سيدي القاضي

                                                 

                                  ثريا الشهري

تقدمت المحامية لتترافع عن موكلتها في المحكمة العامة بالرياض، فطردها القاضي من الجلسة مطالباً بحضور محرمها معها، فأخرجت له بطاقتها الصادرة من وزارة العدل، وهي مصدرة من قضاة آخرين زملاء له في الفقه الشرعي والقانوني،

ولكن القاضي أفهمها أنه ليس ملزماً بالتجاوز عن حضورها من غير محرمها حتى بموافقة القضاة الآخرين. ولن أتحدث اليوم عن الملابسات الشرعية أو التكييف القانوني لتصرّف قاض وتعديه بقراره على وزارة العدل، وإنما سأخاطب الإنسان في الرجل... أي رجل! وسأبدأ حديثي بالتوقير لمكانته وأدعوه بـ «سيدي القاضي»، وكأني أدافع عن قضيتي كامرأة أمامه!

سيدي القاضي، دعني أعرِّفك بنفسي. فأنا المرأة التي تضخّمت ذاتك بالكبر في معاملتها ظناً منك بضعفها، ولكن هذا هو اعتقادك الذي صدقّته ومن معك، أمّا أنا ومعي الدراسات البيولوجية - وأنت من استشهدت قبلي بها - فأقول أننا الجنس الأقوى ولكن الأكثر حساسية، وهنا حصل الالتباس، فلا بأس، ولتسمح لي بتوضيح بعض الحقائق التي تحمل معها الإثبات على صلابة عودنا. فالنساء يا سيدي القاضي يعشن أكثر من الرجل بخمسة أعوام على أقل تقدير، وهذه ليست بأمانيّ كامرأة، ولكنه بتحقيق المعدّل العام بين عمر المرأة وعمر الرجل بالعموم. أطال الله في أعمار رجالنا حتى تتساوى مع أعمار نسائنا، ذلك أن أرقام الصحة العالمية المثبتة عن جنس أمنا حواء تشير إلى أن جنس أبينا آدم معرض للأمراض أضعاف ما يصيب منها النساء، وهذا في ما يخص الأمراض العضوية طبعاً، أمّا ما تعلق شأنه بالعلل النفسية فهذه أيضاً ليست في مصلحة الرجل، بدليل أن عدد الرجال الذين ينتحرون في تضاعف مستمر عن عدد النساء اللاتي يقدمن على الحماقة نفسها بالتخلص من الحياة.

سيدي القاضي، سأفترض أن ما سبق وذكرته للتو لم يحز على اقتناعك الذي هو عادة صعب المنال حين يتعلق بالموافقة على شيء تتفوه به امرأة، لذلك لن أطيل في سرد نتائج الدراسات، وسأنتقل منها إلى مخاطبة العقل على اعتبار ما تواتر إلينا من إعلاء الرجل لقيمة المنطق، وعليه فمن المنطق أن تكون المرأة أقوى في تحمّل الألم مدة أطول من الرجل.. لماذا؟ لأن المرأة هي من ينمو في رحمها الكائن الحي تسعة أشهر، وربما يكون أكثر من كائن في ذات الحمل، ولأن الرجل بتكوينه الفسيولوجي الذكوري لن ينعم بهذه التجربة وهذا التشريف الرباني بحمل معجزة الله في الخلق، فلا أقلها من أن يتأمل في عظمة التكوين الإلهي لتركيبة المرأة التي تتيح لها أن تتحمل آلام المخاض والولادة لينزل من أحشائها الكائن الذي يقدّر أن يكون ذكراً، فتنمو عضلات هذا الذكر ويتناسى أن في مقابلها قوة من نوع مختلف عن تلك التي تصنعها العضلات. إنها القوة التي تجعلنا نحن النساء أقدر على مقاومة الألم، هذه القوة بعينها تفوق قوة العضلات بمراحل وأشواط، لذلك فهي قادرة على الحياة أكثر، لأنها مفطورة على العطاء حتى في وجود المعاناة الشديدة. ولتسأل في ذلك أمهات العالم.

سيدي القاضي، اسقط من قاموسك كلمة الضعف وأنت تتعامل معي، فما تعتبره ضعفاً هو فيض من مشاعر إنسانية ووجدانية صنفتّه الأنا الخاصة بك على أنه نقص، ومنذ أزمان وأنت تزرع هذا الوهم في عقل أنثى محيطك حتى استقر في اللاوعي الجمعي على أنه واقع. وحدها المرأة تعرف طبيعتها التي لا تُهزم، ولكنها تتظاهر أمامك بلعب الدمية التي اخترعتها أنت، ومن تنطلي عليها الكذبة وتعتقد بضعفها، فعندها تتساوى مع الرجل في نزقه وجزافه، وفي مرضه وانتحاره وهشاشة احتوائه للألم، فما أعظم اجتماع النقيضين في المرأة! كتلة من الأحاسيس المرهفة مع شدة وتجلّد من ذات المنبع.

سيدي القاضي، هل تعلم أنه كلما تواصلت مع جزئك الأنثوي بداخلك - وهو فطري - كلما تمكّن منك الحنان والعطف وأزاح من قلبك الصلف والغلظة؟ وكلما تواصلت الأنثى مع جزئها الذكوري بداخلها، كلما تخلت عن رقة القلب وطلاوة اللسان؟ فلا تفخّم لك الأنا مزايا ذكوريتك، فلولا هذا الغرور لما سال الدم بحوراً وأنهاراً، لذلك ليس كل ذكر رجلاً وإن خرج من رحم امرأة، ولكن كل رجل ذكرٌ بطبيعة الحال والمآل. الرجل الذي أثمر فيه رحم أمه ورحيقها.

أخيراً سيدي القاضي، هل يملك الإنسان أن يرى كامل المحيط؟ ولكنه حتماً يستطيع أن يلحظ موجة، ومن الموجات يفترض بعقله وجود ما هو أكبر وأعظم مما ورائها، فالمحيط لا يرى بالعين المجرّدة القاصرة، وإنما يعقل بالمنطق والتصور. فإن رأيت دموعي تتساقط أمامك، فالدمعة الصغيرة هي بعينها طريقة تعبير الكبير عن ذاته، فانظر بعمق وسترى المحيط الهائل خلف أرق امرأة تواجهك ولو بصمتها وعبراتها.

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

947 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع