شوق الفن والأنسان لدى د. ليلى وجيه عبد الغني

 

كمال يلدو: شوق الفن والأنسان لدى  د. ليلى وجيه عبد الغني..

  

         

                

حينما تنظر اليها من بعيد، او تجالسها، فإن عالماً من الماضي الجميل يحضرك دائما، مصارعا عوامل الزمن في الاهمال والصدء وبُعد المسافات، فتعود تلك  (الشاشة الفضية) منتصبة أمامك، وتحضر الشخوص والوجوه والأسماء التي تعلقت بطفولتنا ولم تغادرها،  لابل انها لا تريد مغادرتها لأنها غالية وعزيزة وأصيلة.
أدعوكم لهذه الرحلة القصيرة مع د.ليلى وجيه عبد الغني، الفنانة المسرحية ومقدمة البرامج التلفزيونية في بغداد، والموظفة في الأدارة والخبيرة في حل المشاكل الأجتماعية، الزوجة والأم، عسى ان تروق لكم.

                

ولدت في مدينة بغداد وبالذات في بيت جدها الذي كان واقعا على شارع (ابي نؤاس)، متزوجة من السيد فاروق علي سـلّوم ولهما بنتان و ولدان وحفيدة واحدة.

       

درست الأبتدائية في (مدرسة الحكمة الأهلية) ، وأكملتها في (مدرسة السعدون النموذجية) ، بعدها في المتوسطة والأعدادية الشرقية للبنات في الكرادة.
وعلى العكس من توقعات الكثيرين، فقد دخلت كلية الآداب / قسم الأجتماع، عوضا عن اكاديمية الفنون، وتخرجت في العام ١٩٨٢.

    

ولأنها كانت من (العشرة الأوائل) على نطاق خريجي جامعة بغداد، فقد حصلت على بعثة دراسية في (جامعة ويسترن مشيكَان  بمدينة كالامازو/ ولاية مشيكان الأمريكية) لدراسة الماجستير، وفعلا حققت ذلك عام ١٩٨٥ وكان في حقل ( الأشراف الأجتماعي ـ Social Work)، ثم درست للحصول على شهادة الماجستير الثانية وأنجزتها عام ١٩٩٢ في حقل ( الأدارة التربوية ـ  Educational Leadership)، ولم تكتفي بذلك بل اكملت لاحقا رسالة الدكتوراه التي حصلت عليها عام ٢٠١٠ في حقل ( إدارة الحالة ـ Case Mangment) والأختصاص الأخير ساعدها بالحصول على مركز مرموق في شركة  ( Bluecross Blueshield ) للتأمين الصحي، على ان اهتمامها الأكبر في حقل العمل الأجتماعي مازال قائما، فبعد ان كان يمثل كل عملها سابقا، يحتل اليوم المرتبة الثانية، اذ انها تعمل (مشرفة اجتماعية ـ Social Worker) بصفة عمل جانبي ثاني في مستشفى (اووك وود) في مدينة ديربورن بضواحي مدينة ديترويت الكبرى.

  

ذاك البيت
تختزن في ذاكرتنا الكثير من (الدالات) اللواتي يبحن بعوالم المكان وأرتباطاته وتشعباته، ولطالما تحدثتُ للسيدة (د.ليلى) عن دالتها حينما كنا شبابا ويأخذنا عبير الكلام ونحن نقيس شارع الاحلام الجميلة، شارع أبي نؤاس لتنتهي بنا الجغرافية عند حدوده الملاصقة للكرادة داخل، ولكن ليس قبل ان نقطع ذلك البيت المركون في زاوية الشارع الذي يربط  أبي نؤاس بساحة الجندي المجهول، انه بيت (وجيه عبد الغني)...

  

هكذا  بشكل مباشر، حتى اصبح من كثرة شهرته ، دالةً لسواق التكسي وللعابرة، فمثلا تسمعهم يقولون :

( قبل بيت وجيه عبد الغني أو بعد بيت وجيه عبد الغني أو مقابل بيت وجيه عبد الغني وهكذا).. فأردت أن أعرف منها عن ســّر هذا البيت فقالت:

  

إنكَ تقّلب واحدة من اجمل صفحات حياتي حينما تتحدث عن هذا البيت، فهذا بالأصل كان بيت جدي الذي ولدت فيه، وهو بيتنا بعد ذلك، وفيه كانت الحياة مثل "كورة الزنابير" مليئة بالحركة والحيوية، فقد كان مفتوحا لكل الوسط الفني في عقد الستينات على الأقل، وفيه كان الكل عندي (عمـّو)، وسريعا يمر شريط الوجوه العزيزة ومنها الفنانين والأدباء..

 

حقي الشبلي، أسعد عبد الرزاق، عزيز شلال، قائد النعماني، سمير القاضي، راسم الجميلي وحسام الجلبي الذي كتب المقدمة الموسيقية لفرقة ١٤ تموز المسرحية.
نعم فيه تفتحت كل تلك الأحلام والأيام الجميلة التي افتقدها كثيرا الآن، لقد كان (بنظري) الرديف للتلفزيون، حيث يلتقي الكل ويتحدث ويتمرن ويقدم ويمثل ويغني ويحلم.

   

وماذاعن البداية
تقول : ربما لأني كنت بينهم دائما، فيبدو اني كنت في مرمى بصرهم في حالة حاجتهم للطفلة في اي دراما او مسرحية، وهكذا كانت. فقد اشتركت في أول تمثيلية تلفزيونية ولم يكن عمري قد تجاوز الأربعة سنوات، مع الأساتذة العمالقة  سليم البصري (حجي راضي)، حمودي الحارثي، عمانؤيل رسام و روميو يوسف) وكانت كل التمثيليات،  وعموم البث آنذاك مباشرا.  ويبدو بعد (نجاحي على ما اعتقد)  فقد اختاروني معهم في مسلسل (ألف ليلة وليلة) الذي كان يعرض اسبوعيا في ليلة كل يوم جمعة، حينها كانت فرقة ١٤ تموز التي يعمل بها والدي، وجيه عبد الغني، هي الفرقة المفضلة لدى مؤسسة الأذاعة والتلفزيون، ولعلي هنا وأنا أستعرض تلك الاحداث والأيام اتذكر وجوها جميلة ورائعة طبعت احلى الذكريات في مخيلتي:

  

مائدة نزهت، ناظم الغزالي، سليمة باشا مراد  وآخرين غيرهم، يطبعون قبلاتهم على خدودي الطرية او جبهتي الفتية، انها ايام وأسماء وذكريات لا تنسى!
وأذكر في تلك الفترة أني أشتركت في الكثير من المسلسلات ومنها: "رمضانيات" و  "مع الخالدين"  وتقاسمت دور البطولة في  "عيش وشوف"  لكن من الطريف أن اذكر حادثة مرّت عليّ حينما كنّا نمثل حلقات ( تمثيلية يتيمة) وكان على أبي الراحل وجيه عبد الغني، وضمن أحد المشاهد أن يصفعني على وجهي ـ يضربني بعجل ـ وقد كان من القوة أن  أدى ذلك الى ارتباكي ونسياني لدوري والحوار المفروض أن اؤديه! فما كان من باقي الممثلين، وأثناء البث الذي كان مباشرا، الا ان يبتدعوا طريقة لأخراجي من المشهد من اجل انقاذ المسلسل،

  

لكن القضية لم تنته عند ذلك، بل كانت حينما انتهى التمثيل والتصوير، فأنبرى المرحوم الفنان نوري الراوي الذي كان حاضرا وقال لوالدي ـ مازحا ـ عبارته الشهيرة: (( هذا الخـّـد ما ينضرب، هذا الخد ينباس!)) ، الرحمة على روحيهما الطاهرة الطيبة.

   


ليلى في التلفزيون
ربما تكون د.ليلى قد عرفت لدى البعض في ادوارها بالتمثيليات التلفزيونية وفرقة (١٤ تموز) المسرحية ، لكنها كانت ايضا تمثل أهم محطات الأنتظار عند الأطفال (طبعا بعد افلام الكارتون) عبر برنامج الأطفال، فماذا كانت قصته، تقول ست ليلى:يبدو ان تكرار مجيئي لبناية التلفزيون، وكونه كان حديث العهد ايضا، قد اوجد فكرة مشاركتي في برنامج للأطفال، إذ كانت السيدة (راحيل ثابت) تعد برنامج الأطفال الذي اشتركت فيه سوية مع الأستاذ جاسم الصافي، حيث كنّا نقدم قصة قصيرة  وفلم للأطفال وبعض التجارب العلمية، وأفكارا متجددة كثيرة، وكان يقال لي بأنه من انجح البرامج، وبعد فترة وجيزة تركني الأستاذ (جاسم الصافي) فأصبحت أقدمه لوحدي، هذا اضافة الى برنامج (تحية المساء)، حتى اني مازلت اتذكر حادثة جرت في احد الأيام حينما بلغنا السيد (محمد سعيد الصحاف) بأن رئيس الجمهورية أحمد حسن البكر قد عبّر عن اعجابه بالبرنامج وطلب اضافة بعض الشخصيات التأريخية له.  ومع تقدمي بالدراسة، صار الحمل ثقيلا عليّ، وكانت والدتي تنصحني بتخفيف هذا الحمل، فأنقطعت عن التمثيل (نوعا ما) وتفرغت للدراسة اثناء المتوسطة والثانوية، وصادف حينما كنت في كلية الآداب أن طلب مني السيد  ـ عبد الحميد السامرائي ـ ان اقدم برنامج (تحية المساء) مجددا  ولمدة محددة، وفعلا قمت بتسجيل ( ١٠ ) حلقات منه قبيل سفري للدراسة عام ١٩٨٢.

التلفزيون والمدنية
توجهت بالسؤال للست "ليلى" عن وجهة نظرها بالتلفزيون والأذاعة ومجمل الحركة الفنية آنذاك فقالت:

  ربما لو قلت للقارئ بأن تجربتي الحياتية قد اغنت تصوراتي وآرائي كثيرا مع الوقت، ففي هذه الأيام، وعندما أقف متأملة تلك الحقبة الزمنية، والحركة والنشاط الدؤوبان اللذان كانا يتسابقان في حياتنا، أعي جيدا أهمية الثقافة والفنون والأداب ، لتهذيب الذوق العام وتطويره ورفعه نحو أرقى المديات الأنسانية. نعم، كان التلفزيون وكل وسائل الأعلام والمكتبات والمدارس والمسارح والسينمات والأذاعة والصحف والمجلات والجمعيات والنوادي والحلقات الفكرية، كلها أدوات أخذت بالأنسان العراقي من مكان الى آخر، أرقى وأرفع وفتحت الأفق كبيرا لبناء المجتمع المدني المأخوذ بتعدد الأفكار والثقافات، لكن للأسف الشديد فأن أخطاء الحكام ومواقفهم المغالية في الأنتقام من الخصوم قد أدت الى ما أدت من حروب وكوارث، وها نحن نعيش أسوء كارثة ثقافية وحضارية حلت على العراق . انظر الى المسرح والسينما والثقافة والغناء والموسيقى، انظر الى فنانينا الكبار وعمالقة التلفزيون أين صار مصيرهم، انها الكارثة بأمتياز.

بين الكاميرا وعلم الأجتماع
لقد كان دخولك لكلية الآداب مفاجئاً للكثيرين حيث كانوا يتوقعون توجهك لأكاديمة الفنون لأكمال مشوارك الفني، فما الذي جرى ، تقول السيدة ليلى:

لم يكن القرار سهلا ، فمع اني نشأت وترعرعت في بيت ملئ بالفن والفنانين، وحصلت على كل اشكال الدعم، لكن هاجسا ما في داخلي كان يهمس بي: (ماذا لو فشلت في الفن؟) وبالحقيقة أخترت حقلا كان ومايزال واحدا من (القرارات) الصائبة بالنسبة لي، حيث اني أجسد نفسي وشخصيتي وأنسانيتي فيه ومن خلاله،ومع تقديري للفن، فها انت ترى ما جرى للبلد والفن والفنانين ، وما هو مصيرهم، وأين الدولة أو الوزارة التي ترعاهم!
فسألتها ان توضح ذلك  للقارئ  فقالت:

لقد مضى على ممارستي لهذا العمل كخبيرة في علم النفس والأجتماع اكثر من( ٢٥ )عاما، ومرّت عليّ حالات وأشخاص كثر، وأحسـب اني سعيدة  نظرا لنجاح  الكثير من الحالات. فهذا الحقل فيه تفاعل مباشر مع الأنسان، فهو يعالج حالات (الأدمان على الكحول والمخدرات)، ولك ان تتخيل حجم فرحتي حينما اتمكن من انقاذ الأنسان من براثن هذا المرض وأعيده الى المجتمع انسانا منتجا متعافيا،  لقد جرى ذلك عندما كنت أعمل في مستشفى الأمراض النفسية، اما في الوقت الراهن فقد انتقلت وبذات الحقل الى (غرفة الطوارئ ـ Room Emergency)، حيث اتعامل مع الأشخاص لعلاجهم من آثار المخدرات والكحول، وقد اكون مأخوذة  بهاجس يقول لي بأستمرار:  إن هناك أُناس ينحرفون عن هدفهم، وهم بحاجة الى أحد يدلهم الى الطريق السليم!
اما عملي الرئيسي الآن فهو في مجال البرمجة والذي حصلت على شهادة الدكتوراه به، وأنا سعيدة ايضا للعمل بين الأرقام والجداول الكثيرة.

التواصل مع ناسي وأهلي
بعد رحلة التعارف تلك، والوقوف امام كل الألتزامات المهنية والعائلية كيف تتواصل د.ليلى مع  وسطها الفني وعلاقاتها بالناس فقالت:

انه السحر بعينه! بالحقيقة هذا الأمر لا يخلو من الأشكالات، لكني اعمل المستحيل للموازنة في ذلك وللأمانة أقول لكل أحبتي الغاليين (اعذروني إن كنت مقصرّة معكم!).  بين العمل والعائلة أحاول قدر الأمكان المشاركة في بعض الفعاليات الثقافية والمعرفية ، ومؤخرا شاركت بالكثير من نشاطات (منتدي الرافدين للثقافة والفنون)في ولاية مشيكَان، وقدمت أكثر من مساهمة، وقد فتح ذلك لي  بابا  لأعادة التواصل مع أحبة غالين من ابناء الفنانين  الكبار ومنهم (د.علاء يحى فايق و الفنان رائد نوري الراوي) ومخرجين وممثلين وفنانين كثر.

            

اما عبر شبكات التواصل الأجتماعي والهاتف والأيميل فمازلت على تواصل مع الأساتذة  قاسم الملاك و حمودي الحارثي ومع بنات الراحل أسعد عبد الرزاق.  وبالعموم أشعر بالفرح حينما التقي بأبناء وبنات الجالية العزيزة وخاصة في النشاطات، وتغمرني الفرحة في حجم المحبة التي يمنحوني اياها، وأعدهم بأن اكون أهلا لها.
وماذا عن العائلة، تقول الست ليلى:

أحاول قدر الأمكان أن اجد بعض الوقت لمتابعة هواياتي الشخصية ومنها قرأة الشعر (العربي والأمريكي)، متابعة الأخبار السياسية وأخبار العراق،على اني أقرأ قليلا في المسرح بعد ان كانت معظمها به. مع زوجي (فاروق) اتحدث بأمور السياسة، فنتفق على الكثير ونختلف على القليل!  اما بالنسبة للأبناء، فأني سعيدة بهم بالدرجة الأولى، وسعيدة أكثر بما وصلوا اليه من مستوى علمي احسبه مفخرة: ابني (علي)  يبدو انه الوحيد الذي ورث (جينات الفن) حيث تحول من دراسة القانون الى الأخراج والتصوير، ابني (عمّار)  حصل على شهادة الماجستير في البايولوجي،  ابنتي(عُلا)  تعمل طبيبة مقيمة في مستشفى هنري فورد بديترويت،  وإبنتي (تمارا)  انهت الدراسة الأولية وتتهيأ الآن لدراسة القانون.

وماذا تتمنين للعراق
في الحديث مع د. ليلى وجيه عبد الغني، كان الغائب الحاضر، والضمير غير المستتر ، والضيف الذي صرنا نتحدث عنه طوال الوقت هو العراق، فماذا تقولين عنه اليوم:  ها انك تجرني مرة أخرى لعالم الجمال والأحلام اللامتناهي مع العراق، وبالحقيقة، ترك العراق صورته الجميلة عندي ليس عندما غادرته للدراسة فقط ، ولكن منذ طفولتي وعملي في التلفزيون، تلك الناس والصور التي عاكسها الزمن والحكومات الجائرة والحروب والحصار ، وجاءت اليوم عقليات المحاصصة الطائفية وحرب داعش لتقضي على احلام الأطفال التي انتظرناها طويلا. ماذا اتمنى لوطني، هو ما اتمناه لنفسي، أو لعائلتي أو لأطفالي: الأمن والأمان والتقدم والرفاهية، وأن يقدموا ما بوسعهم لأسعاد الطفولة ورعايتها، ورعاية الأمهات والنساء من العنف وألألم والغبن، وأن يرعوا الفن والفنانين والأدباء والمثقفين، اولئك الذين يمثلون جواهر العراق الوضائة،و أن يعود العراق أجمل مما كان.
ولي يقين بأن ابنائه وبناته المخلصين قادرون على ذلك.

كمال يلدو
كانون ثان ٢٠١٥



  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1023 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع