من العنف إلى الإرهاب إلى الجريمة!

                                          

                          د. علي محمد فخرو     
    
ما عاد العنف ظاهرة في أرض العرب كلها، وانما أصبح ثقافة تتعمق وتتجذر في العقول والنفوس لتطرد ثقافات التسامح والتراحم والحوار المرن ولتحل محلها ثقافات التعصب والعدوانية والكراهية والاقصاء والاجتثاث.

وهي ثقافة ان سُمح لها ان تبقى معنا لمدة طويلة فانها ستحيل السياسة والثقافة في مجتمعات العرب الى عوالم بدائية متخلفة والى يباب فكري مظلم.
وفي جوهرها هي استمرار لثقافة العنف السياسي في المجتمع العربي الذي كتب عنها الكثير منذ ثمانينيات القرن الماضي. وفي حينها وضع اللوم على الأزمات الاقتصادية والظروف الاجتماعية كمهيئ لمناخ ملائم لتواجد ونمو العنف السياسي، مع الاضافة ان البيئة السياسية والثقافية العربية نفسها فيها خصائص تشجع وتدفع نحو اللجوء الى استعمال العنف السياسي سواء من قبل السلطة أو من قبل بعض الجماعات في المجتمع. من بين أهم تلك الخصائص تمركز السلطة السياسية والمالية والادارية والرمزية في يدي فرد أو بضعة أفراد، وبالتالي غياب المتنفسات والوسائل الديموقراطية المعروفة التي يمكن ان يلجأ اليها المواطنون عند خلافهم أو صراعهم مع سلطة الحكم.
وفي الثقافة تركز اللوم على البيئة الفكرية التي فشلت في التعامل مع الواقع العربي بدلا من الانغماس في المماحكات الايديولوجية المستوردة من هنا أو هناك. وكان نتيجة لذلك ان تهمش المثقفون العرب وأن استعملت سلطات الاستبداد بعضا منهم لتبرير هيمنتها ونواقصها واخفاقاتها.
وكان من بين أهم ما اشير اليه كأحد الحاضنين للعنف السياسي، وعلى الأخص المادي منه، هو الفهم المتخلف والخاطئ للاسلام، وعلى الأخص الجزء المتعلق بموضوع الجهاد. وبالطبع تبين ان العنف السياسي المستند الى تأويلات وقراءات خاطئة للنصوص الاسلامية ليس الا امتدادا تاريخيا لعنف سياسي وصل الى أعلى قممه في أفكار وأفعال حركات عنفية كحركة الخوارج على سبيل المثال، ثم تعايش بأشكال مختلفة في بلاطات الخلفاء والسلاطين، ترعاه وتبرره اجتهادات أعداد هائلة من فقهاء السلاطين وتلامذتهم، وكان موجها ضد كل مطالب بالحق والعدل والانصاف واسكات كل معارض لاستبداد وسفاهات الكثيرين من الخلفاء وحاشيتهم.
وكالعادات المكتسبة فان ثقافة العنف قابلة للانتشار السريع وللتخفي وراء ألف قناع وقناع، لتطل برأسها دوريا عبر العقود والقرون، وللجهوزية والقابلية للاستعمال من قبل المستبدين المغامرين أو الانتهازيين من السياسيين أو الحمقى في كل مؤسسات المجتمع.
ذلك العنف السياسي الممتد في التاريخ والموجود في الماضي القريب، منذ السبعينيات على الأخص، في المشهد السياسي العربي كان محدودا وفي مستويات تدميرية كان باستطاعة المجتمعات العربية امتصاص آثارها السلبية وتجاوزها. وكان شجب ممارسات ذلك العنف من قبل رجالات الفكر وقيادات الفقه، وتعامل سلطات الأمن مع القائمين عليها بالحزم، كانا كافيين لمحاصرة الظاهرة.
لكن ذلك المشهد تغير بصورة جذرية في السنوات القليلة الأخيرة، فانتقل من عنف سياسي، على مستوى السياسة والاقتصاد والاعلام والاجتماع، تمارسه الكثير من سلطات الدول العربية وتقابله وترد عليه بعض الجماعات في بعض المجتمعات العربية... انتقل الى مستويات الارهاب، ليصل اليوم الى مستويات الجريمة.
تدريجيا لبس العنف السياسي أثواب الارهاب، ليلبس اليوم اثواب الجريمة، بكل ما تمثله من بشاعات دموية مجنونة انتحارية عبثية لا تستثني طفلا ولا امرأة ولا شيخا طاعنا في السن، ولا ترعى حرمة لمسجد أو مدرسة أو مستشفى، ولا تنتبه لقيم الشعار الأساسي الذي ترفعه، أي شعار الاسلام.
يصدق ذلك الوصف على ما تفعله الكثير من سلطات الأمن العربية، كما يصدق على ما تفعله قائمة طويلة من أسماء حركات جهادية تكفيرية عنفية تتوالد يوميا بأعداد وصور مذهلة.
نحن اذن أمام تطور نحو فاجعة كبرى تطرح السؤال الآتي: ما العمل؟ ما عادت كتابات المحللين الناقدين، ولا أقوال مؤسسات الدين الشاجبة بتردد، ولا ثرثرات الاعلام اللاعنة بصورة كرتونية مضحكة، ولا عنتريات سلطات الأمن المتوعدة.. ما عاد كل ذلك كافيا، وجميع تلك الجهات مضافا اليها جهات الجشع والفساد والأنانية والاستئثار بالسلطة والجاه والثروة، جميعها هيأت البيئة والظروف وكل انواع الحصار لادخال المجتمعات العربية في الجحيم الذي يعيشه الجميع ويهدد، بصورة لم يعرفها تاريخ العرب قط، بانهاء وجود هذه الأمة كجزء له ولو حتى ذرة من القيمة في المسيرة الانسانية المستقبلية.
لقد قالها الكثيرون من قبل، ويقولها البعض الآن، بأنه ما لم تنشأ كتلة تاريخية جماهيرية منظمة، على المستويين الوطني والقومي العروبي، وبتنسيق تام مع المستويين الشعبيين الاسلامي والعالمي، حاملة لمشروع نهضوي واضح وشامل وقادر على الدفع الثوري السلمي المنظم لاصلاح الدولة والمجتمع ولايقاف الاستباحة الخارجية المعيبة للوطن العربي كله، ما لم يحدث ذلك في الحال فان الربيع العربي سيخطفه المجانين، وبعضا من الدول العربية سيختفي، والدين الاسلامي سيصبح من هوامش الوجود الحضاري المستقبلي، وسيعلن عن قيام الخلافة الصهيونية في أرض العرب كلها. المطلوب هو خلق النواة وستتكفل الشعوب العربية بالباقي.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

578 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع