرج بكل ما ساد فيه من نشل ومزايدات ومناقصات ومساومات و محاصصات. سوق الهرج رمز للفساد الذي ينتاب الامم في مراحل اختلال النظام و القانون فيها.
و هكذا ترى الناس يرددون المثل فيقولون المسألة اصبحت سوق هرج. و راحوا يدللون على الوظيفة مثل ما يدللون في سوق الهرج.
567 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع