قاسم محمد داود
هل يتكرر مصير مملكة القدس في دولة إسرائيل؟
منذ نشأتها عام 1948، شغلت دولة إسرائيل الوعي العربي والإسلامي، لا بوصفها كيانًا سياسيًا فحسب، بل كمشروع استيطاني غربي في قلب المشرق العربي. هذا المشروع يعيد إلى الأذهان تجارب تاريخية مشابهة، أبرزها مملكة القدس اللاتينية وبقية الإمارات الصليبية التي أسسها الفرنجة في بلاد الشام خلال القرنين الحادي عشر والثاني، استمرت منذ عام 1098 حتى عام 1291. هذه الكيانات السياسية الإقطاعية أنشأها القادة الكاثوليك اللاتينيين في الحملة الصليبية الأولى من خلال الغزو والتآمر السياسي. تضمنت هذه الدول الأربعة كونتية الرها (1098-1150) وإمارة أنطاكية (1098-1268) وكونتية طرابلس (1102-1289) ومملكة بيت المقدس (1099–1291). غطت مملكة بيت المقدس كل فلسطين. وغطت الولايات الشمالية الأخرى ما يعرف الآن بسوريا وجنوب شرق تركيا ولبنان. قد يكون وصف «الدول الصليبية» مضللًا، إذ أنه اعتبارًا من عام 1130 كان عدد قليل جدًا من سكان الفرنجة من الصليبيين.. فهل يمكن القول إن مصير إسرائيل قد يكون شبيهًا بمصير تلك الكيانات التي زالت تحت ضربات مقاومة محلية قوية ورفض شعبي واسع؟
أوجه الشبه التاريخي:
قامت الممالك الصليبية على أساس ديني-استيطاني، بدعم مباشر من أوروبا، وكانت معزولة عن محيطها الثقافي والديموغرافي، تمامًا كما وُلدت إسرائيل بفعل مشروع صهيوني غربي، مدعوم من قوى عظمى كإنجلترا سابقًا، والولايات المتحدة حاليًا. وكلا الكيانين نشأ عبر هجرات واسعة واستيطان أجنبي في أرض قائمة بالفعل، مما أدى إلى تهجير السكان الأصليين. وكما اعتمد الصليبيون على حصونهم ودعم ملوك أوروبا، تعتمد إسرائيل اليوم على قوتها العسكرية الفائقة والتحالف الاستراتيجي مع واشنطن.
تشابه آخر يتمثل في أن كليهما وُجدا في بيئة معادية ترى وجودهما طارئًا ومرفوضًا. يواجه كلا الكيانين صراعًا أساسيًا على الأرض والهوية مع السكان الأصليين، مما يؤدي إلى صراع مستمر، وكلاهما يواجهان تحديات وصراعات مع المحيط الإقليمي الذي يعتبر وجودهما تهديدًا. لم تستطع الممالك الصليبية أن تندمج أو تتجذر، وكذلك فإن إسرائيل، رغم ما حققته من تطبيع مع بعض الأنظمة، لا تزال مرفوضة شعبيًا في الشارع العربي، وتعيش في ظل صراع مفتوح مع الشعب الفلسطيني الذي لم يستسلم رغم مرور أكثر من سبعة عقود.
ورغم هذا التشابه، إلا أن إسرائيل تختلف من حيث القدرات العسكرية والتكنولوجية، واندماجها العميق في النظام الرأسمالي العالمي. فهي قوة نووية، تسيطر على أدوات متقدمة في الاقتصاد، والذكاء الاصطناعي، والإعلام العالمي، وهذا ما لم تمتلكه الإمارات الصليبية يومًا. كما أن تفكك العالم العربي، وانشغال الشعوب بقضايا داخلية، يجعل من مهمة "الإزالة" التاريخية أكثر تعقيدًا، على الأقل في المدى القريب.
لكن التأريخ يعلمنا أن الكيانات المصطنعة التي تُفرض بالقوة، وإن طال أمدها، تظل في حالة دفاع دائم، وتظل عرضة لانقلابات في موازين القوى. ما سقط يومًا في حطين، قد يسقط بشكل جديد في معركة أخرى، في زمن آخر.
مصير إسرائيل ليس محكومًا بالتاريخ وحده، بل بتفاعل معقد بين عوامل داخلية وإقليمية ودولية. ما زالت فكرة زوالها التاريخي قائمة في الوعي الجمعي العربي، لكنها لن تتحقق إلا إذا خرج من هذه الأمة مشروع نهضوي حقيقي يعيد رسم التوازن في المنطقة. وإلى ذلك الحين، تبقى إسرائيل، مثل مملكة القدس قبلها، تعيش في حصن محاطٍ بالرفض، محميةً بقوى خارجية، وتنتظر حكم التاريخ.
876 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع